ضياء الجبيلي
(العراق)

ضياء الجبيليتدور أحداث رواية " حزّ القيد " للروائي العماني " محمد العريمي " في بلدة تدعي ( يقطين ) محكومة من قبل فئة تبخس حق الإنسان في حريته ومشروعية تفكيره بالتطور أسوة ببقية البلدان : ويسرد الراوي بضمير المتكلم بطريقة متسلسلة ومباشرة عبر فصول الرواية المعنونة ، قصة تورطه في تهمة سياسية يُعتقل علي إثرها رغم أن لا ناقة له ولا جمل في قضية التمرد الذي قاده " سعد ثابت بن مرة " سوي انه ارتبط مع هذه الشخصية ضمن علاقة سطحية لم تتعد اللقاءات القصيرة والذهاب الي السينما معه لمرة واحدة فقط . قبل ان تتفجر الأوضاع ويُكشف أمر العقل المدبر لهذه الحركة المناوئة 14 الحكم في قحطين . ويصف الراوي نفسه قائلا وهو يشعر بالندم او ربما بالسخرية " كنت أحب الوحدة وأتحاشى الزحمة ، وكان الخلف دائما هو مكاني المناسب و( امشي بعيدا وتعال سالم ) مثلي المفضل ، ورغم ذلك لم اسلم !) في إشارة الي عزلته في عالم فرضت الــسلطة فيه قوتها .
تتناسل الأحداث لتولد الشخصيات من رحم الواقع الذي تجسّد فنيا في هذه الرواية في يوتوبيا " زمكانية " ورغم عزلة الراوي ( علي ) في مجتمع مقموع ومسلوب الإرادة ، الا انه لا يخفي في ذاته الإعجاب الذي يشعر به تجاه سعد الرجل الثوري المتمرد علي واقعه السيئ وكانت روح التحدي قد وصلت به الي تأسيس منظمة سرية كانت في طريقها الي التسلح لولا ان نظام الحكم القائم في قحطين اكتشف المؤامرة وبدأ تباعا في التخلص من هذه المنظمة عبر الاعتقالات والسجن والتعذيب . وفي سجن الإصلاح والتأهيل الذي يدعي بـ " مراغة البعير الأجرب " يتعرف الراوي الي شخصيات كانت هي الأخرى متهمة بنفس القضية التي تمس الأمن الوطني لقحطين من وجهة نظر النظام ، وتدور الشكوك حول أحدهم ، فيظن بعض النزلاء أنه جاسوس يعمل لصالح إدارة السجن . ثم نتعرف علي الجلاد الذي يدعوه الراوي بـ " الخازوق " والذي يذيق السجناء لا سيما الراوي شتي صنوف العذاب بغية انتزاع اعترافات كاذبة ، فيما كان سعد تائها في البلاد ، هاربا من أعين السلطة وبطشها . وضمن استرجاعات واستطرادات يخوض بها الراوي تظهر ملامح شخصيات أخرى كانت مثارا للشبهات مثل المرأة التي تسكن في نفس الحي الذي كان ذوو الراوي يسكنون فيه قبل انتقالهم الي مكان آخر . ويبدو من خلال السرد المباشر ان الراوي كان متهما بهذه المرأة التي لا يعرف حتى اسمها ويبدو اهتمامه هذا غامضا نوعا ما لكنه ملفت للنظر ولا يُعرف في ما اذا كانت نظرته تلك جنسية او من قبيل الشفقة . ويروي عن مسكن هذه المرأة انه كان مرتعا للرجال حيث الصخب والضجيج الذي يعلو بعد منتصف الليل.
ثم سرعان ما يسمع الراوي من زنزانته صوت امرأة تتعذب ، وشيئا فشيئا يكشف لنا انه صوت نفس المرأة المشبوهة إذ اتضح انها زوجة سعد الرجل الثوري و التي اعتقلت هي الأخرى بعد ان دهموا منزلها وعثروا فيه علي كمية من الأسلحة . وتتطور أحداث الرواية حتى تبلغ ذروتها في السجن بموت احد النزلاء من التعذيب وبدلا من ان يُطلب من الراوي الاعتراف بأشياء كاذبة لم تحصل ، يُضغط عليه ليوقع علي ورقة يقر فيها ان النزيل قد مات منتحرا . لكن الراوي يرفض فيتحمل تبعات رفضه هذا بمزيد ممن التعذيب يصل الي درجة انه يفكر في الانتحار قبل ان تهب رياح التغيير على طاقم السجن ويُخلي سبيل الراوي .
