سعد سرحان
(المغرب)

سعد سرحانلكل لعبة تاريخان: ما قبل اللعب وما بعد الجد.
فلعبة الغولف، مثلا، تطورت عن لعبة شبيهة بها كان يلعبها الرعاة في المروج بين قطعانهم، حيث الحفر طبيعية والكرات من جذور الدوم الصلبة، أما العصي فمعقوفة لأسباب أخرى ليس الذئب أولها وليس آخرها الثمار العالية... وكان أن جاء رعاة آخرون، رعاة أنيقون اقتطعوا من المدن أطرافها النقية وحولوها إلى مروج اصطناعية بها برك ترتوي من عطش الفقراء. ولأنهم يأنفون من رؤية الماعز، فقد أطلقوا بها أسرابا من البط.. هكذا صارت لهم لعبة أنيقة ومكوية بعناية تليق برعاة الشركات والبنوك وقطعان الأرصدة.
الألعاب الأولمبية، أيضا، لها تاريخان. فهنالك الألعاب الأولمبية التي شارك فيها نيرون شخصيا بعربة تجرها ستة خيول في سباق كل عرباته تجرها أربعة فقط، ولم يعتبر أحد ساعتها أن الحصانين الإضافيين عبارة عن منشطات. وهنالك الطبعة المزيدة والمنقحة التي تنقلها القنوات الفضائية الآن، ويعاقب المشاركون فيها على مثقال ذرة من مادة محظورة قد تكون تسربت إلى سوائلهم من أقراص الزكام أو توابل الطعام حتى. أما المتوجون فيها فيصبحون أشهر ليس من نيرون فقط بل من كل آلهة الأولمب أيضا.
أما كرة القدم، وهي مربط الفرس، فلها تاريخ مشهور وتواريخ مغمورة لا يكاد يأبه لها أحد. ففي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تأسست معظم الأندية الكبرى بعد أن كانت اللعبة قد خضعت لجل القواعد المعروفة الآن، ولا شك أن الفضل في ذلك يعود إلى الإنجليز. أما ظهورها ولو بشكل جنيني فلم يحظ في الغالب بأسئلة ملحة.

***

الصينيون يعتبرون أنفسهم الآباء الروحيين للعبة، كونهم مارسوها منذ أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، ومعهم ظهرت الكرة المصنوعة من جلد الحيوان والمملوءة بالهواء، ومعهم أيضا ظهر المرمى بقوائمه الخشب وشباكه الحرير.ولقد كانت كرة القدم إحدى وسائلهم للتدريب على فنون الحرب... إننا لا نملك إلا أن نصدقهم، فالصين أرض الفلسفات القديمة والديانات الأرضية، أرض اليوغا والكاراتيه... ودودة القز أيضا. والأرجح أنهم لم يتحولوا عن كرة القدم (وليتهم ما فعلوا) إلا بعد أن ألهاهم التكاثر.
اليونانيون لن يعدموا حجة لتأكيد فضلهم في ظهور اللعبة حتى لو استعانوا في ذلك بالإلياذة : "تم ضبط أناوسيكا ووصيفتها تلعبان". فهم أيضا صنعوا الكرة من جلود الأبقار وملأوها رملا. ولقد كان شائعا لديهم انتزاع الكرة من الخصم بواسطة اليد، ما يجعل اللعبة عندهم أقرب إلى الكرة المستطيلة حاليا. اليونانيون رصعوا تاريخ المعرفة بأسماء عديدة، وإليهم يعود الفضل في تأسيس علم المنطق وفن الشعر... وهم الذين هندسوا الكون بالأساطير العميقة. فهل نستكثر عليهم أن يكونوا، في لحظة طيش، قد لعبوا كرة القدم أيضا؟
الإمبراطورية الرومانية عرفت كرة القدم قبل الميلاد. وهنالك لوحة فنية تبين ستة شبان رومانيين يقذفون بأقدامهم شيئا مستديرا مثل الكرة، ومنقوش على اللوحة "نحن أصل كرة القدم"، ما يحمل على الاعتقاد أن الإنجليز أنفسهم عرفوا اللعبة من الغزاة الرومانيين.
وعلى العكس من الإنجليز، فإن الأسبان أخذوا كرة القدم عن الهنود الحمر الذين كانوا يصنعونها من المطاط. فالقائد الإسباني كورتيز أخذ فريقين من الهنود الحمر إلى اسبانيا حتى تتفرج الملكة على هذه اللعبة وذلك سنة 1528 ولم يدر بخلده (فقد كان له خلد) أنه بعد قرون ستعرف البطولة الاسبانية لكرة القدم استقدام العديد من نجوم اللعبة مقابل ملايين الدولارات وهؤلاء النجوم (هل هي صدفة؟) معظمهم من أمريكا اللاتينية، أحفاد الهنود الحمر على الأرجح.
أما العرب فمدينون لعلماء الآثار والمؤرخين في الكشف عن فضلهم. ففي مدينة القادسية العراقية تم اكتشاف لوحة عمرها أربعون قرنا تمثل قدمي شخص يستعد لتسديد الكرة. أما في مصر، وفي مقابر بني حسن تحديدا، فيؤكد المؤرخ السوفيتي سوسكين أنه وجد رسوما تشبه كرة القدم يعود تاريخها إلى 4500 سنة قبل الميلاد، فيما يذهب الكاتبان السوفياتيان تسيريك وبولوكاشين إلى أن الجد الأول لكرة القدم عاش في مصر التي لم يجد الأثريون بها رسوما فقط، بل وجدوا الكرات أيضا. وإذا كان المؤرخون القدامى يقولون إن اليونانيين أطفال مقارنة مع المصريين، والإشارة هنا إلى العراقة طبعا، فلا نستطيع إلا أن نصدق، نحن العرب، أن الكرة مصرية. فهل يعقل أن يشيد الفراعنة الأهرام وأن يكونوا عاجزين عن اجتراح هذه الأعجوبة الصغيرة: كرة القدم؟.

