أمجد ناصر
(الأردن/ لندن)

سليم بركاتبصدور روايته موتى مبتدئون (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ 2006) يكون في حوزة سليم بركات ثلاث عشرة رواية، مقابل اثنتي عشرة مجموعة شعرية، وإذا أخذنا في الاعتبار ان أعماله الأربعة الأولى كانت في الشعر، ترجح عنده، والحال، كفة الرواية على كفة الشعر.
ولكن هذه ليست قسمة صحيحة.
ولا هذا التصنيف الأجناسي الخارجي يرسم حدودا قاطعة بين الشعر والسرد.
اذ ان كلمة (شعر) لا تعني غياب (النثر) او (السرد) اللذين هما (عمود) الكتابة الروائية، كما ان كلمة (رواية) لا تعني غياب الصور والمجاز والكثافة اللغوية، وهذه، تقليديا، من عدة الشعر.
تصنيفات كهذه لا تشفي غليلا في إقامة الفوارق بين (سرد) سليم بركات وشعره، فمن شأن هذه الكتابة، ككل كتابة، (وتحديدا كتابة سليم بركات) ان تخترق القواعد الاجناسية المتعارف عليها صانعة مجالا تعبيريا لا تلم به محددات أكاديمية جاهزة.
منذ البداية كان واضحا ان لسليم بركات عالما خاصا.
دليل ذلك موضوعاته، لغته، تدفقه، المجرى العريض الذي تشقه الكتابة.
ومنذ ان اصدر كتابه (السيري) الاول " الجندب الحديدي" كان واضحا، أيضا، ميله إلى سرد مكثف لا يخفي شغفه بالحكاية ولكنه لا يعول عليها تماما، فالحكاية، هنا، مضفورة باللغة المنحوتة الهادرة والمجازات المتصادمة التي تصدر عن مخيلة جامحة.
تساءلنا عندما اصدر سليم بركات (سيرة) طفولته في الشمال السوري عن السبب الذي يدفع شابا في مطلع الثلاثينات من عمره إلى كتابة سيرة، وهو الجنس الأدبي الذي يكون، عادة، نهاية مطاف الكتابة وليس مستهلها، ولم نكن نعرف ان من هذا الكتاب (وربما من كتاب أبكر بعنوان كنيسة المحارب لم يدرجه سليم بين أعماله) سيطلع الروائي الكامن فيه، وستتناسل منه سلسلة متشعبة من الروايات.
لم يكن عالم السيرة (الجندب الحديدي) مختلفا عن عالم أعماله الشعرية الصادرة حتى ذلك الوقت، إذ ان الاثنين يؤلفان اسطورتهما من نفس البقعة الجغرافية التي لم تغادرها، حسب زعمي، معظم أعماله اللاحقة.
وليس في هذا الحصر المكاني قدح ولا تقليل من ضخامة منجزه الإبداعي، فأسطورة الشمال التي ألفها سليم بركات لها مواصفات التراجيديا الكاملة من حيث توافرها على أبطال مأسويين وأقدار عنيدة ونهايات فاجعة: تلك هي القضية الكردية وجغرافيتها الممزقة.
وهذا يعني ان سليم بركات كاتب تراجيديا وليس كاتب قضية بالمعنى السياسي اليومي الذي يختصر المحنة المقيمة بالشعارات والبرامج المتقلبة.
ليس لـ(الشمال)، في أدبنا العربي (او المكتوب بالعربية) هذا الوقع الذي يقدح عزلة ونفيا وبردا وأشواقا لا تحقق كما هو عند سليم بركات، حتى صار (الشمال) عالما مخصوصا وليس جهة او صوبا.
المفارقة ان عددا كبيرا من الكتاب العرب هم من جنوب بلادهم (مثل المصريين واللبنانيين والعراقيين) غير ان الجنوب لم يتحول، عندهم، حسب علمي، إلى عالم قائم بذاته كما هو (الشمال) عند سليم بركات، استثني من ذلك محمد خضير كاتب البصرة وصانع أسطورتها.
وفي سياق تحول الجهة إلى عالم ومعنى ودلالة يقفز إلى أذهاننا مباشرة وليم فوكنر الذي جعل (الجنوب) الأمريكي رمزا للعزلة والتحلل التدريجي، وذلك مثل رائد لسنا بصدده الآن.
هكذا، إذن، تتضخم مدونة سليم بركات الروائية، لتفوق منجزه الشعري وتلتهمه وتتمثله في هديرها اللغوي وصورها الرعوية وحوارياتها الناطقة بغريزة الماء والطين، تماما مثلما هم عليه شخوص رواياته من شهية كاسرة لالتهام كائنات اللحم المسكينة التي تدب أمامهم او تطير، لسوء حظها، في فضاء قنصهم الذي لا يرحم.