الرواية بمجملها تتحدث عن حرية الفرد والمجتمع في ان يعيش حياته من دون ان يكون هناك من ينغص عليه هذه الحرية . وعن النزعة الثورية في المجتمعات المضطهدة واحتراق الجميع بنار السلطة الدكتاتورية وتعميم العذاب حتى علي الإنسان المتواضع الذي يُحاسب علي نمط تفكيره ومدي إعجابه او تفضيله لفكرة التغيير . ومن يريد ان يقرأ الرواية لا بد ان يعرف مضمونها من مقولة لـ " تشي غيفارا " التي مهد فيها الروائي محمد العريمي الطريق الي القاري لكي يفهم الرواية علي انها مناوئة لما يحدث دائما في كثير من البلدان من قمع وتضليل ومصادرة . وقد اهدي العريمي روايته الي الشعب الفلسطيني والعراقي مع انها تتحدث عن قمع الأنظمة الشمولية لشعوبها وليس عن قمع قوي الاحتلال للشعوب . لكنه ربما انطلق من مقولة " تعددت الأسباب والموت واحد " كون النظام القمعي او الدكتاتوري والاحتلال ينضويان تحت مسمي واحد هو " الاستبداد " وانتزاع حرية الآخر الذي يقبع تحت رحمته . وبمعني آخر ان المعاناة هي المعاناة وان تعددت المسميات . بقيت أشياء لا بد من توضيحها وهو ان أجواء الرواية قريبة من تلك الأجواء التي قد تحدث في أي بلد يقبع تحت نير العبودية والشوفينية وسياسة الحزب الواحد كما حصل في العراق مثلا ، كل هذه الاشياء وغيرها رويت بطريقة تقليدية أي وفق الأسلوب الكلاسي مع بعض التشذيبات التي طرأت علي عدة مفاصل من الرواية . بمعني آخر ان الروائي لم يستنفذ طاقاته التعبيرية القصوى لأنه لم يشهد او بالأحرى لم تحدث مثل تلك الممارسات في البلد الذي يعيش فيه ، ثم انه لم يسع لإضافة السحري علي الواقعي او الفنطازي علي الواقعي ، فكانت النتيجة ان تسيدت روح الواقعية علي رواية محمد العريمي بشكل يكاد يكون كاملا فجاءت الرواية " طبق الأصل " مستلة بشكل أثّر في تطورها التقني ، كذلك في بناء الجمل السردية . كما ان الخطاب الروائي عاني في أماكن عدة الترهل الذي افقد الرواية توازنها عن طريق التعبئة العفوية ربما ، والناتجة عن إحساس الروائي الشخصي وإحساس الجماعة او المحيط او البيئة التي يعيش فيها . فانتقلت الرؤية بشكل مقصود ومن دون غطاء ما، يحفّز الدارس علي كشفه ومن ثم التأويل. الشيء الثالث ، هو ان هناك ظهورا سطحيا منمقا ووصفا شبه " سجعي " للمشاعر والعواطف مع خمول في البوح الجنسي ربما ، أي وقوف ما يسمي بـ " التابو " الجنسي في وجه إكمال المعني .
وبهذا الشكل ، يكون الروائي قد أرغم نفسه علي اتباع أسلوب لا يبعث علي المتعة في اقتناص الحقيقي والمهم في العملية الروائية وتأتي هذا الممارسة علي الكتمان او الكبت لسببين أولهما الدافع الشخصي او الالتزام الديني من قبل الروائي نفسه . أما الدافع الثاني فقد يكون " قمعيا " وبصيغة اقرب هو الخشية من المراقبة والمعاقبة وتلك هي مشكلة الروائي العربي.

**************

ضياء الجبيليالأديب محمد عيد العريمي"حز القيد"الحلم الذي تحقق،التحدي الذي واجهته وتجاوزته،الاختبار الذي نجحت في قبل أربع سنوات صدرت للكاتب محمد عيد العريمي رواية عنوانها "مذاق الصبر" تحدث فيها عن تجربته مع الإعاقة بعد إصابته بمرض الشلل الرباعي اثر حادث سير خطير ,وخلفت الرواية أثرا طيبا في الوسط الثقافي , ستصدر طبعتها الثانية بعد نفاد طبعتها الاولى, وقيل حينها انها إعلان لولادة كاتب عماني يمتلك قدرة فذة على الغوص في اعماق الذات الإنسانية بعد تلك الرواية لم نقرا له سوى قصص قصيرة ينشرها في أوقات متباعدة , لكنه فاجأنا برواية جديدة صدرت قبل أيام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت حملت عنوان "حز القيد".
ومنذ الصفحات الاولى من "حز القيد" يشدك العريمي اليه ولا يدعك تضع الكتاب جانبا الا بعد الانتهاء منه وهذا دليل على براعته في صنع حبكة روائية بشكل متماسك وفق بناء مدروس للشخصيات وتحريكها في فضاء متخيل
" تثير رواية "حز القيد" جملة من الأسئلة وتتعمد رغم وضوحها الظاهري ان تظل قولا مضمرا يلمح دون ان يصرح ويشي دون ان يوضح ويوحي دون ان يشير تاركا للقارئ حرية اكتشاف الأمكنة والأزمنة والأسماء والإشارات وتأويل الأحداث والتفاصيل" كما يقول الكاتب ناصر صالح الغيلاني في مقدمة الرواية.
بالضرورة أن يكون الحديث مع الروائي محمد عيد العريمي متشعبا، فهذا الرجل يذكرنا بـ(سانتياغو) بطل رواية همنغواي ( الشيخ والبحر) اذ يمثل على المستوى الانساني خلاصة تحد للمرض والإعاقة ومن التقاه يرى أمامه إنسانا مرحا محبا للحياة، لاتفارق الابتسامة وجهه، طيبا ويتفنن في اختيار العبارات المهذبة التي يوجهها لضيفه، وعلى الصعيد الإبداعي فهو قلم رشيق وقدرة عالية على النفاذ الى جوهر الاشياء منقبا في الغاطس من عوالمنا الذاتية، وعلى المستوى المهني فهو إنسان فاعل لم يقهره الكرسي المتحرك الذي وجد نفسه ملقى بين أحضانه الحديدية و لم يتوقف عن العمل كمهندس في شركة تنمية نفط عمان ومترجم، أي انه يعمل متجاوزا جسده الذي أرهقه الشلل الرباعي، لكن روحه ظلت متقدة تمد جسده المتعب بوهج الحياة، وعندما طلبت منه ان يوقع لي على نسختي من روايته ( حز القيد ) التي صدرت مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت حرك يده بصعوبة وربط بمساعدة يده الثانية جلده على يده اليسرى وفي الجلدة وضع قلما فصار القلم على ظهر يده على شكل صليب، وعندما رأى دهشتي ابتسم ابتسامة عريضة وقال " قصة مو ؟" وأطلق ضحكة ساخرة
في هذا الحوار حاولنا الدخول الى عالم العريمي كاتبا وإنسان وحالة روائية تتحرك على الأرض.
