بامتياز، المنفى يصنع إطلاله

علي حسن الفواز
(العراق)

كمال سبتي،بعد ثلاث سنوات من المحنة العراقية يكتب كمال سبتي شجونه القصية،وكأنه يحاول من خلالها ان يمارس نوعا من الطهرانية التي تجعله الأقرب الى صاحب الوصايا،، يفرش إزاء المحنة فكرته وسكرته!!!رؤياه وعبارته، لايقف عند ضيق إحداهما،يذهب الى تفاصيل الوجع مباشرة دونما تماه مع الانتحار كما يريد

بعض الشعراء، ودونما صناعة مضادة في اللذة التي تتجاوز حقوق الجسد الايروسي مثلما هو الجسد اليومي المكشوف على الرصاص وبكاء الأمهات.....
إزاء هذه المحنة لايملك كمال سبتي الاّ ان يكون تأمليا بامتياز، فهو ينحاز الى روح الأمكنة والى جسد أثيري عالق عند غبارها، ينشده بوحا وإنصاتا وربما عتبا على طريقة أهلينا الطلليين....تلك هي المفارقة،في ان نجترح (نصا) في الطللية وان نبادل الأمكنة بكاء واستحضارا (لسقط اللوى والدخول وحومل)، وربما تصير هذه الشواهد الغائبة والحاضرة هي مقابلات حسية للناصرية والفرات وبغداد وتوهجات شارع الرشيد وحكايات حسين مردان وبوهيمية عقيل علي....

.. يبدو لي ان الشاعر كمال سبتي من أكثر شعرائنا اقترابا من استخدام سايكولوجيا التأمل،تأمل الوجود والكائنات والأمكنة واللغة، وتحت هاجس هذا التأمل بدأ يؤسس الكثير من رؤاه وربما جعل نسيجه الشعري غامرا في تشكلات حسية مفخمة! تجعل القصيدة وكأنها مجسّ سحري يلامس اللحم الحي للغة والمعنى، ويكشف عن القوة الكامنة التي يمكن ان تصنعها الشعرية حينما تكون تأملا خالصا في العالم، خاصة بعد ان فقد هذا العالم صورته الباهية ومزاجه الرومانسي وكينونته المشغولة على أساس المقدس والجوهري،وربما تمظهر بشكل اقسي بعد الحروب والخرابات القصدية التي طالت روح المكان (الحسي) القديم الذي يتلمسه الشاعر بحميمية حادة ..وربما يهجس من خلال هدا التلّمس بالكثير من التفاصيل والروائح ..... لقد بدت الكثير من التغايرات التي تعتور القصيدة التي يكتبها الشاعر كمال سبتي، واضحة وجلية، اذ جعلته هذه التغيرات في إطار هذا الانشغال التأملي، اقرب الى المراود الرائي الذي يبحث عن لذّات طاعنة في المكان البعيد والحاضر مثلما هو الباحث في لذّات الجسد اللغوي وربما جعلته هذه التغيرات والانزياحات في التجربة الأقرب الى (انسانوية)،، الحكيم المتعالي في ضرورة ألتخلص من خيانات اللغة المباشرة، والتعاطي مع الوقائع عبر لبوس أقنعة تختلط فيه ملامح العراف والصوفي الذي تسيل بين يديه اللغة والصور والمعاني،، واحيانا يتماهى في لعبة افتراس العالم الما بعد لغوي باتجاه صياغة تأملية هي أقرب الى الفكرة التي يكون فيها هو ذاته المعرفي الذي يجد ان العالم غير محدود وان الحكمة تكمن في صناعة الأثر ـــ وان الموت،، موت الأمكنة والجسد هو موت غير القدري و يقع تحت أسباب (مسببة)!!!!!/// تصنعها شياطين الأرض !

ولعلي أجد ان هذا النزوع عند كمال سبتي قد اكتملت الكثير من مكوناته ودلالاته وحتى تعالي خارج سلطة المكان القهري القديم بكل مقموعاته ولزوجته،والذي انعكس بكثافة على لغته التصويرية والتأملية ،، فضلا عن ان تأثيرات المنفى/ المكان التعويضي/الاشباعي بدت واضحة في النص الجديد الذي يكتبه سبتي، فهو ينحاز الى طقسه التأملي بمهارة الباحث عن الأسرار والجوهر ويصطنع من خلال استحضار الأمكنة والشواهد والدلالات الشخصية روحا أخرى/ روحا صالحة ربما هي الأكثر إبصارا والأكثر وجعا والأكثر حدسا بما بعدية الحضور اذ يعمد الشاعر الى والى توليفبغداد/ الناصرية/ الفرات/ الجسر) عبر استحضار استذكارية يكون فيها هذا المكان حسيا جدا ومنزوعا من غباره العقلاني الذي يمكن ان يزيحه النص التأويلي عن الحضوري بكل شواهده الفجائعية التي تتركه تداعيات الاحتلال ويوميات الصواريخ التي تهبط على (بغداد) مثلما تهبط عليه !!

ان تحولات الشعرية عند سبتي انطلقت الى فضاءات أكثر سعة وأكثر فاعلية باتجاه ان تكون القصيدة بمواصفات البنية التصويرية التي يختلط فيها الدال الحسي//اللوني كشرط شعوري مثلما يختلط فيها الخطوطي/ التجريدي كشرط تأملي استغواري في الجسد المكاني والجسد اللغوي، فضلا عن الانزياحات العميقة في تجربة سبتي قد انعكست ايضا على إعادة إنتاجه لبنية (الحنين) ليس كشعور نوستالجي وإنما كنوع تأملي دقيق يشبه الى حد ما فكرة التأمل العميق عند جيمس جويس الذي يشكلن مدينته وكأنها جزء من إغوائه اليومي،اذ تحضر بتفاصيلها الحسية المتوهجة التي تعود بنا الى تقنية الرائي الذي مازال يرى الناصرية والفرات وكأنهما مكانان مازالا حاضرين في يومياته،يبكي لبكائهما ويضج بالحنين والأسى وهو يرى الصواريخ تبيح مدينه للموت والحرائق.. ان كمال سبتي أعاد في لعبته النصوصية تلك انشغالات الشاعر بالتفاصيل التي يذهب اليها مباشرة دون هموم كونية اعتادت قصيدته القديمة ان تشتغل على بعض عوالمها،،والتي جعلها نوعا من الكتابة الشخصية التي يتماهى فيها ايروسيا وروحيا،،حدّ انه يستخدم فيها بعض تقنيات القصيدة التقليدية بمحمولها الصوتي والبنائي وكأنه يجسد في ذلك انحيازه الكامل لجوهر التأمل الذي يرى من خلاله ما يرى الشاهد!! يرى العالم وهو نص مكشوف ومتورط في لعبة عري مدهشة.