أمير علام
(شتوتغارت)

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الرايخ الثالث، وبتولي أول حكومة ديموقراطية منتخبة في التاريخ الألماني الحديث مهماتها، بدأت ألمانيا أولى خطواتها في إعادة البناء والنهضة الصناعية والاقتصادية التي نجحت ببراعة في إنجازها. ليس للعقل الألماني وحده يرجع الفضل في هذه المعجزة الصناعية والاقتصادية، إنما أيضا إلى سواعد العمال الذين كانت غالبيتهم من المهاجرين أو ممن تطلق عليهم تسمية العمال الضيوف، والذين فتحت لهم ألمانيا أبوابها للهجرة والعمل الموسمي، لافتقارها إلى الموارد البشرية بعد حربين عالميتين كبدتاها الملايين من البشر، وأيضا لعزوف الألمان عن الأعمال الجسدية الشاقة، وسياسة الحكومة الألمانية حينذاك في التركيز على إعادة بناء الشخصية الألمانية والاستثمار في التعليم والاختراع.

بدأت الموجة الأولى من العمال الضيوف والمهاجرين في الوصول إلى ألمانيا في نهايات الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي، وهم العمالة القادمة من تركيا، إيطاليا، اليونان، والذين مثّلوا آنذاك النسبة الكبرى من الأجانب كعمال ضيوف، بالإضافة إلى عدد آخر من الفارين واللاجئين السياسيين والمنفيين من دول أفريقية وآسيوية وعربية.

من ناحية أخرى لم يكن وجود هؤلاء المهاجرين وخصوصاً غير الأوروبيين منهم في المجتمع الألماني بالشيء المألوف أو المستساغ، في دولة كانت الاشتراكية القومية (النازية) في تاريخها القريب هي الفلسفة الحاكمة، وبخلاف الكثير من جاراتها، لم تر الغالبية الساحقة من مواطنيها رجلا ذا بشرة داكنة، أو صينياً أو هندياً.

هؤلاء العمال الضيوف أو المهاجرون يعيشون الآن جيلهم الثالث، وهم مواطنون يحملون جنسية البلد ويتساوون أمام القانون مع أي مواطن آخر من أصل ألماني آري. وإذا كنا نطلق على المرحلة الأدبية والفنية للمهاجرين في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، اسم أدب المهاجرين أو أدب العمال الضيوف، فإن الأمر يختلف الآن، إذ صارت الكتابة الأدبية لذوي الأصول الأجنبية جزءا أساسيا ومهما من الكتابة الألمانية الجديدة، وليست أدباً مهجريا منعزلا أو موازياً لتيار الأدب الألماني الحالي.
لكي نستطيع رصد حركة أدب المهاجرين وأدب ذوي الأصول الأجنبية في ألمانيا، وتأثيره في المشهد الثقافي الألماني، علينا أن نبحر نحو الثمانينات. لكن لنبدأ مما قبل عام 1980، مع وصول المهاجرين والعمال الضيوف في الستينات، والتي بدأ معها تغيير كبير في المجتمع الألماني يتمثل في ظهور طبقة جديدة في المجتمع، هي طبقة العمال الأجانب والمهاجرين. صاحبت هذا التغير إشكالية تقبّل المجتمع الألماني الأوروبي المنغلق بثقافته الآرية وعاداته اليومية، لهذه الطبقة الجديدة من البشر من ناحية، ومحاولة هؤلاء البشر التأقلم والتعايش والاندماج في هذا المجتمع من ناحية أخرى.

لن نرى في تلك الفترة كتابات أدبية تذكر للمهاجرين (نتحدث عن الأدب المكتوب بالألمانية)، والتي كانت مرحلة مخاض اجتماعي وإنساني لهم، عملوا فيها على بناء الحياة، وهذا لم يكن بالأمر السهل. وقد رصدت هذا المخاض بعض الكتابات الأدبية والصحافية لكتاب ألمان مثل هورست كامراد الذي كتب عام 1971 سلسلة من التحقيقات عن العمال الضيوف، فاضحا فيها الأوضاع المزرية واللا إنسانية التي يتعرض لها الأجانب في حياتهم اليومية. كذلك كتب غونتر فالراف "في القاع"، الصادر عام 1982، بعدما تخفّى بهيئة رجل تركي يدعى علي، متنقلا بين العديد من الوظائف، حيث سجل خلالها مادته عن حياة الأجانب ومعاناتهم في المجتمع الألماني الرأسمالي الأبيض، وتصدّر هذا الكتاب قائمة المبيعات لفترة قياسية وتسبب بتعديل قانون العمل الألماني وحقوق العمالة الضيفة، وفرض رقابة صارمة على أحوال العمال والمهنيين، الأجانب منهم خصوصاً.