***

تكاد كرة القدم أن تكون ديانة قائمة بذاتها. لها معتنقوها والمشككون في رسالتها، لها فروضها وسننها، لها معتدلوها ومتطرفوها، لها سدنتها ومارقوها، لها شرائعها وهياكلها طبعا.
الجامعة الدولية لكرة القدم هي المرجع الأعلى للعبة، إنها فاتيكان كرة القدم ورئيسها هو مفتي الديار الكروية. ولقد أصبح لاسمها في المسامع وقع صندوق النقد الدولي ومجلس الأمن.بل إننا نسمع الفيفا عشرات المرات قبل أن نسمع اليونسكو مرة واحدة.
اللاعبون الذين وهبوا حياتهم لكرة القدم، فأداروا وجوههم لكل شيء عداها حتى أصبحوا من أولياء اللعبة الصالحين، لهم مريدوهم بالآلاف في الملاعب وبالملايين أمام الشاشات... ولأن الأندية لا تضيع أجر من أحسن لعبا فإنها تغدق عليهم من الحسنات نقدا وعدًّا وبالملايين طبعا. ومن اللاعبين أصحاب الميمنة وأصحاب الميسرة. ولعل لهم الرِّجْل الطولى في ظهور الجناح الأيمن والجناح الأيسر.أما الذي يجيد اللعب بقدميه معا فيكون حظه أوفر ومكانه أضمن.
وبعيدا عن القدم يستطيع اللاعب تداول الكرة برأسه أو صدره مثلا دون أن يستشيط الحكم صفيرا. وحدها اليد محرمة. فاليد مبطلة اللعب.
أما الجمهور، فمنه العبد الضعيف مثلي الذي يكتفي بالتلفزيون، ومنه العبد القوي الذي يعتمد على منكبيه في تدبير مقعد بالملعب، الملعب الذي يكاد أن يكون معبداً للعبة حيث الجماهير تهتف من المدرجات بصوت واحد موحد، فإذا تشجيعاتُها تراتيل ترشح عرقا وخشوعا.
وإذا كان هنالك متطرفون في اللعبة لدى كل البلدان، ولعل أشهرهم من بلاد الإنجليز، ويقال لهم الهوليغانز، فإن الروح الرياضية هي المعادل الأخلاقي للتسامح في كل الديانات.
وكأس العالم، أليس حَجًّا؟

***

الديني والأسطوري هما سمتا كرة القدم مع سبق الإصرار, ولنا فقط أن نلاحظ التسميات التالية :
أجاكس أمستردام : فأجاكس هو أحد أبطال حرب طروادة، ولابد أن الذين أطلقوا اسمه على النادي ساعة تأسيسه كانوا يعرفون ذلك جيدا.
فورتونا دسلدورف : فورتونا هي آلهة الثروة عند اليونان.
جوفونتوس : في أساطير الحب والجمال عند اليونان، نقرأ عن لوحة تتوسطها جوفونتوس محاطة بالوصيفات (هل كنَّ سبعا؟) وهن يحملن كؤوسا.
ثم من أطلق اسم بيليه على أديسون أرانتيس ناسيمنو ؟ فبيليه هو والد آخيل ولقد كان ملكا أيضا.
بيليه ملك كرة القدم قام بجولة في آسيا. ولدى عودته إلى بلاده قال للصحافة: في أسيا اكتشفت أنني أشهر من المسيح.
وبعيدا عن الأساطير اليونانية، فالأرجنتين أنجبت أسطورة اسمها مارادونا. مارادونا الذي سجل بيده هدفا ضد الإنجليز وحين سئل عن الأمر قال : إنها يد الله. وهو ردٌّ صوفي يُذكِّر، مع فارق المناسبة، برد آخر: ما في الجبة إلا الله.
أفلا يكون ما يخطه اللاعبون بأقدامهم على صفحات العشب كلاما حكيما لا تفهم منه عيوننا القاصرة سوى معناه الفرجوي ؟

