(الصديق الأقدم يتحدث عن صورة السياب في صباه وشبابه)

محمد صالح عبد الرضا
(البصرة/ العراق)

بدر شاكر السيابكنت أسجل في دفتر ملاحظاتي منذ بداياتي الا دبيه والصحفية عام 1964 رؤوس أقلام عن أدباء لهم عمقهم وجذرهم وإيقاعهم في هذه المدينة الشماء- البصرة- يدفعني حرصي إزاء التاريخ الذي يستفز أعماقه بملامح متميزة عن أقلام لها وعيها الأدبي والجمالي. ولها موقفها في مناطق الضوء أو بعيدا عن الضوء حيث يبرز عندهم إيثار الصمت أو العزلة، ولكن لا تتوقف لديهم غريزة الإبداع ولا هاجس الكتابة الملح. ومن بين أولئك الأدباء البصريين صديق السياب الأقدم: محمد علي إسماعيل الذي كان لا يذكر بين معارفه إلا ويذكر السياب الذي صحبه منذ نشأته وصباه. هذا الرجل شاعر وجداني سجل شعره انتفاضات قلبه وذكرياته الذاتية، وتربوي عرف مدرسا للغة العربية ومشرفا تربويا من طراز عريق، كان يلتقط انطباعاته وخواطره عن السياب وتجربته وحياته، تحوم في ذهنه الذكي الذكريات يستبطن أغوارها بين طرافة وحيوية ومزاج انبساطي، وإذا خرجنا عن موضوع السياب نلمس لديه دفاعا أصيلا عن اللغة السليمة الصحيحة وقواعدها وتركيب بنائها وخصائص أدائها مستنكرا السماجة في اختيار الكلمات، والتنافر في الجملة والاضطراب في المعنى عند بعض من يكتبون ويخطئون عن جهل . لقد ظل الأديب الراحل محمد علي إسماعيل لفترة من الزمن بعد رحيل السياب أكثر عرضه للقاءات الصحفية، ومراسلات أدبية. انه يمتلك ذاكره عجيبة تحفظ تفاصيل حياة السياب . رحم الله السياب ومحمد علي إسماعيل الذي فارقنا قبل أكثر من عامين ، ولكن لم تفارقنا همساته العذبة. واحتفظ بين أوراقي بحوار مع هذا الرجل أجريته عام 1977وانثر هنا بعض فقراته:

الحج إلى جيكور

{لو فكرت قنـاة تلفازية بتصوير فلم خاص بالسياب ، فماذا تـــقترح إزاء هذه الفكرة؟

- هذه فكرة جيدة وضرورية، أتذكر أن السياب حينما كان راقداً في مستشفى الموانئ أرسل إليه أحد الأدباء الفرنسيين رسالة مكتوبة باللغة الانكليزية مع كتاب له بعنوان: (GENERATION OF MEN) يسأله في رسالته عن فكرة الحج إلى جيكور ، وهذه الفكرة راودت الشاعر زمناً طويلاً، فإذا كان في النية إخراج فلم مصور عن الشاعر فاقترح ان يكون تحت عنوان الحج الى جيكور أو رحلة الى جيكور ، وحبذا لو تكون بين فقرات الفلم فقرة بعنوان أناس عاصروا السياب ليتحدثوا عنه.

الفنان الأعمى
{
ومن تقترح ان يقدم في هذه الفقرة؟

اقترح أن يقدم الفنان الأعمى وهذا الرجل لا يزال حياً ومن الذين عرفوا بدرا عن كثب ، كان وقتذاك يقرأ قصيدة الموسيقية العمياء للشاعر علي محمود طه المهندس، وهذا الموسيقي كان عازفا على الناي أو المطبك وهو من أبناء قرية الحمزة ، مرة سهرنا معه في ليلة قمراء جميلة وكان بدر من بيننا ، هذا الفنان اسمه مويح تصغير كلمة مايح وهو يسكن هذه الأيام قرية العوينات وكان بدر يجلس مع مويح على تله في جيكور ويسمع منه معزوفاته البسيطة وان سمـاع مقطع من عزف هذا الفنان يشكل فقـــــرة من فقرات الفلم.

