(فيلم هالا محمد الوثائقي)

أحمد عمر
(دمشق)

هالا محمد أدب السجون أدب جديد على المكتبة العربية، دخل إليها في النصف الثاني من القرن الفائت، بعد الاستقلالات العربية من الاستعمار الحديث. وإذا كانت الأفلام الدرامية الروائية قد قاربته في بضعة أفلام متفرقة ("إحنا بتوع الأتوبيس"، "أهل القمة"، "القلعة الخامسة"...) فإنه لا يزال جديداً على الأفلام الوثائقية، ولا يخلو أدب سجين من قسوة وعنف وتعذيب سوى ما كتبه المفكر الإسلامي سيد قطب. لكنّ كتابه "معالم في الطريق" سيكون قفيراً "للصخب والعنف" فيما بعد..

تختلف أفلام هالا محمد عن أفلام زملائها مخرجي أفلام أدب السجون العربية (مصرية، مغربية، أردنية) في أمور عدة: أولها أنها توسع الشهادات الوثائقية في كل فيلم إلى ثلاث شهادات (ربما لأن الرقم ثلاثة مقدس، أو تأسيا بألكسندر دوماس الكبير) لتقديم مروحة من الآراء فيما اكتفت أفلام السجون العربية الزميلة بشهادة واحدة (سعيد كفرواي، ادريس بويسف الركاب، هاشم غرايبة، سعود قبيلات)، الأمر الثاني أنها تشحن فيلمها بجرعات وجدانية كبيرة وتبتعد ما استطاعت عن استعرض أنواع التعذيب الجسدي، الموجود سلفا في الخلفية، لتخفيف قسوة الذكريات... وربما يعود الأمر إلى كونها شاعرة، وأنثى، ابتداء. الأمر الثالث، هي أنها تقتحم محظوراً سورياً. فسجون المغرب ومصر والأردن اعتبرت مراحل سابقة، في حين أن الماضي لا يزال مجيدا وخطا احمر في بلدها، اللهم سوى الإشارة إلى "أخطاء" دون تسميتها. الفيلم يكسر الصمت، ويقدم خدمة للسلطات بتشجيعها على مواجهة ماضيها لمداواته ونسيانه. فلا يكفي إغلاق تدمر لإنهاء آلامه، لابد من فتحه وفصد جرحه (ليصير عبرة لمن اعتبر) ويتحول من متحف للألم إلى تعويذة تأليم.

في الجزء الثاني من أدب السجون والذي عنونته بـ"رحلة إلى الذاكرة" تستعرض ثلاث شهادات، لأدباء وكتاب سوريين هم: ياسين الحاج صالح والشاعر فرج بيرقدار والكاتب والمخرج المسرحي غسان الجباعي...

تماثل المخرجة بصريا بين رحلة الزمن إلى الذاكرة البعيدة والسفر المكاني إلى سجن تدمر، وهي وسيلة أسلوبية معروفة في السرد الأدبي والسينمائي، وتستنطق ضيوف كاميرتها، بجمعهم في عربة ذكريات ذاهبة باتجاه الماضي، غير الميت، فيتبادلون لعبة الكراسي غير الموسيقية وسرد الحكايات ورد الأعجاز على الصدور.