***

وكما حول قضايا أخرى، فإن للكتاب آراء مختلفة في كرة القدم. فألبير كامو وخوليو كورتازار على سبيل المثال كانا يمارسان اللعبة وهما بذلك عبَّرا عن رأييهما في الملاعب وليس خارجها. أما ألبرتو مورافيا فقد كان متبرما من كرة القدم، فعشية مونديال 86 ذهب إليه بعض الصحافيين لأخذ رأيه فوجدوه يجمع حقائبه استعدادا للسفر هروباً من حمى اللعبة التي تجتاح إيطاليا في مناسبة كتلك. كأس العالم لذلك العام فازت به الأرجنتين بفضل مارادونا الذي كان أداؤه لافتا ليس للانتباه فحسب وإنما للشعر أيضا: فقد خصَّه محمود درويش بنص جميل تناقلته عن بعضها الكثير من المنابر. فمحمود درويش متيم بكرة القدم ولقد عبر عن ذلك في أكثر من مناسبة. ففي إحدى قراءاته الشعرية ذات صيف بمدينة فاس، قدمته إحدى الكاتبات إلى الجمهور بغير قليل من المبالغة، بل بصفات فوق بشرية، ما أثار حفيظة الكثيرين. وحين تناول الكلمة استهلَّها بشكر الحضور على تفضيله شعره على مباراة فرنسا واسبانيا التي كانت مبرمجة ذلك المساء في إطار كأس أوربا للأمم، ثم أضاف أنه من جهته يفضل أن يتابع المقابلة حتى لو كان من سيحيي الأمسية هو المتنبي. وبكلمته تلك عاد إلى أرض البشر، الأرض الكروية طبعا. وكأن لسان حاله يقول للتي قدمته ما قاله وايتمان لإحداهن ذات قصيدة: "تبسطي معي فأنا والت وايتمان".
أما الذين تستهويهم المقارنة فنهمس في آذانهم بأن لاعب كرة القدم قد يوقع عقدا يفوق عائده المادي قرنا من جوائز نوبل للآداب.

عن (كيكا)

* * *

ملكة الاستعراضات الرياضية

(كتابان عن كرة القدم)

اسكندر حبش
(لبنان)

اسكندر حبشعديدة هي الكتب التي تتحدث عن كرة القدم، من مختلف الأوجه، التي صدرت مؤخرا في العاصمة الفرنسية، وبخاصة في الفترة التي سبقت بطولة كأس العالم. كتب تراوحت ما بين المختارات والروايات والأبحاث الفلسفية والاجتماعية والألبومات المصورة، لدرجة أنها احتلت جزءا كبيرا من رفوف المكتبات. من الجمل الطريفة، التي قيلت حول ذلك، والتي تستحق أن تُستعاد ما كتبته مثلا مجلة "لير" المختصة بالكتب التي قالت أمام هذا الفيضان الورقي: "ثمة أيام لا بد أن نحاول فيها إعطاء الحق لمدرب فريق ليفربول (الانكليزي) بيل شانكلي الذي وجد أن كرة القدم رياضة بسيطة أحالها أناس لا يفهمون فيها إلى رياضة معقدة".
استعادة هذا القول من قبل المجلة الفرنسية جاء كدافع للسؤال التالي: ما النفع إذاً من نشر الكتب حول هذا الموضوع وجعله موضوعا راهنا، في حين أن المتعة الأساسية والهدف من كل هذا الأمر يكمنان في الكرة المستديرة.

ومع ذلك، ففي اللحظة التي كانت فيها الكرة المستديرة تخفق بشدة فوق جميع عواصم العالم، كان جميع سكان الأرض تقريبا يتحدثون عن هذه اللعبة، يحلّلون المباريات، بعد أن يتابعوها من على الشاشة الصغيرة، إذ لم يتسن للجميع بالطبع أن يشاهدوها في الملاعب. لكن ما نتناساه، في أغلب الأحيان، أن هناك العديد من الكُتّاب قد كتبوا عن كرة القدم بشغف قد يفوق شغف الذين جعلوا من هذه اللعبة، محور حياتهم. في مرحلة متأخرة، نجد مثلا كُتّابا من مثل فرانسوا بيغودو، دوك جينيكو، بيتر هندكه، إدواردو غاليانو...، وفي مرحلة سابقة عليهم، لا بد أن نذكر هنري دو مونترلان، موريس ميرلو بونتي، ألبير كامو، جان جيرودو، ريمون آرون، أندرية موروا، جوزيف جولينون، هذا إن لم نعد إلى العصور السابقة، إذ حتى هوميروس يذكر، في "إلياذته"، لعبة تشبه كرة القدم.

هذه المختارات من أقوال الكتاب وكتاباتهم المتعددة، نجدها في كتاب "مذاق كرة القدم" الذي أعده ستيفان بومون، الصادر حديثا عن منشورات "ميركور دو فرانس" في سلسلة "الميركور الصغير"، وهي سلسلة، درجت في العادة أن تقدم عنوانا عريضا واحدا في كل كتاب، لتقدم فيه نوعا من أنطولوجيا شاملة تشمل أغلب ما قيل في هذا الموضوع.

كرة القدم "هي ملكة الألعاب"، مثلما يؤكد جان جيرودو في مقدمته التي كتبها العام 1933 لكتاب ضم مختارات من أجمل ما كتب عن هذه اللعبة، حمل عنوان "مجد كرة القدم". ويضيف الكاتب الفرنسي الشهير: "في اللحظة التي أصبحت فيها كل الأمم قومية... لم يعد هناك سوى منظمتين ذات سمات دولية، هما الحروب والألعاب الرياضية (...) إن كرة القدم مدينة بشهرتها الكونية إلى ذاك الذي استطاع أن يعطي للطابة أثرها الأقصى... لا تحتمل الطابة عمليات الغش بل تحتمل فقط تأثيرات النجوم".

