عصام عيسى رجب
(السودان/ السعودية)

"ما الذي يسلبُ الروحَ ألوانَها ..؟!
ما الذي، غيرُ قصفِ الغُزاةِ أصابَ الجسَدْ ..؟!"

- مُريد البرغوثي -
يوليو 2004 م

عصام عيسى رجب….أبداً لم يكن يدر بخاطري، وأنا أنظر آثار القصف والرصاص على بنايات في "بيروت"، أن سيجيء يوليو آخر وبعد سنتين لا غير فتُدكُّ فيه "بيروت" ولبنان كُلُّه دكَّاً ….

كنتُ حينها أتساءل مِن أي حربٍ هي هذه الآثار …. آهٍ ما أضعف حيلة الإنسان، بل وما أضعف الإنسان وخاصةً حين يمتليء عن آخره بغرور القوة …. أيُّ قوةٍ وأيُّ بطولةٍ أن تهدَّ غيرك هدَّاً وأنت تدرك تماماً أنك متفوقٌ عليه بعُدتِك وعتادِك ….؟!

ما كانَ أقصر حيلتي وأنا أُقلِّبُ وقتها تساؤلاتي تلك …. لماذا لم يخطر ببالي أنَّ آثار القصف والرصاص تلك ستغدو بعد حينٍ هي ما يَسِمُ ملامح بيروت ولبنان بأكملِه ..؟!

فبراير 2003 م

كُنتُ في "المنامة" …. ألتقيتُ "قاسم حدَّاد" للمرِّةِ البِكر …. كانت أمريكا كعادتِها تدقُّ طبول حربها وعلى العراقِ أيضاً …. قلتُ: كم أخشى هذه الحرب هذي المرَّة …. قال لي "قاسم": لن تقعْ …
كان شاعِراً وكان محكوماً بالأمل ….

….كنتُ وحدي، وكانتْ هُناك …. كتبتُ لها /

"إذا لم تَقَعِ الحرب
بعدَ عَجزينِ من الآن
سنُشعِلُ ليلَتِنا تلك
جسَداً .... وكِتابة"

وقعتِ الحربُ، وخاب كعادتِه أملُ الشاعِر ….. واشتعلت سماءُ العراق ونهاراته ولياليه بالجحيم …..

يوليو 2006 م

دخلتُ الصباح مكتبي …. تذكَّرتُ زميلاً لبنانيَّاً يعمل معنا ….. ناديتُ عليه في شأنِ مهمّةٍ ما …. سألته حين جاءني عن أهلهِ في لبنان، فكسى الحزنُ والألمُ وجهه وهو يقول لي: عَمّي انقتل أمس ….

يا لضعفَ حيلةِ الكلمات ويالقوّةَ الإنسان ..!! كيف لم أجد حرفاً واحداً ينطُقُني ..؟! كيف تماسك وهو يقولُ لي ما يقول ..؟! وكيف ما تهاويتُ وأنا أسمعُ ما يقول ..؟!

أوّلَ أمس، وأنا أمرُّ أمام باب الغرفة سِمعت صوتاً أحسستُ أُلفَتَه .... أرهفتُ سمعي قلتُ إنَّه "شوقي بزيع" …. جلست إليه، كان مُرهق الملامح، وكيف لا ..؟! ولكن كان الرَّهقُ يتراجعُ عنه كلّما قالَ حرفاً ….
يالهُ، كيف يجد الكلام ومن أين بئرٍ جنوبيةٍ يطلع به ...؟! كيف وقد سقط اثنا عشر من عائلته شهداء، فيمن سقطوا من شهداء لبنان ..؟! انكسرتُ تماماً وأنا أطالعه …. تخيلتُني مكانه فانكسرت ثانيةً وألفاً …. ناديتُ عليه ولم أجد ما أقوله له …. أيُّ ألمِ وأيُّ عجز ...؟!

تذكّرتُ حين ناديتُ عليه مساءً قبل سنتين من الآن ….. اتفقنا على اللقاء في "قهوة باريس" عند شارعِ الحمراء ….. كانت الساعة تقتربُ من الثانية ظُهراً حين جاء ….. كان ذاك لقائي الأول به ..... جلسنا هناك وضمّت الجلسة "عصام العبد الله" و "د. موسى وهبة" و "جودت فخر الدين" و "علوية صبح" و "زاهي وهبي" .... أين هم الآن ..؟! أين هما "جمانة حدَّاد" و "ماري طوق" اللتان ناديتُ عليهما وما استطعت لقاءهما ..؟!

الأربعاء 20 يوليو 2006 م

.... لكأنّ هذه الحرب تدورُ في كوكبٍ آخر .... بل قطعاً هي تدور في كوكبٍ آخر يبعدُ عن لبنان مليون سنة ضوئية، وإلا فكيف نُفسِّرُ أن يصدر "المنتدى الثقافي" الأسبوعي لصحيفة يوميّة عربية "كبيرة" وهو عارٍ تماماً تماماً مِن حتّى حرفٍ يتيم – أيّ والله حرف واحد لا غير – يحكي عمّا يدور حاليّاً في لبنان ..... آهٍ ما أبعدك يا لبنان .... آهٍ ما أقربك ..!!

يونيو 1997 م

..... مِن يُصدِّق أنَّ كُلَّ ما تقوم به إسرائيل من دمار شامل للبنان هو ردٌّ على قتل ثمانية من جنوده وأسر آخَرين ..؟! كُلُّ هذه المحرقة، التي تلتهم الأطفال والبيوت والجسور والطرقات وكُلَّ شيء يدُبُّ أو لا يدُبُّ فوق وجه الأرض، مِن أجل عملية عسكرية محدودة جِدَّاً بهدف مبادلة أسرى يرزحزن في السجون الإسرائيلية منذ نحو ثلاثة عقود ..؟! مِنْ يُصدِّق هذا ..؟!