وبتوطد منفى سليم بركات تزداد ضراوة أعماله ووعورتها، وإذ لا يحفل كاتب المنفى الكبير هذا بأي سياق او دُرجة أدبية، لا تأخذه، كذلك، شفقة بقرائه الذين لا يعلم في أي ارض يقيمون، اللهم سوى في خلاء العربية الواسع الذي استنبط منه بركات، صياد المعاني المتمنعة، مفازته الخاصة وجعلها ميدان رمايته، فأمعن في امتحان صبرهم على مواصلة طريق موحشة يأنس فيها الإنسان إلى الوحش اكثر من استئناسه بمن هم على صورته البشرية.
كنا، مع أولى رواياته، نعرف أين نضع خطانا، كانت أسماء العلم المعروفة تدلنا علي ارض شخوصه النافرين ومصائرهم المسنونة على حجر صوان، ولكننا شيئا فشيئا رحنا نفقد طرف الخيط، وتنقطع بنا السبل على نحو ملغز ومحير.
لم يعد العالم معروفا ولا الطرق إليه معلومة، فعندما تضع خطوة أولى على طريق البحث عن الكنه والماهية والأصل تلج هذه المتاهة المتشعبة التي لا يخرج منها داخلها.
لم تعد الحكاية طريقا ولا (الثيمة الكردية) التي استأنسنا بها في خطوتنا الأولى معه صالحة لوصف أعماله المتراكبة طبقا فوق طبق، ولا بقي (الشمال) استعارتها السهلة، بل ان البشر ليسوا دائما أهلا للبطولة او الحكمة أو اجتراح التواصل الشقي، إذ يمكن لمملكة الحيوان والطبيعة ان تبزا الإنسان في هذا الصنيع، من دون ان يشكل ذلك مجازا ركيكا او درسا او موعظة من أي نوع، كأن ذلك هدم لصروح وامثولات ملفقة صنعها التنطع البشري ورمي عليها أقنعة من (التحضر) أوهي من نسيج العنكبوت، كأن ذلك ضرب من (بدائية) تلتزم، على نحو أخلاقي صارم، بالقوانين الأولى المؤسسة: القوة والضعف، الجوع والشبع، الشره والكفاية، الشوق والوصل، الممكن والمستحيل.
باختصار، كأن ذلك الصنيع عود بالأشياء إلى أصلها: العزلة الحرون المقيمة حتى في ما يبدو موضع اجتماع واشتراك.
من يريد الوقوف على الفرق والاختلاف، في المدونة الشعرية والروائية الشاسعة لسليم بركات، سيجدهما، سيرى اللغة والأشكال وهي تتدرج من البسيط إلى المعقد، والعالم من الواقعي المألوف (نسبيا) إلى الغريب المجترح بمخيلة مسننة، ومن العضوية المفرطة إلى التأمل في الكنه والماهية، ولكني ازعم، مع ذلك، ان التشابه (ان لم اقل الوحدة) هو الذي يطبع عالمه في جوهره المنطوي على جمرة وجوده الحائر.
تنطلق كتابات سليم بركات من بؤرة واحدة ثم تروح تنداح كأمواج تتباعد عن المركز، لكن صلتها، في ظني، لا تنقطع عن أصلها المؤسس.
البداية، كما أسلفت، في تلك البقعة الصغيرة من الشمال السوري حيث يستبطن (الموضوع الكردي) فكرته عن نفسه وفكرته عن عالمه المحيط وتتصاعد أناته مع النفث المتواصل للدخان من صدور منخورة بالتبغ والأشواق، سنرى، في هذا البدء، جغرافيا وحيوات مرصعة بأسماء علم معلومة او مجهولة من لدننا، لكنها أسماء علم واقعية لا غرابة فيها سوى جهلنا بها، كجهلنا في أمر محنتها نفسه، ثم تأخذ الأعمال اللاحقة في توسيع إطارها (لبنان، قبرص، وربما السويد) فتحل أسماء محل أسماء ومشاهد محل مشاهد ولكنها، حسب ظني، ليست سوى أقنعة للأسماء والمشاهد الأولى.
تحسب الكتابة انها غادرت تلك البؤرة ولكنها لم تفعل أكثر من تذرية عالمها وغربلته وتصفيته للوصول إلى فكرته، أو المجرد فيه، رغم تسلحها بالعناصر الحسية ثقيلة الوطء.

أعود إلى فكرة (المعني)، لأقول انها الأصل في كتابة سليم بركات حتى عندما لا يبدو الأمر كذلك، او حتى عندما تبدو الكتابة مجرد تمارين لهو شاقة، ما يجعلني اعتقد انها تتخذ من (الثيمة الكردية) استعارة لسؤال الإنسان عن معنى وجوده.. وفشله الذريع في إقامة مثاله على الأرض.

كل الغرب
يوم الخميس - 12 تشرين أول 2006