قصائد وأمكنة

{ هل كتب بدر قصائده في أمكنة لا تزال شاخصة؟

- قصيدته التي مطلعها قاد الخريف مواكب الأيام نظمها على تلة قريبة من كاع البسام وبالإمكان تصوير هذه التلة، وكذلك صدر العشار كاع بيت السيد عبد الرحمن الكامل وهي بالضبط في صدر الخورة الآن ، كان السياب وهو في الصف الأول متوسط ، والدار لا تزال هي الآن دائرة المرور الحالية كان قد نظم فيها قصيدته في رثاء جدتي وهي إحدى قصائد ديوانه الأول أزهار ذابلة ، وقرب نادي الطلاب الآن وعلى شط أبي الخصيب نظم السياب بيته المشهور:
فيح الظلال وقد نشرن زوائبا
قبلن شط أبي الخصيب الشاحبا
وهذا البيت ضمن ملحمته المفقودة بين الروح والجسد ، وقصيدته نفح الاوام أزاهر الدفل نظمها لما زار قريته وكان على موعد مع الحبيبة ووقتذاك كان مقيما في بيت الحاج عامر الكامل في المناوي وقدم إلى القرية عصر يوم الخميس ليبيت في بيت أبيه بجيكور، فلما كان على موعد مع حبيبته هويله تصغير هيلة وجد على النهر الذي يقع أمام شريعتهم الدفلة الحمراء وقد ذبلت فنظم هذه القصيدة التي مطلعها:

نفح الاوام إزهار الدفل
فذوت كما يذوي سنا المقل
كانت تعير النهر حلته
فيلوح في زاه من الحلل
الى ان يقول
واليوم صرح حسنها ومضى
فكأنها لم تند أو تمل
ياعين اين أزاهر الدفل
مري بجانب نهرها وسلي
قد كان وشك ذبولها أملا
للملتقى ففجعت بالأمل

معركة بين العميان

{ هل كانت هناك مشاهدات أو حوادث في صبا بدر تحفزه على الكتابة؟

- في طريقه بين قريته جيكور ومدرسة باب سليمان القديمة يلجأ بدر إلى البساتين أيام إصابته بالحمى أو الملاريا ريثما يستريح قبل الوصول إلى بيته وفي هذا الطريق وبمقربة من المدرسة وقعت معركة بين أعميين ، أعمى يملك عصا وآخر لا يملك عصا وخرج طلاب المدرسة إلى سطحها ينظرون إلى المعركة وعلى اثر هذه المشاهدة وفي سنة 1945 نشر بدر قطعة أدبية نثرية تشير إلى هذه القصة بالذات وهو يريد بها الحرب بين معسكرين على سطح هذا الكوكب عنوان القطعة كان معركة العميان وكان بدر شديد التأثر بحسيات ما كان يدور حوله في طفولته بنوع من التجلي والنبوغ.

الشاعر المزارع

{ وهل أسهم بدر في أمور الزراعة بصفته عاش في بيئة زراعية.

- كان بدر وبعض من أصدقائه يضمنون العنب وضمانة العنب التعهد لصاحب البستان بتسليم مبلغ العنب في آخر الموسم ويقضون الموسم تحت كروم العنب وبدر كان في كل موسم عنب يكثر من الخروج من بيته هو وأصدقاؤه الذين يشاركونه الضمان ومنهم المرحوم عبد الدايم الناصري الشاعر الشعبي وعبد المجيد السياب وعبد اللطيف الناصر والمرحوم أحمد حجي علوان وبعضهم أحياء إلى اليوم وكانوا يقضون الليل بالمسامرة والنهار بجمع العنب.

صياد لا يصوم

{ يقال أن بدراً كان في طفولته محباً للصيد؟

- على نهر بويب كان يجلس الشاعر لصيد السمك وعينه منصرفة إلى كتاب يقرأ فيه وهذا ما يمثل قول الشاعر ينام بإحدى مقلتيه وكان يطالع الشص بمقلة أخرى وهذا يصور جانبا من حياته وكان يكثر ذلك أيام رمضان مع بعض الشباب الذين لا يصومون رمضان وكان هؤلاء وبدر من بينهم يتوقعون قدوم والد بدر شاكر السياب على حين غرة وهم يتناولون الغذاء وخشية أن يراهم يأكلون يجلس احدهم عند القنطرة بحجة اصطياد السمك ويصيحون عليه تأكل لو ما تاكل والإشارة إلى السمك فإذا صاح ما تاكل يعني لا تأكلوا جاءكم شاكر السياب أو ربما رجل غيره وإذا صاح تاكل يعني تناولوا غداءكم وهذه التورية كانوا يستعملونها حينذاك.