حاوره عبد الرزاق الربيعي
دعنا نبدأ الحوار بالسؤال التقليدي: من هو محمد عيد العريمي؟
ـ مليء بالمفارقات والتضاد، ولدت من أب بحار وأم بدوية، فعشت فترة صباي مشتت الانتماء بين الصحراء والماء. بدأت تَعلًُمْ القراءة في الهواء الطلق تحت ظل شجرة، وأنهيت تعليمي الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية من جامعة كان من بين أساتذتها الزائرين "جون جلين" أحد أول ثلاثة رواد فضاء نزلوا على سطح القمر.
أحمل شهادة بكالوريوس علوم في الهندسة الصناعية، وأعمل مترجما للغتين العربية والانجليزية.. المادتان اللتان لم أكن على وفاق معهما أثناء دراستي الأساسية.
ثقبت أذني قبل أن أكمل عامي الأول لوضع تعويذة (حلق أذن فضي) تبعد عني الحسد حسب اعتقاد جدتي، والذي حرصتُ على لبسه أثناء دراستي في أمريكا لا تمسكا بمعتقدات البدو وإنما حبا في التميز رغم أنه شكل لي ـ حسب مواقف الناس وتباين الأمكنة ـ إما إحراجا لتشبهي بالفتيات أو ميزة تفردت بها بين زملائي في الجامعة عندما كانت ظاهرة لبس الأقراط بين الشباب الأمريكيين في بدايتها. وبذلك الحلق جمعتُ بين تعويذة جدتي حفيدة محمد بن حمد الملقب بـ"الظفري" ـ أحد شيوخ الرمال الشرقية ـ وآخر مظاهر التمرد بين الشباب الأمريكي!
كيف كانت النشأة وما أثر تلك النشأة على تكوينك الأدبي؟ عشت جزءا من طفولتك في البادية ماذا أعطاك هذا الجزء؟ وهل انعكس هذا على أدبك ؟
ـ ولدت ونشأت في البادية العمانية كما أشرت سابقا، وقد يتبادر للذهن عند ذكر كلمة "البادية" إن البادية لا شيء غير صحراء قاحلة شديدة القسوة، وهي، إذ ذاك، أما أنها سهوب شاسعة جرداء أو كثبان رمال متحركة. فأي أثر أدبي يمكن أن تتركه بيئة لا تكاد ترى فيها للنبات ظلا ولا تسمع للحياة فيها نفسا إلا فيما ندر؟!
لكن لوعدنا التفكير في الأمر، لرأينا أن الذاكرة العربية الخصبة بالشعر والحكايات والأساطير الشعبية هي نتاج الصحراء دون سواها، وان البادية هي مهد اللغة العربية وحاضنتها. وعادة إرسال عرب مدن شمال الجزيرة والهلال الخصيب ـ حتى وقت قريب ـ أبناءهم للإقامة في البادية بين أحدى القبائل العربية الأصيلة لإتقان اللغة والتأدب بآداب البدو خير ما يدل على فضل البدو في ذلك المضمار.
لاشك ان إتقان مهارات العيش في الصحراء يصوغ كيان المرء وقيمه، فقد تدربت على ركوب الجمال وتصويب البندقية والضغط على الزناد، وتعلمت غناء التغرود والطارق، وسهرت على ضوء القمر، ونمت تحت فوانيس النجوم، وخرجت مع رعاة الإبل نجوب الصحراء بحثا عن أجمة حالفها الحظ أكثر من غيرها فارتوت من زخة مطر لم تدم طويلا.. كل ذلك قبل ان أكمل عامي العاشر ! وهي تجربة في مجملها كانت العنصر الأساسي الذي صاغ وجودي وشكل حياتي وأحاسيسي.
البدوي إنسان ولد وعاش على الفطرة في منطقة لا نهاية لحدودها.. ولعل هذا الاتساع هو الذي ولد في نفسي التوق الدائم الى الانطلاق والاعتماد على النفس وحب المغامرة والقدرة على المقاومة. ولقد تركت المكابدة المستمرة من اجل توفير أسباب الحياة التي كنت أراها في سلوك البدو وأسمعها في كلماتهم في نفسي تقديرا كبيرا لذلك الإنسان ولذلك المكان.. للبدو والبادية والفيافي الشاسعة.
لقد سُكنت بحب ذلك المكان وتاريخه، وتقاليد أهله وأساطيرهم وأسلوب حياتهم. واعتقد ان حياتي في البادية شكلت لدي الحس الحكائي في أعمالي السردية، وتجلى ذلك في "الريحان والدخان". وعن ذلك يقول الناقد والكاتب المبدع الأستاذ ناصر صالح الغيلاني في قراءة له لكتاب "مذاق الصبر" نشرت في مجلة "نزوى" " محمد عيد العريمي يكشف في عدد من الفصول عن قدرة فنية مدهشة، وبراعة عالية في السرد.. فهذا السرد الذي يأتي متدفقا وبشكل عفوي وشيق، وكأنه أحد الرواة القدامى الذين يخاطبون جمهورا من المستمعين.. كما أن هذه اللغة الأدبية البسيطة المنسابة كجدول، والمليئة بروح الحياة، والمعبرة بشاعرية في كثير من الأحيان عن المواقف والشخصيات.. كل ذلك وغيره يجعل من"مذاق الصبر" عملا فنيا جميلا، وقابلا للقراءة دائما وأبدا.
