اسكندر حبش
(لبنان)

اسكندر حبش<دخلت أستريد حياتي ذات صباح خريفي ببيروت>. هذه هي الجملة الأولى التي تكتبها الروائية اللبنانية إيفلين عقاد (تكتب بالفرنسية) في مقدمتها لديوان الشاعرة الفرنسية أستريد غاتو <الجسد الملحمي> (الصادر عن منشورات <لارماتان>، العام 2002). وتمضي الكاتبة اللبنانية بتذكر تفاصيل ذاك اللقاء، مع زميلتها الفرنسية، الذي حدث خلال معرض الكتاب الفرنسي الذي تشهده العاصمة اللبنانية، حيث تحدثتا عن كتابيهما الصادرين، يومها، وحيث تسجل، كلّ واحدة منهما، شهادتها عن المرض الذي كانتا تحملانه: السرطان.

جملة عقاد تصحّ على عديد من لبنانيين، إذ دخلت أستريد غاتو <حياتنا>، ذات يوم خريفي، وبشكل مفاجئ. ولا نعرف أبدا إن كانت ستخرج منه حقا، على الرغم من غيابها نهار أول من أمس الاثنين، بسبب هذا المرض. هكذا كانت أستريد، كتلة من صداقات عرفت كيف تنسجها منذ زيارتها الأولى للبنان الذي وقعت في حبه، لدرجة أنها كتبت عنه الكثير، لدرجة أنها اعتبرت نفسها ابنة له، تحمله معها، عبر كلماتها، أينما ذهبت. ربما من هنا نستطيع أن نقرأ مثلا إحدى قصائد <الجسد الملحمي>، إذ تقول:

<وُلد في لبنان
هذا الجسد الملحمي
تعلّم كلّ شيء
أحيانا في بعض الصباحات، يذرف
بهشاشة، بعض دموع المنفى
أحيانا، وفي بعض المساءات
يغفو برعب كبير
الجسد الملحمي
تعلم الكثير
من ندوب المدينة
يعجبه درس الأشجار
الدرس الفخور والعنيد>.

في مساء خريفي من مساءات بيروت في العام 1999 جاءت أستريد إلى <السفير>، لتلتقي بعضنا في الصفحة الثقافية. ومنذ اللحظة الأولى دخلت تفاصيلنا كأنها تعرفنا منذ دهور، لدرجة أنك تشعر أحيانا بالقلق من جراء هذه <المحبة> التي تتفاجأ بها. <محبة> أكملتها بأطنان من الايميلات التي كانت ترسلها كل يوم، من مدينتها <ليون>، لم تكن تنتظر أجوبة عليها، في أغلب الأحيان، إذ لو فعلنا، لقضينا أياما وشهورا من دون القيام بأي شيء، إلاّ الكتابة إليها.

هكذا أمضت سنواتها الأخيرة: في الكتابة، الكتابة الأدبية كما الكتابة إلى أصدقائها المنتشرين في العالم. كأنها كانت تستعيض بذلك عن حياتها التي تشاهدها تهرب من أمام عينيها. حياة تنسجها بكلمات وبمشاريع، لم يكن يعرف أحد إن كان بإمكانها أن تحقق ذلك كله، وبخاصة حين يشتدّ عليها المرض ما يتطلب معالجتها بالجلسات الكيميائية. ومع ذلك، لم تتراجع عن التفكير بذلك، مع رغبة حقيقية في نشر كل ذلك إما في بيروت وإما عن هذه المدينة، التي وجدت فيها أجزاء من حياة كانت تحلم بها.
من بين أحلامها أن تأتي إلى هنا دوما. هكذا كانت تبحث عن نشاطات ثقافية، وربما عن مسوغات، لتأتي كل عام خلال معرض الكتاب الفرنسي. هي مناسبة كانت تجد فيها بعضا من رغبتها الدائمة في زيارتنا. هذا ما حدث معها أيضا، في أيار العام ,2000 حين أقامت مدينة مارسيليا أسبوعا للثقافة اللبنانية. جاءت من مدينتها، لتكون أول من حضر وتابع جملة النشاطات المختلفة.