المشمش المجفف وعالم الأطفال

ومن ذكرياتهم الأخرى عن الشاعر؟

كنا أنا والسياب وخالد الشواف نصلي في مساجد العشار وكان من برنامجنا أن نشتري المشمش المجفف الطرشانة أو القيسي نشتري ما تيسر وأحيانا ما تعسر إن كنا مفلسين ونتمشى سوية ثم نجلس في حديقة أم البروم وكان السياب مولعا بأكل المشمش المجفف ونحن نتمشى في الدرابين القديمة مررنا مرة على بنيات يلعبن بلعب من الطين ويصنعن الخيول من الطين وإذا بالشاعر ذاهل ومحملق فظننت أن التعب قد أصابه من كثرة المشي وإذا به يفيق من غشيته فسألته أين كنت فقال مع عالم الأطفال مع العالم الذي أمامي وكأنه يعيش خيالات الطفولة.

الملحة السيابية

{ يقال أن السياب كان سريع البديهة ظريف النكتة؟

كان يزورنا في القسم الداخلي الذي هو الآن مكان الحديقة المجاورة لمحطة بنزين الكزارة وكان هذا القسم هو قصر الحاكم السياسي في البصرة استلمته مديرية المعارف ولاقينا بعض الإخوان في درج القسم وكان العمال يرممونه فقلت لهم مشكورين الله يعمركم فقال لي ما أسرع ما أجيبت دعوتك أما ترى الجص والاسمنت والإخوان يعمرون. وفي أيام الكسلة - كنا نتمشى على صدر الخورة ونقف على ما نرى وكان ان شاهدنا هنديا سكران وهو يقول - تماشا أكو عرك أكو كل شي أكو - فكان يردد هذه العبارة ولما جئنا إلى البيت لنتعشى قلت أنا مرك أكو تمن أكو فقال بدر- عرك اكو كل شي اكو-. وفي إحدى الليالي كنا مع الفنان الأعمى مويح وهبت عاصفة فقال له بدر كيف ستذهب إلى البيت أما تخشى أن تقع عليك نخلة جراء هذه العاصفة فقال مويح .. لا تخاف كلبي هاكبرا ما امشي تحت النخيل. ولاحظت المرحوم بدرا في كل مناسبة يخرج فيها يقول .. لا تخافون أنا كلبي هاكبرا . وذات ليلة ثمل السياب و خرج يمشي على الطريق المكشوفة بين باب المعظم إلى العالية فمر أحد المدرسين المصريين ممن درسونا في العالية وكان سكران هو الآخر وهو في عربة و السياب يغذ السير على الطريق فصاح الأستاذ المصري عليه قف يا أخي. قف ومد يديه على بدر فقال .. فين كنت يا بدر فرد عليه بدر.. كنت في السيما باللهجة المصرية فقال الأستاذ المصري .. أنا بردو كنت في السيما ما شوفـــتش بدر .

من اجل المعنى الإنساني

{ وما هي قصة شجار بدر مع جده حين كان صبيا ؟

صاح عليه جده المرحوم عبد الجبار السياب مرة .. تعال ولك بدر اكتب لنا دسكره إلى فلان نريد منه لقاحا للنخيل .. فقال له نعم جدي فلما بدأ يكتب قال له اكتب أرسلنا لك آدمينا محمود أعطونا لكاح فقال له جدي شنو آدمينا - .. هل أنت خلقت منه شيئا قل .. فلاحنا أو أخونا فوقعت مشادة بينه وبين جده ويقول بدر استطعت أن اخرج من الديوان من بين دخان الجذوع وهذه القصة تحمل معنى إنسانيا دون شك.

الشاعر يبكي

{ أنت بحكم مزاملتك الطويلة لبدر .. لا بد وان شهدت ميلاد قصيدة ما .... وهل كنت تقرأ شيئا من شعرك عليه ؟

أتذكر حينما كنا في العالية ذهبت مع بدر إلى الأعظمية وكان هو يستعد للقاء أحدى حبيباته التي فارقها وكنا أنا وخالد ننتظر عودته من لقائه. فرجع إلينا مهموما ولأول مرة يبكي بكاء الأطفال وبعد ساعات نظم قصيدته اللقاء الشاحب والتي يقول فيها..