هل هناك أشخاص اثروا في تجربتك؟ من هم؟ ما مدى تأثيراتهم؟
ـ لا بد أن أكثر الناس تأثيرا في المرء خلال سنواته الأولى هم أهله. ورغم انه فارق الحياة قبل أن أولد بأكثر من عشر سنوات تقريبا، إلا أن سيرة حياة جدي ـ الأمي ـ كانت حاضرة في وجدان أهلي وربما في وجدان سكان القرية كافة. كانت مآثره وحضور شخصيته محل إعجاب ناس كثر، وكان أهلي يرون حكايات عنه اقرب إلى الأساطير. ومنذ طفولتي كنت اشعر أن ثمة شيئا يربطني بجدي "محمد بن مبارك مريود" لاسيما أني أحمل أسمه الثلاثي.. ويخيل لي أحيانا أنني ـ بذلك الاسم ـ أحمل وصية متابعة سيرته، وأرث السير على خطاه.

ماذا تعني لك قصة (هلوسة)؟
ـ اعتقد انك تقصد قصة "هلوسة في يوم غائم".
نعم.
ـ لا افشي سرا، ولا أخجل من الاعتراف أني دخلت عالم الأدب متأخرا جدا.. ودخلته بالصدفة ومن باب الـ"الهلوسة". إذ لم أكتب شيئا قبل "مذاق الصبر".. أول قل أعمالا لا تذكر.. ومن بينها "هلوسة في يوم غائم". هذه القصة لم تكن سوى هلوسة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى! فقد اجتاحت المشهد الثقافي حينئذ موجة من النصوص التي يقف الإنسان عاجزا عن فك طلاسمها، وكان يحز في نفسي ـ وأنا الذي كنت اعتبر نفسي مثقفا ـ أن أقف عاجزا عن فهم ما كنت أقرأ. لذلك كتبت "الهلوسة" في محاولة لركب الموجة السائدة، وإذا بالهلوسة تفوز بالمركز الأول في مسابقة سنوية للقصة القصيرة!
كما رأينا في "مذاق الصبر" فان الحادث احدث انقلابا في حياتك، هل يمكن لك أن تتحدث لنا عن هذا الانقلاب؟
ـ لقد أخلت الإعاقة بحياتي على كافة مستوياتها: الصحية، الاجتماعية، الزوجية، والوظيفية. وكان عليّ تحمل معاناة الذات قبل آلام المرض، والتصالح مع النفس قبل الجسد والاعتراف، بالواقع قبل التشبث بالأمل والرضا بالمكتوب والقدر.. ولم يكن أمامي سبيل سوى التصالح مع الإعاقة والتكيف مع شروطها وأتعايش مع تبعاتها مهما كانت قاسية، وتوظيف هذه الشروط والتبعات لإعادة بناء حياة جديدة على أنقاض أخرى تحطمت، وبناء أحلام أخرى في إطار ما تتيحه الإصابة.
لماذا تكتب؟
ـ نعم!!
دعني أعيد صياغة السؤال: هل الألم محرك جيد للإبداع؟
ـ إذا كنت تشير إلى أن "الإعاقة" هي وراء ما حققته في هذا الجانب من حياتي، فالجواب لا. ولكن أعرف أن الكتابة مسكن للأم!
كيف؟
ـ لقد تبين لي خلال السنوات الأخيرة أن الكتابة الإبداعية، وأكرر الإبداعية وليست تلك المفروضة قسرا، بقدر ما هي مضنية هي ممتعة، وتغدو في بعض جوانبها فعلا وجوديا يعزز قناعاتي بحقي في الحياة ويعزز من رغبتي في مواصلة العيش بروح تواقة حتى ولو كانت داخل جسد حبيس.
الاشتغال على الكتابة السردية من خلال اختلاق الأشخاص والأحداث والأمكنة والأزمنة ورسمها في ذهني ثم تشكيها بالحروف والكلمات على الورق.. لهو شعور ممتع.. ممتع للغاية يتيح لي تجاهل الألم.
واعترف هنا أنني عندما أنهيت مراجعة المخطوطة لآخر مرة، وتأكدت لي أني استطيع إضافة جديد عليها، شعرت كأنني فقدت ابناً قرر، بعد أن اشتد عوده، شق طريقه في الحياة بنفسه بعيدا عن رعاية الأب ووصايته! وتعزز ذلك الشعور أكثر فأكثر عندما أرسلت المخطوطة إلى دار النشر.
هل تسعى من خلال الكتابة للحصول على "اعتراف الآخر بك"؟
ـ أنا لا أربط حقي في الوجود باعتراف الآخر بي، ولست مسكونا بهاجس إثبات نفسي للآخر وتقديم نفسي من خلال بديل يعوض ما أعانيه من قصور في أعضاء جسدي، ولم أشعر يوما بمركب نقص يحول دوني وقول كلمتي، ولم أضطهد نفسي رغبة في أن أكون أحدا غير ما أنا عليه. ولكن دون ريب تهمني معرفة الآخر لي.
