فضيلة الموسوي
(البحرين)

فضيلة الموسويفي باكر الصباح تفيق، تدوزن أوتار حنجرتها، وتلمعها بالحب، تسبقنا الى الميكرفون، كي ترسل لنا هداياها عبر الإذاعات الصباحية. بضغطة زر صغير تلبي لنا حنينا عذبا، تنساب الموسيقى هادئة، وادعة، كذبذبات منعشة تمس الروح، تتسلل إلى شغاف القلب، ترسل هدهدات منعشة، تمسح بقايا النعاس بشدو ساحر( سهار بعد سهار .. تيحرز المشوار .. سهار أو زوار شوي وبيفلو .. وعنا الحلا كلو.. وعنا القمر بالدار). يبدأ النهار طازجا، عابقا بالحماس والنشاط والحب والأمل، حين ترفل بك الى أقصى ركن في القلب، ( دق الهوى عالباب قلنا الهوى كذاب.. ولما فتحنا الباب طلوا حبايبنا) يعلو الصوت واعدا، صادقا، ماطرا ( تبقى ميل تبقى اسأل .. متل الأول ضل اسأل .. الله لا يشغلك بال ودي لي منك مرسال.. اسآل اسآل).. صوت يسخو بالحب، إذا علا بالجواب الهادر فليس لك إلا أن تحلق وتستمتع معه، وتكاد تطير إذا كنت تقود السيارة لتجاري هذا التحليق الحالم بالرضا والمحبة ( بكره لما بيرجعوا الخيالي بترجع يا حبيبي .. بكره والجواهر الغوالي شعرك يا حبيبي). يتأجل القلق والسأم في حضرة حنجرة بهذا الشموخ غير المتعال. قرار رصين يدعو إلى خشوع وحزن من نوع خاص، يرقرق العين ويمسح تعب القلب، حين ترخي أحبالها الصوتية يأتيك مخمليا، ناعما، ناعسا (كنا نتلاقى من عشية نقعد على الجسر العتيق / وتنزل على السهل الضبابي / تمحي المدى وتمحي الطريق)، هذا الصوت القزحي، يعود ثانية شفيفا، رقراقا، رحيما، رخيما ( بحبك ما بعرف هن قالوا لي من يومها صار القمر أكبر)، يغني للقمر، يعاتبه، يستأنس بضيائه، يستدعيه شاهدا على عراك الأرض (القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلوا).

فيروزفيروز.. أسطورة الصوت الملائكي إذا عبرت ردهة المنصة، فهي خطوات واثقة من الأنفة والاحترام.. إذا وقفت للغناء، وقفت لها كل الدنيا.. تلتهب القلوب تصفيقا، وتشتعل الأيدي حبا متواصلا. تخفض وجهها عزة ووقارا، ثم تعلو هامتها ببهاء جليل فتغيب الابتسامة تحت إجلال القصيدة، وسحر اللغة، كأنها توصلك بأسرار الكون وعظمته، تدعوك للتأمل والصمت والخشوع، فيروز حين تغني للحب، فهي تغني للحب المستحيل المنذور للريح والنسيان، تغني للحلم. حب من طراز الخيال الذي لا يمكننا أن نقيس عليه مشاعرنا، انه أسمى من أن نصل إليه. حبا مثاليا، عفيفا، وإنسانيا، (حبني اليوم وانساني بكرا .. بحفظ لك دوم في قلبي ذكرا). اسمعْ الحب المرتجى ( تعا ولا تجي واكذب عليّ الكذب مش خطية ) أو الموعود بالأمل (كلمة حكيها وراح من دربي .. ورجعت وحدي وما رجع قلبي) والوفي بالمحبة (بعدك على بالي يا قمر الحلوين.. يا سهر بتشرين يا ذهب الغالي).

كأنما تولدت لدينا غريزة جديدة، أو رياضة جديدة تدعى رياضة الأمل. أصبحت الحاجة ملحة لهذا الصوت الذي ربينا على سماعه منذ نعومة أيامنا، تتعطل الحواس الأخرى إلا السمع، حين يهمي على وجداننا، يكف عنا التوتر والضيق، نستدعيه كي ننفض عن أجسادنا تعب النهار، نتوق إليه، كأننا ننتظر بشرى سارة. وصلات قصيرة لا تحتمل تكرار الجملة الموسيقية، لا تسمح بالسأم، لكن شدة التوق تغري بإعادتها، كمن يأتي بأصغر كأس ليملأه سُكْرا، كلما فرغ السكر أعيد الكأس، تنتهي الخمس دقائق ولا تنتهي الأذن من الاستماع. صوت فلكلوري يكتنفه سحر خاص، لا يمل، ولا يشيخ، مساحته بحر، أوتاره موج في كل حالاته، حزنه صدق، فرحه هناء العصافير، صمته أسرار، تراتيله صلاة، خشوعه كخشوع شموع المعبد، صوتٌ تمائمه مصاغة من الريح، والعيد، والمدى، والضباب، والحلم، والغياب والقمر، والسماء، والهوى، والحرية والمحبة. تغوي السامع بشعرية الألق الحميمي الخفي الدفيء حينا، والراعش الجامح نحو أفراح فردوسية حينا آخر. هذه النبية المنذروة للامحدود من الهدايا والورود، من الوجد والعشق الصوفي، من الليل والحكي والحنين، من الثلج والصيف والعناقيد، من الغيم الحزين، ومراكب الريح. كم أغنية رقصت في خيالنا؟ مائة؟ .. مائتين؟ أكثر؟. كم أغنية من قديمها لم تصافح أسماعنا بعد؟ .. لا أدري.. كما البحر لا يدري كم موجة علته وكم سفينة عبرته.