الدعاية الاجتماعية

على النقيض من هذا التعريف للفوتبول الذي قدمه جيرودو العام ,1933 نجد تعريفا أكثر معاصرة (بالمعنى الزمني والفكري، إذا جاز التعبير) قدمه جاك أتالي (كاتب ومستشار سابق للرئيس الفرنسي السابق ميتران) في "قاموس القرن العشرين"، منشورات "فايار"، العام 1998)، إذ يقول: "كرة القدم: وسيلة دعاية اجتماعية تستعمل في كل مكان، ولا تلجأ إلى أي وسيلة، إذ إن كل صِبية العالم يأملون أن يُصبحوا ذات يوم نجوم الكرة المستديرة. ستتحول هذه الرياضة إلى صناعة على مستوى عالٍ، والفرق ستصبح ملك الشركات المتعددة الجنسيات التي ستمتلك العديد من النوادي في العالم بأسره لتؤلف مجموعا من اللاعبين الذين سيتنقلون من فريق إلى آخر بحسب الحاجة". تفصلنا 8 سنوات فقط عن هذا التعريف الذي حمل في طياته "نبوءة" فعلية، إذ إنه افتتح ما يعرف اليوم باسم "الفوتبول بيزنيس" (كرة القدم الأعمال) الذي يجر خلفه موكبا مهيبا من الفضائح و"السمسرات القذرة" والأعمال المشبوهة... الخ. إذ ماذا نستطيع في الواقع أن نقول زيادة عن هذه اللعبة الاستعراض التي تؤمن بقاءها على قيد الحياة بفضل 16 بالمئة من الإعلانات ودعم الشركات المختلفة و60 بالمئة من حقوق النقل التلفزيوني (تذكرون بدون شك المشكلة التي انبثقت قبل بدء المونديال حيث إن إحدى المحطات الفضائية العربية دفعت مبلغا خياليا شريطة أن تحتفظ بحق النقل إلى البلدان العربية)، في حين أنه منذ عشر سنوات فقط، كان الدعم المادي الأساسي الذي تعتمد عليه الأندية يأتي من ثمن بيع البطاقات. المشكلة الكامنة في هذا التناقض هو كيف أن لعبة تعتبر "ملكة الاستعراضات الرياضية" لم تعد تستطيع أن تستمر بفضل مشاهديها! في أي حال، يختم أتالي "تعريفه" في "القاموس" بالقول: "كي تبقى هذه اللعبة أكثر الاستعراضات الرياضية سيطرة، عليها أن تكون أعنف، أسرع، أكثر درامية".

بالتأكيد كان أتالي محقا، إذ إن كرة القدم، لم تعد بمعنى من المعاني سوى هذه الدراما وعلى أكثر من مستوى. يصف الباحث الفرنسي كريستيان برومبرجيه هذه الرياضة بأنها "دراما فلسفية"، إذ بصفتها، في الوقت عينه، رؤية متناسقة ومتناقضة للعالم المعاصر فإنها: "تثمن الاستحقاق الفردي والجماعي تحت شكل مسابقة ترغب في تتويج الأفضل، لكنها تلاحظ أيضا دور الحظ والصدفة والغش للوصول إلى النجاح، وهي أمور، كل على طريقته، تشكل سخرية وقحة من هذا الاستحقاق".

الدين المدني

من وجهة نظر سوسيولوجية (وحتى اتنولوجية تقريبا) يقترح علينا كتاب "مذاق كرة القدم" العديد من النصوص المثيرة للاهتمام. في الواقع، ثمة بلدان، وثمة مدن في هذه البلدان "تدخل" لعبة كرة القدم كما لو أنها تدخل في "دين مدني". إذ عديدة هي البلدان التي تشكل فيها كرة القدم حدث الأحداث. بيد أن ثمة بلدانا أخرى أو لنقل ثمة أناس في هذه البلدان تبدو فيها كرة القدم كأنها غير موجودة بالنسبة إليهم. وقد تكمن المفاجأة هنا، إذ يظن الجميع أن هذه الحمّى قد اجتاحت كل شيء. إلا أنهم موجودون. على الأقل هذا ما تذكرنا به جملة سمعناها مؤخرا في "المونديال" الأخير: "المونديال: هو الجنة للمشجعين، والجحيم للكافرين به". الكاتب بيير ديبورج ينتمي إلى هذه الفئة الأخيرة، أي إلى الذين لا يحبون كرة القدم، وإن كان يفعل ذلك بكثير من التحريض. يقول ديبورج، نقلا عن كتابه "تأريخ البغض العادي" (منشورات "لوسوي" العام 1987): "لتسقط كرة القدم (...) هاكم الفرق بين القرد ولاعب كرة القدم. للأول الكثير من الأيدي أو ليس لديه الكثير من الأقدام كي يقرفص ويلعب الكرة (...) أكرهكم يا لاعبي كرة القدم! لفترة طويلة أعتقد نفسي أني شخص غير طبيعي إذ كنت أرفضكم وأنا ما زلت صغيرا بعد. كان يقولون لي: آه! هذه الفتاة! أو ربما كان مريضا! كم أن فكرة أن يكون المرء غير طبيعي ملاصقة بشدة لمن لا يلعب كرة القدم".