قلت في مذاق الصبر انك تعيش في صراع دائم مع تداعيات الإعاقة، من أين تستمد القدرة على مواصلة مقاومة تحديات الإعاقة؟
ـ يعزي البعض ذلك إلى قوّة إرادة، وهي عند آخرين الإيمان بالقضاء والقدر، وسمعت من يقول إن الوعي العلمي ومدارك العقل هما وراء تحويل الهزيمة إلى نصر، والضعف إلى قوة.
وأنت.. ماذا تقول؟
ـ اعتقد أن القدرة على تضييق هوة الكارثة بالاشتغال أكثر على ما تبقى سليما من الجسد، واستنفار طاقات ما كانت ستظهر لولا الرغبة في الحياة! وهذا، في ظني، هو مكمن القوة: "الرغبة في الحياة".. هي التي، متى توفرت، تعطي الإنسان المبرر الكافي للمقاومة من أجل أن يعيش يوما آخر.. قد يكون أحلى من الأمس، وقد يكون أمر منه، ولكنه لن يعرف ذلك إلا إذا عاشه!
وأنت.. ماذا تقول؟
اعتقد أن القدرة على تضييق هوة الكارثة بالاشتغال أكثر على ما تبقى سليما من الجسد، واستنفار طاقات ما كانت ستظهر لولا الرغبة في الحياة! وهذا، في ظني، هو مكمن القوة: "الرغبة في الحياة".. هي التي، متى توفرت، تعطي الإنسان المبرر الكافي للمقاومة من أجل أن يعيش يوما آخر.. قد يكون أحلى من الأمس، وقد يكون أمر منه، ولكنه لن يعرف ذلك إلا إذا عاشه!
احتفى النقد بروايتك الأولى كيف وجدت ذلك الاحتفاء النقدي؟
قرأتُ لك منذ فترة دراسة بعنوان "إضاءات في تجارب قصصية عمانية شابة" قلت في جانب منها أنك تبدي الرأي في النصوص، وأكدت على " إبداء الرأي" وليس محاكمة النص. ففي الإبداع ـ على حد قولك ـ كل منا يحمل مسطرته. حين يكون النقد لأبدأ الرأي وتصويب الخطأ وليس لمحاكمة النص فذلك ما يطمح إليه كل كاتب، فكيف وأنا مجرد محاول. لقد كُتبت دراسات وقراءات ومقالات عديدة عن الكتاب، ولم يقتصر هذا الاهتمام على الساحة الأدبية العمانية، وإنما تناوله عدد من النقاد والمبدعين العرب، وفي معظمها كثير من النقد والتوجيه استفدت منه خلال إعادة الاشتغال على الجزء الأول من الكتاب بهدف نشره منفصلا في طبعة ثانية منقحة (قيد الطبع).
ألا ترى انك تمهلت طويلا حتى أخرجت للنور روايتك الثانية؟
ثلاث سـنوات بين إصدارين طويلين ليست فترة طويلة.. أخذا في الاعتبار ان تعاملي مع لوحة المفاتيح يتطلب الكثير من المناورة.. هذه الإشكالية تفقدني أحيانا زمام الإمساك بالدفق السردي، فتتسع المسافة الزمنية بين ما يتبلور في ذهني وسرعة تفريغه أضف إلى ذلك أنني لم أتفرغ لكتابة "حز القيد" خلال هذه الفترة. فقد أعدت الاشتغال، كما ذكرت سابقا، على الجزء الأول من "مذاق الصبر" وأضفت اليه الكثير حيث بلغ عدد صفحات الكتاب في طبعته الجديدة ضعفي عدد صفحات الطبعة الأولى تقريبا، بالإضافة إلى كتابة مقالات سياسية ومقالات منوعة ونصوص أدبية قصيرة.
لماذا "حز القيد"؟
ـ لم افهم!
لماذا اخترت هذا الاسم؟ ولماذا اخترت هذا الموضوع بالذات؟
كانت البداية متواضعة. ولعلها ليست سوى إرهاصات أدبية أو محاولة "روائية" لم تكتمل فيها أركان الرواية الناضجة، وكان اسمها "شارع طوبان"، وظلت لفترة طويلة تحمل نفس الاسم. ومع التحول الذي طرأ على موضوع السرد، أتيت في إحدى الحوارات على ذكر "حز القيد"، فاستطبت التعبير ووضعته على الغلاف بدلا من "شارع طوبان".
ما الذي أردت قوله؟
المحاولة التي أردت بها إثبات الذات للذات أضحت هاجسا، بعد أن أملت عليّ شروطها، بل وقادتني شخوصها إلى حيث لم أكن انوي الخوض فيه أو الذهاب إليه. فالبداية كانت مجرد رؤية لأسرة فقيرة أعياها الفقر والانتقال من مكان لآخر.. ومتابعة رب هذه الأسرة خلال لهاثه وراء عمل يكفل له العيش وتوفير حياة كريمة لأسرته.. أردت من خلالها كشف معاناة وطن بالكامل ـ وطن قد لا نعرف اسمه ولا نعرف له وجودا ولكنه قد يكون واحد من كل الأسماء التي نعرفها أو بعضا منها ـ في قالب يعبر بجلاء عن واقع تُختزل فيه حياة الإنسان إلى لا شيء غير توفير ضروريات الحياة!
هل يمكن اعتبار روايتك الجديدة "حز القيد" أنها تنتمي لأدب السجون؟
ـ اعتقد ذلك، ولكن لن يكون الرهان لصالحي إذا قورنت "حز القيد" بما كُتبَ من روايات أسست لذلك النوع من الأدب! لم أفكر كثيرا في الصنف الذي تنتمي اليه الرواية، ولكن قرأت كثيرا عن السجون.. ليس في فضاء الأدب وحسب، وإنما في الواقع أيضا، وأطلعت على عدد كبير من تقارير منظمات حقوق الإنسان ولجان الدفاع عن السجناء، ومذكرات سجناء سابقين.