حنجرة ذهبية اتسعت لطبيعة لبنان الجميلة، طافت على السهول والبقاع والغابات، وأسقطت أوراق تشرين ونثرتها بالدفء، حين ترنو للسماء يتساقط المطر والثلج (صار الشتي ينزل علي وإجا الصيف وانت ما جيت)، منعشا مع نسيمات الربيع، وحميما مع نيسان (مرق الصيف بمواعيدو والهوى لملم عناقيدو). رسمت التضاريس ولونتها بأربعة فصول، ثم عبرتها، تهبط السهل فتخصبه سندسا (لنا مكان مؤنس حيث المروج سندس/ وللهوى حكاية عند الغدير تهمس)، تصاحب الورد والشجر،(بحنا فلا الورد حكا ولا شكانا النرجس) تناجي العصافير( أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن) ترتاد المقاهي في انتظار حبيب لا يأتي، (في قهوة عالمفرق .. في موقد وفي نار/ يبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار/ جيت لقيت فيها عشاق اثنين صغار/ قعدوا على مقعدنا سرقوا منا المشوار)، ولأنها جارة القمر تعود لسؤاله، وعتابه، (يا قمر يا قمر لشو تطلع يا قمر .. لولا بتقعد تتسمع من خلف لوراق/ مش أحسن ما تقوم تطلع وتفضح العشاق). تسافر بنا الى زمن القصيدة البعيد، كجارية تغزل القافية على قيثارة التاريخ، تتشح بخمار ألف ليلة وليلة وتسمو بالموشح (أنا شهرزاد القصيدة.. وصوتي غناء الجراح.. أنا كل يوم جديدة.. أسافر عند الصباح)، كما تستضيف بأوتارها أبا نواس (حامل الهوى تعب يستخفه الطرب ....... كلما انقضى سبب منك عاد لي سبب/تعجبين من سقمي صحتي هي العجب).

سافرت إلى الأوطان والشعوب، مع باقات الود والتعاطف، فكان لبنان ينزف جراح الحرب (يا هوى بيروت يا هوى الأيام / ارجعي يا بيروت ترجع الأيام) وكان الشام في نشيدها عطر الدهر، وظمأ الشرق (سائليني يا شام حين عطرت السلام/كيف غار الورد واعتل الخزام)، وهو للمساكين بركة ورحمة (ركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنسيان.. وتركوا ضحكات اولادن منسية عالحيطان)، ولكن الحنين لما انعطف على زهرة المدائن كان دامعا، وجريحا (الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان)، ينشد العودة (سنرجع يوما إلى حينا ونغرق في دافئات المنى)، يصرخ ثائرا ( الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان .. )، ثم يعرج على مكة حاجا مصليا (غنيت مكة أهلها الصيدا .. والعيد يملأ أضلعي عيدا). فيروز المحبة، بلغ سخاء حنجرتها بعيدا إلى أدباء المهجر فأطربتنا بحفنة من محبة جبران ( إذا المحبة أومأت إليكم فاتبعوها، إذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها، إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها) ومن أنين الناي (أعطني الناي وغني فالغنا سر الوجود/ وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود). أن تستمتع بالشعر، يعني أن تستمتع الإذن بلفظ يصقل الحروف بمخارج صافية، نقية، كنهر بلّوري. تأخذك في أرجوحة من الغبطة اللامتناهية، من هذا السلسبيل المنعش، المنهال على جوارحنا، وأحاسيسنا، توقظ فينا المحبة، فيغفو في هواجسنا الموت بتراقص شمعة القلب. توشوش السريرة بفيض حنون، تتمرأى في خواطرنا المتعبة وتبلسمها بالصلاة. ونحن في فلكها حالمون.

منذ اكتشاف صوت فيروز في الجوقة الموسيقية في الكنيسة، الى رعاية الرحابنة لهذا الصوت المخملي رعاية متفانية، حيث صقل بالألوان الأوروبية والألوان الشرقية الصعبة، مع مختلف الأوركسترا، درب على الكثير من المقامات والتجارب الأخرى، فتخطى كل هذه القدرات، وتكونت لدى معشوقتنا خبرة لم تحصل عليها أية مطربة أخرى. كما رُبيت على مبادئ ثابتة، لم تكسرها قط. سخر الصوت للفن الراقي، الرائع لمحبيها، ففي أدبيات الرحابنة ألا تغني فيروز لأنظمة أو ملوك. لا لحكام، لا لأشخاص، لا لأسماء، لا لأحد (لا عرفنا أساميهن .. لا عرفوا أسامينا).

كان بيت فيروز ورشة عمل دؤوب. كان مثلثا خرافيا، يتكون من الأخوين رحباني، وفيروز، بيد أن الأخيرة أكبر أضلاعه. هكذا وصفت تلك التوليفة. قصائد الأخوين انفردت بالسهل الممتنع، مفردات قليلة، بسيطة، ومعنى واسع، يسع ألحانا تتموسق بكل أطياف العشق، لتعانق الحنجرة المتواصلة دوما بالشدو والشذى، والحياة، والخير. حين تنشد هذه الفيروز، يضحك العود، وتتراقص الدفوف، يحل الزغلول ليأكل تارة من يدها اللوز والسكر، وتارة ينقر أوتار القانون، ولنا نحن كل هذه الذخيرة الفنية من روائع الرحابنة، وهذا التراث الجميل من حكاية الصوت العريق.

لفيروز كل الصوت .. ولنا كل الصمت .. أطال الله في صوتها.

28/5/2005

fadlegendx@maktoob.com