".... يُصوّروننا وكأنّنا البادئون للعنف في الشرق الأوسط .... ويقول ما يقول ببلاغة، وبشكل يُمكِنُ تصديقه وتبنِّيه .... ما زِلتُ أذكر كُلَّ كلمة قالها اسحق رابين في ذلك اليوم:

[نحن الجنود العائدين مِن الحرب، ملطّخين بالدماء
رأينا إخواننا وأصدقائنا يُقتلون أمامنا،
وحضرنا جنازاتِهم عاجزين عن النظر في عيون أُمَّهاتِهم ....
اليوم نتذكّر كُلَّ واحدٍ منهم بحبٍّ أبديّ]

مِن السهل طمس الحقيقة بحيلةٍ لُغوية بسيطة: إبدأ حكايتك مِن "ثانياً"!!
نعم، هذا ما فعله رابين بكل بساطة .... لقد أهمل الحديث عمّا جرى "أوّلاً" ....
ويكفي أن تبدأ حكايتك مِن "ثانياً" حتّى ينقلبَ العالم ....
إبدأ حكايتك مِن "ثايناً" تُصبح سِهامُ الهنود الحُمر هي المُجرمة الأصلية، وبنادق البيض هي الضحيّة الكاملة ..!!
يكفي أن تبدأ حكايتك مِن "ثانياً" حتّى يصبح غضب السود على الرجل الأبيض هو الفعل الوحشيّ ..!!" – مُريد البرغوثي*

سبتمبر 2001 م

".... بعض الأشياء التي فعلتها قوى مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا ضد شعوب أضعف منها، مثل قصفهم مِن الجوِّ حيث لا يستطيع شعبٌ أعزل بالأساس الوصول إلى القاصِف، هي أيضاً أمور لا يُمكن التماس العذر لها .... إنَّ هذا بالضبط هو ما يفعله الإسرائيليون في الضفِّة الغربية وغَزَّة وهم يستخدمون طائرات ف – 16 لمهاجمة منازل الفلسطينيين الذين هم عُزَّلٌ تماماً, ليس ثَمَّة جيش فلسطيني ولا سلاح جوّ ولا قدرة على التصدّي للطائرات .... وأظنُّ أنَّ ذلك أيضاً بِنيَّة الإرهاب .... إن القصد هو فرض الرُعب، وهو يجري بلا قيود وليس ثَمّة فرصة لردّة فعل .... إنه تدمير واضح تماماً لأجل التدمير وإرهاب النّاس ..." - إدوارد سعيد**

لولا أنَّ "إدوراد سعيد" رحل بجسده تاركاً روحه المُقاوِمةَ ترفرف هنا، لقلتُ لكم أنّه أرسل لي البارحة ما أكتبُ الآن هنا .... فقط أضف لبنان إلى الضفِّة الغربية وغَزَّة وسترى صِدق كلمات الحقِّ القويّة ذي....

إلا الألَم .....

ثُمَّ ما هذه الرائحة المريبة ..؟! إنّها تنبعِثُ الآن مِن داخل البيت، لا مِن خارجِه ....

"عِشتُ وامتدّتْ حياتي لأرى ... في الثرى ما كان قبلاً في القِممْ
انهيار المُثُلِ العُليا وانكارُ الكراماتِ ........ وكفراً بالقِيّمْ
وإذا انحطَّ زمانٌ لم تجِدْ ........ عالياً ذا رِفعةٍ إلا الألمْ ....." – إبراهيم ناجي

رسائلُ الحربِ مِنْ رسولاتِ الحبّ ....

.... بائسٌ هذا العدو، بائسٌ إلى حدِّ الغثيان ..!! مَن يخطرُ له مجرّد خاطِر أن يقول لأطفاله: اُكتبوا رسائلكم لأطفال لبنان على هذه القذائف التي سندكُّ بها بيوتهم على رؤسهم ورؤس مَِن خلَّفوهم ..!! الصورةُ، لا أنا، هي مَن تقولُ ذلك /

بيروت البلد ما بتموتبيروت البلد ما بتموت ....

.... ليستِ المرّةُ الأولى التي تطلق فيها إسرائيل عنان آلةِ دمارها لتدُكَّ لبنان، ولكن هيهات .... كُلَّ مرّةٍ كان لبنان كالعنقاء ينفضُ جناحيه ويخرج من تحت الرماد، ويقيناً لن تكون هذي المرّة استثاءً .... أبداً، لن تكونَ استثناءً .....

"سألوني شو صاير ببلد العيد
مزروع  عالداير  نار  وبواريد
قُلتِلُنْ بلدنا عَمْ يِخلَق جديد ...."

و أجل يا "فيروز": بيروت البلد ما بتموت ......

essam.rajab@gmail.com

الخميس 20 يوليو 2006 م

* "رأيتُ رام الله" لمريد البرغوثي (ص 275 و 276) - كتاب الهلال / عدد 558 – دار الهلال – ط1 يونيو 1997 م.

** "أُصولُ الإرهاب" عنوان الحوار الذي أجراه ديفيد بارساميان مع إدوارد سعيد (ص 106 و 107)، وهو من بين الحورات الست التي ضمّها كتاب "الثقافة والمقاومة" - إدوراد سعيد / ديفيد بارساميان، ترجمة: علاء الدين أبو زينة، دار الآداب – ط1 2006 م.