جوابك مهد لسؤالي التالي: ما مدى تأثرك بمن سبقك إلى هذا النوع من الكتابة كمنيف وإسماعيل فهد إسماعيل؟
ـ قلت أن الرهان لن يكون لصالحي!
أنا لست بصدد مقارنة عملك بأي رواية أخرى من روايات "أدب السجون".
وهل فكرت يوما أن يقرن اسمي بعملاق كـ"عبدالرحمن منيف! "
وماذا عن إسماعيل فهد إسماعيل؟
ـ ماذا عنه؟
...?
للأسف لم أقرأ له.
هل عشت تجربة واقعية مشابهة ؟ لك الحرية بالإجابة عن هذا السؤال.
ليست عندي مشكلة للإجابة بـ"نعم" لو عشت فعلا تجربة مماثلة. وهذا ما أحاول دائما التأكيد عليه فيما اكتب ـ على تواضعه ـ وهو أن تكون محاولاتي انعكاسا لتجارب إنسانية.. سواء كانت ذاتية أم لأحد اعرفه أو ما اسمع عنه. لعل في إعاقتي بعضا مما في السجون.. شيئا من تجربة علي الناصر في "حز القيد" على نحو أو آخر.. وان كان نزيف ربق الإعاقة لا يتوقف!
بين محمد في مذاق الصبر، وعوض في الريحان والدخان، وعلي في حز القيد.. هل ثمة ما يجمع بينهم؟
ـ في مذاق الصبر كتبت عن الصراع الذي خضته مع الإعاقة لتحقيق توازن ذاتي بين الممكن والمستحيل.. بين ما هو متاح لي واقدر عليه وما هو خارج نطاق إرادتي.. وصولا إلى "التصالح أو التعايش معها". وشكل عوض في الريحان والدخان خلفية طبيعية لشخصية مذاق الصبر. ولادتي في البادية والعيش بين كثبانها الرملية وتذوق شيئا من مرارة العيش في الصحراء والمكابدة التي لانهاية لها، ومن ثم تجربتي الأولى مع البحر ومجتمع المدينة البحرية، وأنا لم أبلغ العاشرة من العمر.. كلها عوامل أسست لشخصية "محمد" في الجزء الأول. وهنا المقارنة واردة.. فالصحراء كالإعاقة لا تعطي شيئا وإنما ينتزع المرء منها ما يستحقه انتزاعا!
وسأعود مرة ثانية لأستشهد بما قاله الناقد المبدع ناصر الغيلاني: "لا يمكن أن نفهم فنيا عملا كمذاق الصبر إن لم ننظر إليه على أنه؛ سيرة للذات والمكان، وهذا ربما ما يخلق لحمة فنية بين جزئي الكتاب الأول والثاني ويؤسس لوحدة فنية واحدة تجمع بينهما, فإذا كان الجزء الأول يعالج سيرة الجسد المدمر بفعل الإعاقة وموقف الروح ونضالها الشجاع من أجل خلق حياة حرة وكينونة مستقلة, فإن الجزء الثاني يعالج سيرة المكان الطفولي الأول المدمر بفعل الزمن وقسوته التي غيبت الوجوه وشوهت الملامح لهذا فإن الكتابة هنا هي تشييد للذات وبناء للذاكرة كي تنهضا ضد الجبر واليأس وضد الموت والنسيان.
قلتُ يوما أن "مذاق الصبر كتبني"، أما "رواية حز" القيد فأنا كاتبها.. مختلق شخصياتها وأمكنتها وأزمنتها ومحرك أحداثها، وإن مرت فترات كنت خلالها أمشي خلف بعض شخوص الرواية. ويظل، مهما حاول الكاتب الابتعاد عن فرض ذاته على شخوص نصه، إلا انه يحدث في بعض الأحيان تماس بين ما هو ذاتي وما هو متخل، فلا وجود لنص لا يشبه كاتبه ولو في أضيق الحدود. صحيح أن الرواية هي فن التخيل، إلا أن خيال الكاتب يظل محكوما بتجاربه الشخصية أو ما يسمع من تجارب الآخرين.
ألا ترى أن النهاية لا تعبر عن ظلام الواقع؟
ـ أكيد لا تعبر عن واقع كان ولكنها تبشر بواقع سيكون. وأعتقد أن ما نسمعه اليوم من أخبار عن مظاهرات وحركات احتجاج في بعض العواصم العربية مطالبة بالإفراج عن السجناء وتقديم من أساءوا إليهم سواء أثناء التحقيق معهم أو أثناء اعتقالهم للمحاكمة يؤكد ما جئت عليه في الرواية.
وظني أن السجون ستفتح أبوابها مشرعة في القريب العاجل، لكن أتمنى أن يكون هذا بإرادة ذاتية لا انصياعا لاملاءات خارجية. فحقوق الإنسان وحرية الشعوب التي يروج لها الآخر في الوطن العربي هي في الحقيقة ليست سوى "حق يراد به باطل".. عصا الطاعة الغليظة التي ترفع في وجه العاصين.. لاسيما أن فضائح سجونهم القبيحة فضحت حقيقة ادعاءاتهم، إلا إذا كان سجناء ابوغريب وغوانتانامو ومعتقل غانجي بأفغانستان ليسوا من البشر!