تقسم هالا محمد كل "جملة بصرية" من رحلة الذاكرة إلى كيلومترات مسافية، تعمل فيها شاخصات المسافات على الطريق مثل فواصل اللغة وعلامات الترقيم. يحفل الفيلم بالطباقات والجناسات الكلامية مثل مقابلة بين الشاخصات المعبرة عن المكان وبين الأعداد. العدد أكثر العناصر حضوراً في الفيلم: مواليد الأدباء، سنوات سجنهم، المساحة المتاحة الضيقة في السجن (وهي 40 سم مربعاً لرجل طوله خمسة أضعاف ما هو مرسوم له واقعياً) هذا إذا ضربنا صفحاً عن طول قامتهم المعنوية.. طباق بين صحراء تدمر وخوابي الذكريات. العدد حاضر بقوة في الفيلم وتحت سطوره (نحن في الألفية الثالثة) وغائب في الحكم العرفي الطويل اللانهائي والذي يحرم السجين من انتظار الحرية، والتي ستصير مرعبة بسبب طول البعاد، كما أشار الحاج صالح!!
يشير الحاج صالح بمرارة إلى طباق عراقة هذا المكان وجلاله، وارتباطه بأبشع ذكرى... محل العظمة صار مكانا للعار. اسم تدمر والذي يمكن أن يكون قد جاء من مفردة "تتمر" الآرامية أو "تثمر" العربية أو ربما من حسناء اسمها تامارا، كما يشير فاضل الربيعي في كتابه "أبطال بلا تاريخ". من العجيب أن يوحي الاسم الذي جاء من النبات والخضرة والثمر والجمال ليوحي بالدمار كما يوحي السياق، أو توحي الآثار في زمن الفيلم.

في فيلمها الأول تحدث صاحبا السجن على مائدة طعام، لكن الحديث كان موجهاً إلى الكاميرا، لكنهما في الفيلم الثاني تحاورا، أحدهما مع الآخر، وهو أجمل فنيا، ففاتت على المشاهد مفردات من عالم السجن مثل "التعليم" فللسجن مفرداته ولغته.

كما يختلف الجزء الثاني عن الأول في أن الأول جرى تصويره في أماكن مغلقة، وان الثاني اتسم باتساع مكانه ولقطات "الزووم آوت" التي تجعل المشاهد يتنفس الصعداء وهو يسمع ذكريات قاسية.

كان لكل أديب بلاغته التي تناسب جنسه الأدبي: ياسين الحاج صالح في تشخيص الخوف، والأسر، وتسديد المعاني، أو المصطلحات لنفسه ولزميليه أحياناً. وغسان الجباعي وتعبيراته عن العائلة والأبوة والشوق والكرامة و الأنثى (أكثر الاعترافات شجنا هو تعلقه ست سنوات بشعرة زوجته التي وجدها في كتاب "أجمل رجل غريق في العالم"، فتمسك بالشعرة كما تمسك أجمل رجل غريق بالقشة (وبيرقدار في تعبيرات الحرية إلى درجة استعذاب انكر الأصوات "صوت الحمار" كموسيقا في السجن المقيت. واتفق (الشهود، الشهداء) الثلاثة على اعتبار الصمت هو الأكثر إرعاباً في عالم الظلام والأسوار.

رافقت الفيلم موسيقا تصويرية أرمنية ـ يرد ذكر سجين ارمني عرضاً في الفيلم ـ وهو فتح لعب أدبي بارع من المخرجة بإشراك عنصر فني من الموزاييك السوري العريض. وتجدر الإشارة إلى تنديد الكاميرا بالأسوار، كما في الجزء الأول، واللعب على اللافتات والشعارات بسخرية مضمرة.. وهي شعارات ثورية أنتجت كل هذه الذكريات المؤلمة التي سمعناها.

المشهد الأخير في الفيلم، المغمور بالضوء مقارنة بفيلمها الأول المعتم، بديع ومؤثر: يصل "الفرسان" الثلاثة على خيول ذكرياتهم إلى موئل الحضارة السورية القديمة ويقفون على الأطلال. ينزل الثلاثة تباعا: يقف الجباعي طويلا مثل أعمدة تدمر، وتمتلئ عيناه بالدموع خجلاً من حاضره أمام عظمة ماضيه. ويرمي بيرقدار الأرض، لأنه قضى ثلث حياته في السجن، بلا خطيئة، بحجر... ثم يمضي أجمل ثلاثة رجال غير غرقى، بلا ظلال، وسط موسيقى حزينة، وظهورهم للمشاهد، للكاميرا، للذكرى المرة (ليخرجوا) من الباب الذي كانت "تدخل" منه يوماً جدتهم... زنوبيا.

المستقبل
الأحد 16 نيسان 2006