ظهر في تلك المرحلة ما يسمى تيار أدب المهاجرين أو أدب العمال الضيوف، والذي نجح بقوة في جذب انتباه الحياة الثقافية والقارئ الألماني، متمثلا في كتابات التركيين آراس أورين ويوسل باتريسكا، إلى جانب أعمال مجموعة "البوليكونست"، ومن كتّابها فرنكو بيوندي (ايطاليا)، يوسف نعوم (لبنان)، سليمان توفيق (سوريا)، جينو شيلينو، حبيب بكتاس (تركيا)، رفيق شامي (سوريا) وغيرهم. وشكلت تلك الكتابات مرحلة البداية لأدب المهاجرين، وهي مرحلة ذات أهمية كبيرة، يمكننا أن نسمّيها المرحلة الكلاسيكية لأدب المهاجرين أو أدب العمال الضيوف. كل هؤلاء الكتاب عاشوا حياة الأجانب المرة والشاقة وكانوا أيضا ضيوفا تنقلوا بين العديد من الوظائف، كعمال في مصانع أو كنادلين في مطاعم...إلخ. يراهم القارئ كعين غريبة مغتربة ترصد المجتمع والحياة في ألمانيا من القاع، محملةً مرارة الغربة وألم الاشتياق إلى الوطن الأصلي، تحت تأثير الصدمة الحضارية والثقافية وفي بحث دؤوب عن الهوية. هي أيضا كتابات تحمل نكهة الأوطان الأصلية وتميل إلى تقنية الكتابة باللغات الأصلية. هذه السمات كانت من ضمن العوامل التي أثارت فضول القارئ وجعلته يقبل على قراءة هذه الأعمال. فإذا نظرنا إلى كتابات رفيق شامي مثلا، سنجد الحس الشرقي العربي في البناء الروائي والسردي لأعماله، وهو ما يشد القارئ، لكون التجربة في الكتابة تختلف عن مثيلتها الأوروبية. هذا إلى جانب اختياره الموضوعات ذات الطابع السياسي المعارض لواقع الوطن الأصلي وإبراز المحرمات التي تلقى صدى كبيرا في المجتمعات الغربية، كحكايات شيقة من عالم الشرق البعيد. هنا لا يأتي العمل الأدبي مترجما، بل هو مكتوب بالألمانية وموجه في الأساس إلى القارئ الألماني.

يتميز الأدب المهجري في تلك الفترة أيضا بتجاربه الحداثية والمتنوعة، كما في حالة الشاعر حبيب بكتاس الذي نشر أول دواوينه بالألمانية عام 1978، ثم بدأ الخوض في مغامرة أدبية جريئة، كتب خلالها أعماله بالتركية وترجمها إلى الألمانية. فرنكو بيوندي (ايطاليا)، أحد مؤسسي مجموعة "البوليكونست"، هو أكثر كتاب تلك المرحلة تنوعا في الخلق بين شعر وقصة ورواية ونثر.

قامت مجموعة "البوليكونست" مع كل من آراس أورين، يوسكل باتسركايا، بتقديم نفسها كحركة أدبية تخاطب القارئ في خلفياته المتنوعة، وليس فقط الأقليات من المهاجرين والأجانب، وجاءت الأعمال كنوع جديد من الأدب أثرى المشهد الثقافي الألماني. لذا كان عام 1985 اعترافاً رسمياً واحتفاء ثقافياً بقيمة هذه الكتابات، وتمثل ذلك في ميلاد أول جائزة للأدب الألماني لكتّاب من أصول أجنبية باسم "جائزة ألبرت فون كارميزو"، وكان رفيق شامي أول من نالها بالتقاسم مع أراس أورين، ومن بعدهما كل مجموعة "البوليكونست".