أضفت للجلاد صفات إنسانية بينما يتصرف بشكل حيواني ماذا أردت أن تقول بهذا؟
ـ هو إنسان أيضا فيه الضعف وفيه القوة أيضا. فالخازوق في حز القيد لم يولد جلادا، وإنما اكتسب هذه الصفة من جلاد آخر أكبر منه، وعندما انتهى زمن الجلاد الكبير انتهت معه أزمنة من كان يخدمه من جلاديين.
بين القصة والرواية تتنقل خطى العريمي أيهما اقرب إليك؟
ـ تجربتي في النوعين الأدبيين محدودة، ودون ميل للتواضع أشعر بالحرج إذا تحدثتُ أكثر مما ينبغي. واذا كان لابد من قول شيء، فدعني أقول إن تجربة كتابة "حز القيد" أعطتني فسحة واسعة.. فضاء رحبا للحركة لصنع الأحداث والشخوص والأمكنة والأزمنة والتفاعل معها، وهذا ما لا يتاح في القص القصير. ومما لا شك فيه أنني استمعت بكتابة "حز القيد" رغم طول المدة، وكنت أشعر بمتعة عظيمة وأنا ارسم الشخوص بالكلمات، وبالكلمات أيضا أشكل ملامح حياتهم بكافة أبعادها!
تعاني القصة الحديثة من ترهلات لغوية حيث أصبح النص القصصي خاليا من الحدث انه يعتمد على المتن اللغوي كيف تنظر إلى هذه الظاهرة ؟
ـ أعتقد أن الإبداع في الكتابة لا يتحقق من خلال الحذلقة، وإنما من خلال طرح فكرة ذات بعد إنساني تمس الناس وتلامس أحاسيسهم.. تلك التي تأتي من القلب لتصل إلى القلب، وإلا لكان كل من حصل على شهادة في اللغة هو مبدع.
الفراهيدي وضع فهرس العين، وحدد بحور الشعر وأخترع علم العَروض.. كان علامة في اللغة، ولكنه لم يكتب نصوصا إبداعية.. أو لعله كتب ولكنها لم تلقَ النجاح الذي تجعل الفراهيدي شاعرا تذكر أشعاره وتُعلق قصائده!
وإذا عدنا إلى مذاق الصبر، فان النجاح الذي حققه ـ حسب ظني ـ لا يعزى إلى لغة السرد/القص ولا إلى ما حفلت به النصوص من حكمة وفلسفة وإنما فقط لشفافية العرض ولغته البسيطة المباشرة دون تصنع أو تكلف.
يقول أحد أصدقائك أن لغتك مصابة بالزكام؟
من منهم؟
تقاليد المهنة.. لا أفشي مصدر معلوماتي!
ـ لقد سمعت ذلك من قبل، اعتقد أن صديقي يعزي وصفه ذلك للغتي المباشرة. ومثـلما أدرك أن "حز القيد" تستحق كموضوع لغة أفضل مما كُتبتْ به، إلا أني مؤمن تماما أن فكرة النص عوضت هذا القصور، تماما مثلما كان البوح الشخصي في مذاق الصبر، حيث "كان موضوع الكتابة ومضمونها صنعا شكلها المناسب ويجعلا النص مقروءاً بصرف النظر عن طبيعة الجنس الأدبي الذي صنف فيه" حسب الناقد والكاتب العراقي المعروف الدكتور ضياء خضير.
ورغم وصفه للجزء الأول من "مذاق الصبر" بالتقريرية والمباشرة، إلا أن أحد الكتاب في مداخلته خلال أمسية احتفائية بصدور الكتاب قال عن الجزء الثاني "أنه كان غرائبيا ومدهشا ويحمل لغة أدبية محكمة تقترب كثيرا إلى أجواء الرواية"، بل أنه بالغ حين قال أنها تقترب من غرائبية السرد الروائي عند العظيم "ماركيز" وتفعل في النفس ذات الأثر السحري المدهش". ولعل هذا ما يؤكد أن موضوع العمل يحدد اللغة والمفردات المناسبة له.
هل تخاف؟
"وايد"
مما تخاف؟
كنت أخاف من الفقر. قبل عودتي من انجلترا إلى عمان حيث ذهبت، بعد الإصابة، لتلقي العلاج والتأهيل على نفقة شركة تنمية عمان، وقبل أن يتأكد لي أن اسمي لن يضاف إلى قائمة المستقحين للصدقة والإحسان بعد أن أبدت الشركة استعدادها لمساعدتي لتامين حياتي من العوز، وذلك بإتاحة الفرصة لي لممارسة إنسانيتي وحقي الطبيعي في العمل، كانت مخاوف العوز أشد وطأةً على النفس من أي تبعة أخرى من تبعات الإعاقة، وكانت صورتي كمعاق لا عمل له ولا مورد مادي غير ما يجود به المحسنون تثير في نفسي حالة انكسار بغيضة، وكنت أرتعد خوفا كلما فكرت في مستقبل حياتي دون مصدر دخل يقيني ذل الفاقة ويكف عني شر الفقر. ولطالما أمضيت ساعات وأنا أتلظّى بنار الموقف وأذوق مرارته حين يخرج زائر ـ صديق أو قريب ـ من جيبه بضعة ريالات يدسها تحت وسادة فراشي وهو يهم بالمغادرة!
والآن.. أما زلت تخاف؟
ـ أخاف، ولكن ليس من الفقر، وإنما من المستقبل.. القدر الآتي الذي لا قدرة لي على رفضه! فزمن المستقبل ليس زمني ولن يكون لصالحي، وظني أن قدرتي على المقاومة ـ على غرار الحياة نفسها ـ سوف تضعف.