بعيدا عن المتعة القصوى التي نجدها في إعادة قراءة هذه الأسطر "الوقحة" والقاسية التي يتمناها ويكتبها ديبورج، إلا أن وجودها في هذه المختارات لا بد أن تطرح السؤال التالي: "هل من ماهية لأولئك الذين لا يشاركون في حمى الكرة المستديرة؟ أي مكان في المجتمع يجده أولئك الذين يبتعدون عن هذه "التوتاليتارية المستعبدة"؟ مثلما يحددها فيليب موراي.

لكن، بطريقة أخف وربما أكثر حضورا في الكتاب، ثمة مقاطع من كتابات تأخذنا في "سحبات وجدانية" كما مع جوزيف جولينون، باتريك فاسور، جان كورنو. كذلك نجد بعض المقاطع المخصصة لبعض الوجوه الكبيرة التي وسمت هذه اللعبة: الملك بيليه، مارادونا، كما بعض الهدافين الكبار الذين لم يتوقفوا عن هز شباك الفرق المنافسة كالهداف الأرجنتيني الأسطورة دي ستيفانو (الذي حصل على الجنسية الاسبانية العام 1957)، والبرازيلي غارنيشا هداف المنتخب البرازيلي العام 1958 خلال التصفيات المؤهلة إلى المونديال الذي دار في السويد. نجد أيضا مقاطع جميلة حول بوشكاش وبخاصة حول المباراة التاريخية التي دارت العام 1961 وكانت تجمع بين فريقي العاصمة الاسبانية: ريال مدريد وأتليتكو مدريد، لنصل إلى بورتريهات لكل من ريمون كوبا وميشال بلاتيني الذي وصفته الكاتبة الشهيرة مارغريت دوراس بأنه "الملاك الأزرق". أما القارئ البسيط، أي الذي يمر على كرة القدم مرورا سريعا، فلا بد أن يجد متعة كبرى وهو يقرأ الفصل المعنون "أجزاء مباريات" وهو فصل يبدو أشبه بالرواية التي تقترب من الأساطير.

محاولة جدية من معد الكتاب للإحاطة بالكثير من تفاصيل اللعبة ووجوهها، لكنها إحاطة ناقصة بعض الشيء، إذ لا نجد مثلا أي شيء حول العديد من الهدافين الأساطير الذين ألهبوا تاريخ هذه اللعبة من مثل أرتورو فرايدنرخ، اللاعب البرازيلي ذي الأب الألماني الذي كان يعرف باسم "النمر" والذي سجل خلال 1249 مباراة لعبها طيلة 26 سنة من حياته 1329 هدفا. رقم قياسي من الأهداف لم يحطمه لغاية اليوم أي لاعب، وكان بإمكانه أن يلعب مع المنتخب الوطني البرازيلي في أول بطولة للعالم دارت العام 1930 في الأوروغواي، لكن لسوء حظه، أصيب قبل البطولة وغاب عنها. وتقول كتب تاريخ كرة القدم بأنه هو من أبدع، في هذه اللعبة، التمويه بالجسد وتسديد الكرة على طريقة الموزة. وهما أمران لا يزالان لغاية اليوم حاضرين، لدرجة أنه لا يمكن الاستغناء عنهما، حتى أنهما يشكلان عماد فن كل اللاعبين البرازيليين في عصرنا الراهن.

في النهاية، تبدو كرة القدم اليوم كأنها هذا الصندوق المدهش الذي يحوي كل إيقاعات الأحداث الراهنة، ما يشرح لنا، في جزء كبير منه، هذا الكم من الأبحاث الفكرية والاجتماعية التي تكتب حولها. يكفي أن نتذكر مثلا هذا الأمر: بينما كانت حكومة رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان تتعرض لأقسى الحملات، بمن في ذلك الفرنسيون الذين كانوا ينتظرون تدخل رئيس الجمهورية لحل هذا النزاع، كانت غالبية وسائل الإعلام تركز على المنتخب الفرنسي خلال مسيرته في كأس العالم، حتى أصبح هو القضية الوطنية بامتياز. ليس ذلك فقط، بل أن طرد زيدان، هو الذي طغى على كل شيء بعد أن شتمه المدافع الايطالي. وكأن ما قاله فيليب موراي حول "الإمبراطورية المستعبدة" نجد تحققه في كرة القدم لدرجة أنها حققت الوحدة الوطنية، مثلما كانت السبب في بلسمة جراح الحرب الأهلية: ألم يلعب منتخب ساحل العاج، مبارياته، ضمن هذا السياق.