ضم هذا التيار اتجاهات وتوجهات مختلفة، فمثلا أطلق كل من شامي وبيوندي على كتابتهما اسم أدب المعنيين واتسم هذا التيار بتجلي البعد السياسي، سواء في تناول الموضوعات واختيارها أو في استحالة الفصل عن البعد الاجتماعي في هذه الأعمال، وهي أيضا أكثر الكتابات تطابقا مع تسمية أدب العمال الضيوف، في حين تحمل أعمال يوسكل باتساركايا على عاتقها دور الوسيط الحضاري بين الثقافتين التركية والألمانية، والمبشر بالمجتمع المتعدد الثقافات (Multi-Kulti). أما شيلينيو فهو أكثر أبناء جيله انشغالا بالجانب الجمالي في الخلق، وتحتل الغربة في شعره موقع النخاع كقيمة فنية وجمالية وكمحرك شعوري وعقلي، يترك على أعماله مسحة فلسفية جعلت منه صوتا شعريا خاصا وسط أبناء جيله، وهو أكثرهم غزارة في الإنتاج على الإطلاق.

نجح أفراد هذا الجيل في تثبيت أقدامهم وكسب قاعدة جيدة من القراء، وبات لأسمائهم صدى قوياً في الحياة الأدبية، وتحتل كتبهم موقعا جيدا في سوق الكتاب الألماني، على غرار ما حصل لرواية شامي، "الجانب المظلم للحب"، حين تصدرت قائمة المبيعات في العام الماضي. وتوالى حصول أعضاء هذا الجيل على جائزة ألبرت فون كارميزو، إلى جانب العديد من الجوائز. وساهموا من ناحية أخرى في تمهيد الطريق إلى التطور الذي سلكه أدب المهاجرين وذوي الأصول الأجنبية. فلا يمكن، الآن، تعميم تسمية أدب المهاجرين أو أدب العمال الضيوف على كل كتابات الأدباء من ذوي الأصول الأجنبية.

منذ منتصف التسعينات، ظهرت أسماء جديدة من الجيلين الثاني والثالث للمهاجرين، والذين هم في حقيقة الأمر مواطنون ألمان وأفراد عضويون في هذا المجتمع، وعلى أيديهم شهد أدب المهاجرين تحولا كبيرا، وخصوصاً على يد فريدون تسايموغلو ذي الأصل التركي، من خلال حركة "كاناك" الأدبية، وصدور روايته الأولى، "كاناك – سبراك"، عام 1995، التي تناول فيها تسايموغلو حياة الشباب الأتراك في ألمانيا، عارضا همومهم ومصائرهم، بل أدخل لغتهم الخاصة إلى محراب الأدب، حيث جاءت الرواية مكتوبة بلغة الكاناك (كاناك هي التسمية العنصرية في ألمانيا للأجانب الأتراك والعرب، ويستخدم هذا التعبير كإسم للغة الدارجة لهذه الفئة، وهي خليط من الألمانية والإنكليزية والتركية أو العربية، ونستطيع أن نشبهها بلغة الزنوج في أميركا) جاعلا منها لغة أدبية. وهو، في هذا، ينأى بنفسه تماما عن أدب العمال الضيوف، كذلك عن البعد السياسي في أدب المعنيين (شامي - بيوندي)، كما أنه يقف بقوة أمام دعاة المجتمع المتعدد الثقافة (يوسكل باتساركايا)، على ما نرى في روايته الشهيرة "حثالة الأرض"، التي أحدثت ضجة كبيرة وخصوصاً بعدما جعلها المخرج لارس بيكر عملاً سينمائياً في عنوان "هجوم الكاناك".