هان قلب غشاؤه اصفر التبـر ودقاته رنين الغشاء
لا اريد الضماد من هذه الأيدي فان الضماد من كبريائي

ومرة قرأت له قصيدة من شعري عنوانها أنباء من القرية وهي تصور أبناء القرية وقد جمعوا أموالا.... وان المرابي تسلط عليهم وحين وصلت إلى قولي ..
وغدت تعلل بالأماني طفلة
باتت على المذبوح من آمالها
بكى بدر.. وأعجب وقتذاك بالقصيدة

الحس اللغوي وصفعة الرأس

{وكيف كانت قدرة السياب اللغوية؟

-كان يبحث عن اللفظة المناسبة والدقيقة والشاعرية .. ومرة سألني في أيام الدراسة الدكتور المرحوم شريف عسيران أستاذ الصحة.. ما هي علامات البلوغ عند الفتاة فقلت. تضخم الثديين .. فما كان من بدر إلا أن صفعني فقال لي.. أنت تقول تضخم ؟ قل بروز . . استدارة.
وكان يريد اللفظة المناسبة ومرة ونحن في المرحلة الثانوية عرضت عليه قصيدة من قصائدي وعنوانها قبلة وحين وصلت إلى قولي سامحني الله..
وتدفق الريق الذي مزج الغرام به الرضاب
فما كان من بدر إلا وان جر هدومه فقال .. لا تغرقنا حبيبتك برضابها .. فقال لي .. قل رشفت الريق.... وكيف تقول تدفق .. فهل أن فمها حنفية ؟

مع الأدب الأجنبي

{ وكيف كان إعجاب السياب بالأدب العالمي؟

كان معجبا بقول شكسبير وتثاءب الذئب الجائع في وجه القمر وكان يردد هذه الصورة وكذلك كان معجبا بمسرحيته العاصفة ومخاطبته للروح في قوله ان قحف جمجمة جدك في أعماق البحار قد تكون كأسا يوما ما .. فالشاعر شديد التأثر بالصور العميقة وأعجب مرة بإحدى القصائد الفرنسية عنوانها الفأر في السجن ومطلعها السيدة الفأرة تتمشى في الزنزانة والخلاصة آه يكفي قد طلع الفجر وكان يذهب في فهم هذه القصيدة فهمها بديعا وهو ان معناها المحنة زالت وهذا التفسير لم تهتد إليه حتى أستاذتنا في درس الفرنسية في العالية .. كما ان السياب تأثر بعدد من الشعراء الفرنسيين مثل بودلير ورامبوا.وقد تأثر الشاعر عام 1944 بكتاب بودلير أزهار الشر المترجم عن الفرنسية إلى الانكليزية ... وتأثر من ناحية بحب بودلير للجمال الشاذ .. وكان بودلير معجبا بالفتاة الزنجية الصلعاء والتي كانت تسكن شارع المرأة ذلك التأثر كان سببا في ان ألف بدر جمعية تسمى الرفق بالقبيحات .. وفي العالية وفي تلك الظروف نظم قصيدته:

مرت فلامس شعرها شعري
فإذا الهوى بجوانحي يسرى
وأنا شخصيا نظمت قصيدة مطلعها ..
منيت بالأحلام من دهر
فرأيته نحو المنى يسرى

وكان ان ظهر بيننا الغزل بالفتيات غير الجميلات .. واستلهم السياب قصيدته الطويلة بين الروح والجسد من تأمل فتاة غير جميلة في محطة قطار كركوك .
ومن جهة فأن بدرا تأثر باليوت وكان يردد بيتا من قصيدة له ان صح حدسي هو ان قلبي يرتجف كارتجاف السيارة في انتظار الركاب وكان يقف عندها هذا البيت مرارا .. وكان معجبا بكيتس .. و كيتس كان مغرما بمناظر الطبيعة وكان يشعر ان الجمال ليس وقفا على الربيع وان هناك حصة كبيرة من الجمال للشتاء .. وان حصة منه للخريف.. واخذ بدر هذه الفكرة ونشرها في تضاعيف قصائد .. كما تأثر بشعراء ألمان منهم شيلر وغوته..

بعض المغالطات

{من خلال اطلاعك على الدراسات الكثيرة التي كتبت حول السياب هل عثرت على ثمة أخطاء تذكر ؟

الدكتور إحسان عباس قال ان هناك لدى محمد على إسماعيل مجموعات لم تنشر من السياب وان كنت أتمنى ان تكون عندي إلا أنها في الحقيقة ليست موجودة عندي وليس عندي ما لم ينشر لحد الآن. وهناك إشارة في مجلة العربي قبل أشهر في دراسة لأحد الأدباء تبالغ في رسم دار عبــد الجبار السياب من أنها كانت مجمعا للثقافات وان بدرا تلقى ثقافته السياسية منها. وهذه مبالغة رد عليها مؤخرا السيد عبد الرحمان السياب في رسالة إلى مجلة العربي. وحول ما قيل عن إيمان السياب وعدمه فاني أقول ان بدرا بدأ حياته مؤمنا وانتهى مؤمنا.

ألف ياء
27/12/2005