الكتاب الأخضر

ليس كتاب "مذاق كرة القدم" هو الوحيد الذي جاء بمثابة أنطولوجيا، إذ نجد "الكتاب الأخضر" (صادر عن مجلة "سو فوت") الذي يتبع هذه الطريقة أيضا. لكن علينا في البداية أن نعرف أن الكتاب الأخضر يحيل إلى عشب الملعب لا إلى كتاب العقيد القذافي (وهو بالمناسبة تحدث فيه عن هذه اللعبة الذي رفضها إذ اعتبر أن على الجماهير أن تشارك كلها في المباراة لا أن تجلس في المدرجات لتشاهد اللاعبين فقط).
وإذا كان "مذاق كرة القدم يختار مقاطع من كتابات لأدباء وفنانين فإن "الكتاب الأخضر" يحدد اتجاهه في سعي أكثر تواضعا، أي يختار أقوال أبناء هذه اللعبة من لاعبين ومدربين ومعلقين... الخ، لكن علينا أن لا نتفاجأ حين نجد في كثير من الأحيان أدبا حقيقيا وفكرا فلسفيا ينبثقان من اللاعبين.

نقع في "الكتاب الأخضر" على ما يقارب 400 شهادة وقول ورأي، اختارها محررو الصحيفة، لتأتي إما على شكل "أفوريسمات شعرية" مثل قول اللاعب الفرنسي إيريك كانتونا: "نمارس الحب مع امرأة كي نشعرها بالمتعة. أما ممارسة الحب مع مدافع خصم فكي نشعره بسخافته"، وإما على شكل "لآلئ نهائية" كقول المعلق التلفزيوني الفرنسي الشهير، تييري رولان وهو صاحب العديد من الجمل الفجة التي ضج بها العالم وأوقعت المحطة التلفزيونية التي كان يعمل بها في الكثير من المطبات الذي قال خلال كأس العالم 2002: " لا أحد يشبه لاعبا كوريا سوى لاعب كوري آخر، وبخاصة إذا كان يرتدي ملابس كرة القدم وإذا كان طوله 1.70 سم وإذا كان أسمر البشرة، ما عدا حارس المرمى"...

محاولة جميلة من محرري هذه المجلة في استرجاع العديد من المواقف والتعليقات المفاجئة التي كانت تصدر من أفواه اللاعبين، من دون تفكير أحيانا. من ينسى مثلا ما قاله إيريك كانتونا عن السردين، بعد عودته إلى الملاعب، إثر 8 أشهر من التوقيف لركله مشاهدا؟ عديدة هي التفسيرات التي اعتبرت أقواله فلسفية، وهي لم تفهم إلا مؤخرا، حين صرح كانتونا نفسه، في مقابلة تلفزيونية، بأنها لا تعني شيئا، إذ كانت هذه الكلمات هي أول ما خطر على باله.

هذه الخواطر الشفافة، بكل انفعالاتها العفوية، حاضرة في "الكتاب الأخضر" الذي قد يفضله كثيرون منكم، عن الكتاب الأخضر، الثاني.

السفير
2006/07/14

***

خواطر المونديال

جمال الغيطاني
(مصر)

وأثناء سفري بالقطارات كان السائق يذيع كل بضع دقائق وصفا تفصيليا أو نتائج المباريات، لم يظهر عندهم هذا المثل القبيح للاحتكار الذي جعل شخصا واحدا يحرم الشعب العربي كله من الفرجة، أما بدافع الربح أو رغبة سادية نجدها عند محدثي النعمة هذا ما لم أجده في ألمانيا.

عندما وصلت إلي ألمانيا في الخامس والعشرين من مايو الماضي اكتشفت أنني سوف أشهد أيام المونديال، اكتشفت.. لأن جهلي بالكرة قديم وليس عندي اهتمامات بها، لا أتحرك إلا إذا كانت مصر تنازل فريقا أجنبيا، في المباريات الدولية التي يقدر لي أن أتابعها تأخذني حيرة، فعندما يتابع الإنسان فريقين يتصارعان من الأفضل ان ينحاز إلي أحدهما، أحيانا كنت أشجع فريق البلد الذي زرته، أو الذي يرتبط عندي بأحداث مهمة أو إنجاب أديب كبير للبشرية، يعني إذا لعبت ايرلندا فإنني أشجعها لأنها قدمت إلي الأدب جيمس جويس مثلا، أسباب أتذرع بها لتحقيق المشاركة الداخلية، غير أنني منذ اليوم الاول لوصولي إلي برلين وإقامتي في معهد الدراسات المتقدمة بالغابة الخضراء وجدت نفسي مهتما بمتابعة أحداث المونديال وتوابعها.

أول ما لاحظته هذا الحماس العارم الذي يجتاح الشعب الألماني كله، وظهور الأعلام الألمانية، وقد أشرت في يومياتي بالأخبار إلي ظاهرة الأعلام في الأسبوع الاول عند وصولي، ظننت في البداية ان كثافة الأعلام أمر عادي، وتذكرت المباريات النهائية للمونديال الأفريقي في القاهرة وظهور الأعلام المصرية بكثافة والتحليلات التي تناولت الظاهرة، دهشتي زادت عندما علمت أن رفع الأعلام الألمانية علي المنازل والسيارات كان محظورا طبقا للقانون الألماني، ويبدو ان هذا من آثار الحرب العالمية الثانية وما تبعها من إجراءات تستهدف إضعاف الشعور بالوطنية الألمانية اخبرني صديق عزيز ممن يعيشون في ألمانيا أن عدد الأعلام التي بيعت قبل بدء المباريات حوالي مائة وعشرين مليون علم أي بمعدل علمين لكل ألماني، لم يقتص الأمر علي رفع العلم الألماني فقط، إنما ظهرت الملابس التي تستمد ألوانها من العلم، كذلك القبعات، ودلالة ذلك ان الروح الوطنية لايمكن قمعها مهما طال الزمن أو تعسفت الإجراءات، وقد كان انعقاد المونديال فرصة ذهبية لإظهار هذه الروح في عالم تسوده دعاوي العولمة وتسييد نموذج واحد للثقافات.

