كريم رضي
(البحرين)

كريم رضيالشعر حقيقي جدا لدرجة أن الواقع يجب أن يُسأل من أية قصيدة استلهم وجوده وليس العكس. نعم هو حقيقي حتى أن الواقع يبدو خيالا محضا.
هناك أسئلة أجدها في كل لقاء شعري تقريبا. مثلا من هي "صفية" التي في عنوان ديواني الأول. من هو "الملك" في هذه القصيدة ومن هو "الصعلوك" في تلك. أعرف ما لا يحصى من الشعراء الأصدقاء الذين تعرضوا لأسئلة مشابهة.
ليست القضية في عزوف الشاعر عن التفسير من أجل إشاعة ديمقراطية القراءة بديلا لأحادية التأويل. هذا جواب استنفد وجوده. لكنه الإيمان بأن الكائنات مصدرها الشعر وليس الشعر مصدره الكائنات. لا أعني الشعر بمعناه اللغوي الضيق بل بمعناه الأشمل كإطار عام لفنون القول والصورة. أي بما يمتد لشعرية اللوحة والرواية والسينما.
ينسب لفرويد قوله "ما ظننت أني ابتكرت شيئا إلا اكتشفت أن الشعراء سبقوني إليه". فالشعر حقيقي جدا. ما يجعلنا نبكي مع قيس وليلى ونتأوه لعذاب حرمانهما ليس إلا شعر قيس. و ما يجعلنا اليوم نشكك بشجاعة في عذرية حبهما ليس إلا "أخبار مجنون" قاسم حداد. أرى الشعر حقيقيا جدا تماما كالحلم.
غالبا حين أفاجأ بموت صديق أو قريب أتذكر أني رأيت البارحة شخصا يبكي دون صوت في صحراء، أو رأيت ثوب امرأة عارية يغرق في الدم، أو رأيت شخصي ينطلق في دهاليز سوداء لا نهاية لها. في قصته "أنا أبيع أحلامي" يكتب ماركيز عن امرأة كولومبية اسمها العرضي لا الحقيقي "امرأة السلام" تبيع أحلامها التي لا تخيب على السادة الأثرياء المغرمين بمعرفة ما سيحدث لهم في الساعات التالية.
بالطبع ليست وظيفة الشعر بيع النبؤات. لكن الشعر يصنع حقيقته لا حقيقة غيره. تقوم مثلا رواية (باودولينو) لأومبيرتو إيكو على فكرة الأكاذيب التي صنعت حقائق. أشعار باودولينو ورسائله عن الأحداث التي لم تحصل قط، والتي آمنت بها الأميرة المعشوقة لا لشيء إلا لأن باودولينو يرويها. فيما بعد سنجد ألأرض المقدسة التي حلم بها باودولينو شعرا، حقيقة مجسدة.
على المتلقي إذن أن يسأل: ماذا سنرى من الوقائع التي تستلهم هذه القصيدة. وهو سؤال يوجهه المتلقي لنفسه لا إلى الشاعر. هذا يحدث لنا كثيرا. حين نمر على مشهد ما أو نعيش موقفا معينا نتذكر أن المتنبي أو البحتري أو شوقي قالوا شيئا كهذا. دائما هناك بيت شعر نستدل به على حدث ما، بيت شعر سابق للحدث كأنه الحقيقة والحدث انعكاسه.
الشعر هو الأصل إذن، فالخالق كان شاعرا. إن كونا بهذا الجمال المركب، مخلوق من مواد أولية بسيطة في حد ذاتها، لا بد أن وراءه روح شاعر عظيم.
كان أبي أميا تقريبا. يعرف فقط بعض الإنجليزية التي تعلمها بمدرسة شركة النفط. يقرأها بشكل جيد لكن يكتبها بشكل أقل جودة. وحين هبط أول إنسان على سطح القمر عام 1969م وجادل كثيرون في صحة ذلك. قال أبي ببساطة: لا يمكن الجدال في حقيقة الهبوط على القمر. لأن أغنية بالإنجليزية في مدرسة الشركة تقول:

Let us go to the moon. When the sky is dark. There are a lot of stars.

"دعنا نذهب للقمر، حين تكون السماء مظلمة. هناك نجوم كثيرة".

وكان بمعنى من المعاني يستلهم إيمانه بحقيقة الوصول للقمر من هذه الأنشودة.
لقد رأيت الكثير من الشخصيات والأحداث التي قرأتُ أو كتبتُ عنها بعد القراءة أو الكتابة أكثر مما رأيت قبلها. هكذا سيحرر الشعر المتلقي من ماضيه ويذكره بمستقبله. تماما كما يأخذك باولو كويليو في بحثه عن زوجته الضائعة في (الزهير) لتجد حقيقتك أمامك لا وراءك. حقيقتك التي تنتظرك هناك في أقصى العالم أو على مقربة من نافذتك التي أغبرت في غفلة فرشاتك عن تنظيف زجاجها.
هكذا سيكون لكلمة "التلقي" معناها اللغوي بكل ما فيه من استقبال للقادم. أن تكون متلقيا ليس أن تتلقى شيئا كان في ماضي الشاعر أو ماضيك، بل أن تتلقى أسماء جديدة تدلك على حقائق غائبة. هكذا تلقى الإنسان الأول، أبونا ألأسطوري آدم أسماء الأشياء كلها، فاكتشف حقيقتها التي لم يعرفها يوما. وهكذا سيكون للخلق معناه الصحيح الوحيد وهو الشعر. مع كل قصيدة تقرأها أو تسمعها، ابحث عما بعدها. عما تؤسسه القصيدة. عما يصدر عنها لا عما تصدر عنه. سيكون هذا حلا نهائيا وحاسما لكل جدل التأويل والغموض والوضوح الذي أقلق الشاعر والمتلقي إلى ما لانهاية.
في المرة التالية حين يسألك متلق عن ماضي نصك خذه إلى مستقبله، وقل له ستجد إجابة سؤالك في حياتك لا في حياتي. وحين تكون متلقيا أنت نفسك، لا تسأل الشاعر عن امرأة نصه، بل اسأل نفسك، عن "ليلى" التي ستطلع لك بعد القصيدة من زاوية مقهى أو ممر طائرة أو مكان مجهول، وحيث سترى القصيدة التي طالما عذبك البحث عن مصدر معناها، وقد تجلت جسدا أو نغما، وأنت تردد في دهشة: "كأني قرأت هذا من قبل".