لا يمكن الحديث عن شعر أستريد غاتو إلا بكونه حالة من حالات الكتابة التي تشهد على شيء ما. ما من عمل لغوي حقيقي على القصيدة، كما ما من عمل على الفضاء والمناخ. الكتابة عندها، كانت مجرد بحث عن توازن مع العالم الذي تعيشه. تقول إن قصائدها ترغب <في قول الحرب، السرطان. والنضال من أجل الشفاء منه هو معركة من أجل السلام>. ربما هذا ما كانت تبحث عنه: سلامها الداخلي إثر إصابتها بمرضها، إثر هذا التحول الفيزيائي الذي أضاعت معه كل الحدود التي كانت تعرفها. هي أيضا حدود هذا البلد الذي أحبته وأحبت <حرارته الإنسانية> التي وجدت فيها ما يعوضها عن الكثير مما فقدته. من هنا، قد لا يكون هناك أي معنى للنقد الشعري حين تجد نفسك أمام كائن، ظن أن الكلمات قد تلعب دور العلاج.
ربما آمنت بهذه الفكرة كثيرا. ربما هي الكلمات والكتابة، هذا البوح على الورق هو من جعل عمرها يطول سنوات إضافية، من جعلها تعتقد بهذا الخلاص الذي طالما انتظرته، مثلما نجد أيضا في قصيدة لها، تقول فيها:

<لأنه يجب علينا أن نكتب
نحطم كل المواكب
من أجل القصيدة وحدها
ما سيكون عندها كفننا
إلا هذه الكلمات الفجة
إلا هذه الكلمات المعتمة
المطمئنة والنافذة
إلا هذه الأشجار والليل
وهذا البحر غير المتيقن>.

قد يكون اليقين الوحيد الذي لحقت به، هذه الكلمات. ربما الكلمات هي أيضا يقيننا الوحيد. إذ ما نستطيع القيام به أمام الموت سوى أن نكتب كلمات أخرى علها تحاول أن تؤجله قليلا.

****

أستريد غاتو
علبة يسمونها القدر

عباس بيضون
(لبنان)

يصلني اليوم نعي استريد غاتو في البريد الالكتروني. اسكندر الذي ينظر اكثر مني في الكومبيوتر أبلغني. في الحقيقة وجدته يكتب كلمته عنها المنشورة في مكان آخر من هذه الصفحة. البارحة كنت أنظر في صفحة الوفيات في <السفير>. بحثت عن نعي لعائلات مبادة ووجدت ثلاثة لأسر كاملة من صور وعيثرون، لم تكن هذه أحرفا فحسب ولم تكن أيضا دموعا، نعي استريد الذي وصلني بالفرنسية كان كذلك. لا أعرف متى تتقطر حروفه دموعا أيضا، لا أريد ان أتكلم الآن على استريد. لا أستطيع ان اختصرها في هذه العجالة. في الحقيقة احتاج لوقت لأفصل هذه الأشياء عن رأسي وعن نفسي وعن جلدي. استريد لم نعد نراها في الفترة الأخيرة وهي أيضا كانت تفضل ان تمر على الانترنت كزائر عمومي. كانت هذه فترة من التخفي وربما من الهرب لكن من كان يصدق انها ستنتهي بنعي. لا استطيع ان أكتب الآن عن استريد. حتى تلك القصص التي يعرفها الجميع سيؤلمني ذكرها، سأستعيد مع ذلك واحدة منها، أكثرها حيادا. تمشيت معها في حيي وفجأة اكتشفت مباني ومظاهر معمارية لم أكن أنا في كل السنوات التي عشتها في الحي اكتشفتها. ليس هذا وحده المدهش في استريد. كانت كلها كذلك لدرجة أنني أفضل ان أتذكرها كجنية ظهرت لي ذات يوم وعادت إلى موطنها. أريد فقط ان أنشر القصيدة التي أرادت مني استريد ان أكتبها كمقدمة لكتابها الشعري الاول، لم تجدها. بحثت فيها عن شيء لم يقدر الشعر على قوله. أظنها فهمت ذلك بعد وقت. الآن بعد كل هذه السنوات ستكون القصيدة تحية لها، كانت الشيء الأفضل الذي صنعته لها، لكنها لم تحبه.

يا لي من أعثر، يا لي من غشيم.
هل تذكرين استريد
هناك علبة يسمونها القدر
يخلطون فيها السوائل عشوائيا
أنت تحملين ثلاث كؤوس بيد واحدة
في هذه الغرفة التي صادف انها حمام
ثلاثة مشروبات بيد واحدة
ولم تعرفي أين كانت السعادة
وأين كان القدر
أين كان اسمك مخطوطا بأحرف غريبة
لم تعرفي بالطبع
ان زهرة Pivoine لا تدل على شيء
هل كانت حظوظا منحك إياها البائع
أم ريشة من ببغاء
كان يصرخ في مكان آخر <امسكوا السر>
وتسألين مع ذلك
من غنى على رصيف الأزهار
هل كان ذلك جوابا
أم Pivoine في نهاية الموسم
عندما انكسر باب الحمام
أي مشروب ضاع
أي اسم فُقد
من قال مع ذلك ضاحكا ان الأجوبة كلها هنا
وإن القبلة مع سن ضائع
هي نصف الأشياء.

السفير- 2006/08/30