في الجانب المقابل، رصدت روحا رياضية مهجة، عدد كبير من الألمان كانوا يشجعون فرق أمريكا اللاتينية، خاصة البرازيل التي يحظي فريقها بشعبية كبيرة وان خيب الأداء المتواضع للفريق مشجعيه، كان ظهور عدد كبير من المشجعين الألمان للبرازيل والأرجنتين وغانا بل وتونس والسعودية امرأ ايجابيا ويدحض الحساسيات التي يتعمد البعض إثارتها بين الأجناس والأعراق والثقافات المختلفة.

مما توقفت أمامه أيضا توفير الحكومة الألمانية متعة المشاهدة لجميع أبناء الشعب الألماني، في كل مكان يوجد فيه تجمع من البشر نجد شاشة تليفزيون، في حمامات السباحة، في الحدائق العامة في أماكن التجمعات الكبرى وضعت شاشات بحجم الملعب، بلغ أكبر تجمع في حديقة عامة بجوار السفارة المصرية مليون شخص، ورأيت شاشة عامة في حديقة فريدريش الأكبر أمامها حوالي عشرين شخصا، طبعا المباريات مذاعة في القنوات الأرضية، وأثناء سفري بالقطارات كان السائق يذيع كل بضع دقائق وصفا تفصيليا أو نتائج المباريات، لم يظهر عندهم هذا المثل القبيح للاحتكار الذي جعل شخصا واحدا يحرم الشعب العربي كله من الفرجة، أما بدافع الربح أو رغبة سادية نجدها عند محدثي النعمة هذا ما لم أجده في ألمانيا.

أخبار الأدب
الأحد 9 يوينو 2006

***

في حب كرة القدم: الأحلام والأوهام

بشير مفتي
(الجزائر

1 - أن تكتب عن كرة القدم فهذا يعني أنك ستعود بذاكرتك إلي الوراء، إلي سنوات الطفولة، إلي أيام الحلم، إلي اللحظات التي صنعت فيها هذه اللعبة بهجة حياتك وخلقت حالات فرح وغضب ونشوة لا تتوقف أبدا.. ويكفيك أن تضغط علي زر الذاكرة حتى تظهر تلك الصور واضحة كالشمس، كشريط سينمائي لم يتقادم بالرغم من مرور السنين، بالرغم من أن كل شيء قد تغير، ليس علي مستوي الحياة الفردية فحسب ولكن علي مستوي الحياة والعالم.. غير أن كرة القدم لم تفقد بهاءها قط، إنها لا تزال اللعبة الحية والأكثـر شعبية في المعمورة بأسرها. ذلك أنها ليست مجرد لعبة، ولكن غواية، شيء خارق بالفعل، مقدس عند شعوب كثيرة، لدرجة أن هناك من يقارنها بالدين الأرضي الجديد..

2 ـ لماذا احتلت كرة القدم هذه المكانة الخاصة في وجدان الملايين من البشر؟ سؤال علي بساطته تصعب الإجابة عنه، ذلك أن التأويلات والتحليلات الكثيرة تذهب في مجملها للقول أنها لعبة بسيطة ويمكن أن يقوم بها أي شخص. في طفولتنا لعبنا كرة القدم لأنها لم تكن تتطلب إلا أن نحصل علي كرة، نصنعها في غالب الأحيان من خلال أكياس الحليب المستهلكة، وقد حشوناها بأوراق الجرائد القديمة، لم تكن مساحة اللعب مهمة، في غالب الأحيان كانت الطــــرقات هي ملعــــــبنا المفضل، كان يكفي أن يكون هنــــــاك خمسة أفراد حتى نلعب مقابلة علي أن يتــــــطوع فرد بلعب دور حارس المرمي.. لهذا ظلت هذه الرياضة علي بساطتها الأكثر إغراءً من بين الألعاب الرياضية الأخرى، الأكثر جذبا للناس، ذلك أنها تحمل شيئا يميزها أو يصبغها بطابع الإثارة، طابع المواجهة، طابع الحلم، فالحلم موجود في صميم اللعبة، أي كرغبة في أن نكون أحسن وأفضل مما نحن فيه.. بالإضافة إلي كونها تسلية وهذا الجانب مهم حتى لو حاولنا أحيانا تجاهله... فاللعب هو شيء مرتبط بمرح الطفولة، بعنفوانها ودهشتها وسحرها الذي لا يتوقف...