لا شك في أن إشكالية الهوية تظهر في أعمال تسايموغلو، لكن بطريقة مختلفة، شكلاً ومضموناً، عن مجموعة "البوليكونست". لم يعد البحث الروائي قائماً على محاولة إيجاد هوية، إنما على تقديم هذه الهوية إلى الآخر وعرضها كحقيقة وواقع مشروع، وتأكيد كونها جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع الألماني ومعضلته في ما يتعلق بالمواطنة والتعايش بين ثقافات مختلفة. وهو يضع يده على حقيقة عدم تغير صورة هؤلاء البشر في المجتمع واستمرار النظر إليهم ككائنات أجنبية أو كمواطنين من درجة دنيا، وقبل كل شيء، وضع يده على أزمة الثقة القائمة بين الطرفين.
لم تجد فئة المهاجرين وذوي الأصول الأجنبية إلا الانسحاب الصامت من المجتمع والانغلاق على النفس، في ما يسمّى المجتمعات الموازية أو الغيتوات بقوانينها وأعرافها الخاصة المستمدة من عادات الأوطان الأصلية. وهم يتطرفون في تطبيقها كخط دفاع أخير وثورة على عدم الاعتراف بهم كمواطنين، واجدين في ذلك هويتهم المفقودة. لذا نجد مسألة الهوية بأشكال تناولها المتعددة، من أهم محاور كتابات الأدباء من أصول تركية وعربية. ذلك لأنهم يعيشون إشكالية الاندماج والتأقلم في المجتمع الألماني، نتيجة عدم تقبل المجتمع لهم كمواطنين ألمان وعدم تغير صورتهم كأجانب أو كعمال ضيوف بالنسبة إلى الكثيرين من الشعب الألماني، هذا إلى جانب التحفظ والتشكك الناتج من سوء الفهم المقصود تجاه الإسلام.
على الضفة الأخرى، نجد لدى بعض الكتّاب أن البحث عن الفردية حل محل البحث عن الهوية، إذ لا نعثر لدى هؤلاء على أثر للعين المغتربة الغريبة، أو لصدام الحضارات أو حتى لدور الوسيط الحضاري بشكله الكلاسيكي. واكتمل هذا التحرر من القالب الكلاسيكي لأدب العمال الضيوف عام 2000، على يد اثنين من الكتاب هما إيليا ترويانوف (بلغاريا) في كتابه "دونر في فالهالا"، وجمال توشيك (تركي الأصل) في روايته "أرض الغد". الأول يطرح السؤال: أي الآثار تركها هذا الضيف الذي لم يعد ضيفا؟، والثاني يسأل بكل راديكالية ووضوح: غرباء جدا هؤلاء، أم أنك ألماني جدا؟.
في هذين العملين لا أثر لمحاولة البحث عن إمكان ما للاندماج في المجتمع، ولا لمحاولة رصد المجتمع وانتقاده أو تقديمه من وجهة نظر مغتربة معزولة. لا ينشغل الكاتبان باستدعاء روح الوطن الأصلي، إنما نرى، وبقوة، تأثير الخلفية الشخصية والسيرة الذاتية على عملية الخلق واتجاه الكتابة. يأتي الفرد في هذه الكتابات ككيان مستقل وليس رمزا لحضارة أخرى أو ممثلا لفئة بعينها. ففي رواية "المرقص الروسي" لفلاديمير كامينر (روسي الأصل)، يقدم الكاتب مدينة برلين من خلال عين فضولية تسبر أغوار غربة الحياة اليومية وتقتحمها. هذه المدينة المجنونة، يختلط فيها كل شيء، وتتعامل كل من شخصيات الرواية مع الغربة من خلال وحدتها الفردية، وقانونها الخاص. ما يجمع الشخصيات هو تماما ما يفرقهم: غربة الحياة اليومية.
في رواية "السابح"، عام 2002 لتسوتسا بانكس (مجرية الأصل)، نعيش مع رحلة لأب وابنه وابنته في المجر للبحث عن الأم التي عادت إلى الوطن الأصلي تاركةً الغرب وعائلتها. لكنها في الحقيقة رحلة للبحث عن لغة ذاتية تمكنهم من التعامل مع الحياة من دون أن يضطلع المكان أو مفهوم الوطن بدور رئيسي، فالوطن هنا ليس بلدا، إنما هو الهوية الذاتية.
أما رواية "كل الأيام" لتريزيا مورا (مجرية الأصل)، فتذهب إلى أعمق، حيث تبدأ الرواية بمشهد لبطل معلقاً من قدميه في فرع شجرة، ملقيا على العالم نظرة مقلوبة.
للوهلة الأولى تبدو الصورة كأنها دلالة رمزية تقليدية لدور الوسيط بين حضارتين، أو كمحاولة لرصد الاختلافات والمتناقضات بينهما، إلا أن الصراع الدائر في صدر هذه الشخصية لا يتمثل في مضمون العودة إلى الوطن المفقود أو محاولة البحث عن الجذور، إنما في عدم قدرة الشخصية على التواصل مع الآخر وإشراكه في حياتها برغم إجادته عشر لغات.
كختام، يمكن القول إن كتابات الجيل الثالث من الكتاب ذوي الأصول الأجنبية، تمثل ركنا مهما وأساسيا في بناء الكتابة الألمانية الجديدة. فقد أثروا الكتابة الألمانية بأساليب وأفكار جديدة، لم يعهدها الأدب الألماني من قبل، نظرا إلى خلفياتهم المتعددة الثقافة. وبهذا ساهم الأدب المهجري، في مراحله المختلفة وتطوره، في الخروج بالأدب الألماني إلى آفاق جديدة، مؤكدا بعده الإنساني، ليخاطب البشر أياً تكن أصولهم وأعراقهم وثقافاتهم.

النهار- الاثنين 26 حزيران 2006