أنت قلت ذلك أو ما يشبهه في "مذاق الصبر" ولكنك نوهت أيضا إلى احتمال ظهور أدوات أخرى تجهلها ـ حينذاك ـ لإطالة أمد صراعك مع الإعاقة التي كنت قد "تصالحت معها".. ألا يمكن أن تكون الكتابة أداتك الجديد للتعايش مع الإعاقة مدة أطول؟
ـ لم أفكر في ذلك، وان قلت سابقا أن "الكتابة تُسَكِِّنْ الألم".. لكن هذه الملاحظة جديرة بالتفكير.. لعل الكتابة ستغدو بالنسبة لي خط دفاع يطيل صراعي مع تداعيات الإعاقة.
على ذكر الفقر. علي الناصر، والبتول، وسكان مملكة الصفيح في "حز القيد"، ومن قبلهم زباد والشمروخ في "الريحان والدخان"، وهناك عوفيت "في حيّ الله المبروك"، وحسون في "حسون المجنون".. وغيرهم! لماذا تنحاز في نصوصك للأقل حظا من الناس؟
ـ لأنهم الأكثر إثارة وإثراء في الحياة.. ولأني تجربتي في الحياة أتاحت لي التعرف على نماذج مختلفة من البشر. لن ادعي أنني عانيت من الفقر، وان كنت جربت الحاجة وبإرادتي، فأسرتي متوسطة الحال قياسا بمحيطها الاجتماعي. كنت أحب مجالسة المختلفين لمعرفة سـر اختلافهم، وخلال سنوات الصبا كنت أميل إلى مرافقة من هم "اقل حظا" حسب تعبيرك.. المختلفين في لون بشرتهم أو في طبيعة معيشتهم وما يملكون. وثمة شخصيتين أتوق إلى معرفة المزيد عن ما يختلج دواخلها.
من هما؟
إذا ذكرتهما لن تنشرهما!
اعتقد أن من قرأ حز القيد سيعرفهما: البتول وحسون.. ألي هذا حولت "ذات القامة الهيفا" إلى مناضلة؟
هي التي اختارت أن تكون في صف "الأقل حظا" "ضحت بالحياة الرغيدة والعيش الهني، وقالت كلمتها وما مضت!
في كلمة: ماذا يعني لك "مذاق الصبر"؟
ـ الكتاب الذي كتبني.

و"حز القيد"؟
ـ الحلم الذي تحقق ـ وان تأخر ـ التحدي الذي واجهته وتجاوزته..الاختبار الذي نجحت فيه!
كم درجة أعطيت نفسك؟
لا.. هذه لك أنت.. أنت المعلم، وسأرضى بتقديرك.
ما هو شعورك وأنت ترى بعض نصوص "مذاق الصبر" تدرس كنص تطبيقي لأدب السيرة في منهاج اللغة العربية للصف الثاني عشر من التعليم العام؟
ـ تفاجأت بذلك كثيرا وكانت سعادتي لا توصف، ولم أصدق عندما سمعت الخبر حتى رأيت الكتاب أمامي. والمفاجأة الأكبر، والتي أحرجتني بقدر ما أسعدتني، أن يأتي نصي في نفس الفصل الذي يضم نصا من "الأيام" لـعميد الأدب العربي طه حسين. الحمدلله أنه جاء بعده! اعتقد أن جل ما يسعى إليه كاتب هو أن تحظى نصوصه بقراءة الشريحة المهتمة بهذا النوع من الأدب، ولكن أن يدرس نصي لآلاف التلاميذ كنموذج تطبيقي لأدب السيرة، فذلك مالم أكن احلم به. وبهذه المناسبة أود أن أقدم عظيم شكري لوزارة التربية والتعليم على هذا التشريف.
ماذا بعد حز القيد؟
صَدَرَتْ مؤخرا النسخة الانجليزية من كتاب مذاق الصبر (الجزء الأول منه) الذي تولى ترجمته الكاتب المبدع صالح عبدالله الخمياسي العريمي، والذي لم يكتفي بنقل كلماتي العربية إلى اللغة الانجليزية وحسب وإنما عاشها معي خلال جلسات نقاش طويلة بهدف إعادة كتابة النصوص بالانجليزية وبأسلوبه المتميز بدلا من ترجمتها حرفيا.
وقد تكفلت شركة تنمية نفط عمان بطبع الترجمة، ونظمت حفل تدشين تحت رعاية معالي الدكتور محمد بن حمد الرمحي وزير النفط والغاز، وبحضور أعضاء مجلس إدارة الشركة وشركائها الأوروبيين.
كما أني انتظر صدور الطبعة الثانية من "مذاق الصبر.. منقحة ومزيدة ".. واعتبر هذه الطبعة، وان كانت الثانية، ككتاب آخر جديد عن نفس الموضوع، فقد عنيت في هذه الطبعة بالجزء الأول من "الطبعة الأولى" ولكن جاء في بوتقة جديدة حيث تجاوزت الكثير من مما اعترى الطبعة الأولى من قصور، واعدت كتابة كثير من نصوصه، وحذفت بعضا منها، وأضفت إليه نصوصا أخرى جديدة، ورغم ذلك أخشى أن لا ينال "مذاق الصبر" في طبعته الثانية حظه، الذي يستحقه، من التقدير.

جريدة الشبيبة
ملحق آفاق 29 يونيو 2005