3 ـ علي الرغم من ومن إلا أن كرة القدم ظلت غائبة عن الأدب، الاستثناء طبعا لا ينفي القاعدة، أما في السينما فالحضور محتشم، علي عكس الملاكمة مثلا، ذلك أن السينما تقوم علي فكرة الصراع والعنف، لهذا كل الألعاب الرياضية، الكاراتيه، الكونغ فو، الملاكمة لاقت رواجا مدهشا ونجاحا كبيرا في الأفلام الأمريكية علي الخصوص، أما كرة القدم فبرغم ما يظهر عليها من خشونة، صراع، فهي لعبة مسالمة طبعا، هي لعبة يثبت من خلالها قوة الإرادة بشكل خاص وليست قوة الحرب.. ولا يسيل فيها الدم والذي تتقن السينما الترويج له والعمل علي إثارة تلك الغريزة المتأصلة في الإنسان العنف ثم العنف .

4 ـ ومع ذلك ليس هناك ما هو مثالي خالص، إن الانجذاب الجماهيري في كل العالم لهذه اللعبة يجعلها بالتالي مسرحا لممارسة السلطة، واستخدامها لأغراض سياسوية مختلفة.. وأيضا مجالا خصبا لإدارة الأموال والفوز بالأرباح الخيالية.. فهذا الجانب وإن كان أغلب جمهور كرة القدم لا يتفطنون له أو يرغمون أنفسهم علي عدم الخوض في الحديث عنه، إلا أنه يظل نقطة سلبية دون شك لا تنقص من قيمة اللعبة ولكن تحرفها عن غاياتها الجميلة... أو تلك التي نتصورها جميلة...
في عصر العولمة كل شيء ممكن استخدامه لصالح فئة معينة، أقلية تستفيد أكثر وهي تدير من خارج الستار خيوط اللعبة وتستنفع منها بشكل أو بآخر وقد وجهتها الوجهة التي تريد..
في العالم العربي مثلا الذي يعيش مشاكل متعددة الأشكال والوجوه، تصبح كرة القدم هي ملاذ الملايين من العاطلــــين عن العمل، هي حلم من لا حلم له في الحياة والواقع، تعويض عن خيبة الحياة بكرامة والعيش بشرف ونزاهة، وأحيانا آخر ما يربط الإنسان المهزوم بشيء يتجاوزه، فالإخفاق في كل شيء يولد هروبا نحو الدين أو الرياضة وكثيرا ما يلتــــقي هذا بذاك ليشكل كتلة هلامية من الجمهــور المتعطش لتجـــــاوز بؤس حياته وعقـــــم أحلامه الأخرى.. وتصبح كرة القدم مثلما قال ماركس عن الدين ذات يوم أفيون الشعوب التي لا ترغب في مواجهة مشاكلها الفعلية، والتي تغطس في أحلام يقظة لذيذة لبعض الوقت وليس لكل الوقت.

5 ـ ولكن تلك اللعبة الساحرة لا يمكنها إلا أن تكون غواية منفردة بالفعل، فناً خاصاً، له ما يميزه عن بقية الفنون الأخرى.. لقد كانت الرياضة في الثقافة الإسلامية رمزا للشجاعة والجرأة والنضج وكان الرسول (صلي الله عليه وسلم) يدعو أمته لكي تتعلم السباحة وركوب الخيل ورمي الرماح، ولم تكن تلك الدعوة إلا لتعطي الجسد حقه فلا يمكن فصل الجسد عن الروح، وهو يعيش وينتعش من خلال الحركة والرقص والركض والجري وإثبات تفوقه وقدرته وجهده الذي من خلاله تصبح الروح وقد تداخلت مع فوران الجسد أكثر تحررا وتناغما وتداخلا مع ما يميز الإنسان بشقيه المادي والروحي..
إن فن كرة القدم يقوم علي إثبات هذا الجانب القوي في الروح الإنسانية، أي إثارة الإرادة وتحريكها من خلال مواجهة علي ملعب بين فريقين، وغالب الوقت تكون الإرادة هي الفائز الحقيقي في أي مقابلة، فكثيرا ما تفاجأ بفوز فريق من بلد فقير علي فريق من بلد غني ولا نجد السبب إلا في تلك الإرادة القوية التي ميزت الأول عن الثاني (معجزة فوز الجزائر علي ألمانيا عام 1982).

6 ـ توقفت عن ممارسة كرة القدم في الحي عندما دخلت الجامعة، كما توقفت عن مناصرة فريق المولودية العاصمية في نفس الفترة تقريبا، فالجامعة غيرت من ميولاتي بعض الشيء علي عكس الثانوية؛ حيث أغلب الطلبة من الجزائر العاصمة وبالتالي كانت لنا نفس الميولات والذكريات.
في الجامعة كل طالب يحمل ذاكرة كروية أخري عن منطقته وما أن يدخل الجامعة حتى تتبخر تلك العلاقة أو تفقد وهجها الأول.. تتغير الاهتمامات بداخل الفرد الذي يجد نفسه في مواجهة أحلام أخري ليست لها علاقة بالكرة ولا بأي رياضة أخري..
لم ألعب أي مقابلة مع الأصدقاء منذ سنوات طويلة وكثيرا ما يهفو حنين إلي اللعب.. ولكن مع من؟ وكيف يمكن استرجاع لياقة زمان، والقدرة علي القفز والركض برشاقة سنوات المراهقة؟

القدس العربي
2006/07/03