الأعمال الكاملة لأُنسي الحاج بمصر

فاطمة ناعوت
(مصر)

فاطمة ناعوتومَنْ ذا بمصرَ من الشعراءِ/ ولا يحتمون بأُنسي الحاج؟ أما الشعراءُ المصريون الذين أقصد، فالجدد التسعينيون وما قبلهم وصولا إلى المجددين من جيل السبعينيات. مع الاعتذار طبعًا للمتنبي مرتين. مرةً لأنني غيّرتُ عَجُزَ وبعضَ صدرِ بيته الشعري الذي يشاكسُ مصر، ومرةً لأنني توسّلتُ بيتَه، وهو من هو من فحول شعراء العمود، لأُبديَ امتنانَ الكثير من شعراء مصر لكبير "الملاعين" ممن شقوا طريقًا شعريًّا مغايرًا لطريق أبي الطيب المتنبي. أقول "مغايرًا" ولا أقول "مضادًا". أولا لأن التراثَ لا يُضاد، وثانيًا لأن كليهما فنٌّ، والفنُّ لا يضادُّ الفنَّ، قياسًا على "الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ، حسب ابن رشد. وكيف لا نعتذر للمتنبي وقد هجرْنا هيكلَه ورفعنا عصا العصيان في وجه ديانته كافرين بها واخترنا السيرَ في ركْب عُصبة من الثوّار المارقين العاصين المنشقين عن تراث السلف الصالح من رواد جماعة شعر مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس والماغوط وشوقي أبي شقرا وغيرهم؟ ألم يقل فيه أنطوان معلوف: "صحيحٌ أن أنسي الحاج نافخٌ في مزمار نبيّ ولكنّه ثائرٌ، وصحيحٌ إنه مترسل للحرية، لكنه التزم الكهانةَ في هيكل الشعر الحديث، وصحيح إنه بريءٌ، لكنه ممّن سفكوا دمَ الشعرِ التقليديّ ولم يغسلْ يديه من دمِ هذا الشعر الذي قد لا يكون صدّيقاً". أما نحن، شعراء مصر الجدد، فأقلُّ حظًّا من شعراء لبنان وسورية، لأننا لم ننشأ في حضن آباء شعريين كهؤلاء الملاعين الثوار ليباركوا جنوننا الخاص، بل أن آباءنا من الشعراء المصريين سلفيو النزعة حتى النخاع. حتى هؤلاء الذين ثاروا على (القديم جدًّا) في وقت ما، غدوا الآن حماةَ القديم (من دون "جدا"). ومن ثم لن يعترفوا بنا كشعراء إلا بعدما نغدو قرب النهايات ربما. ولهذا قلتُ ما قلتُ في عَجُزِ بيت الشعر الذي استهللتُ به المقال. فمَنْ مِنْ شعراء مصر الجدد لم يحتمِ بأنسي الحاج، وبيانه التأسيسيّ عام 1960، من البطش السلفيّ الذي يمارسه ضدنا شعراؤنا الرواد الذين مازالوا يتعبدون في هيكل العمود الفراهيدي أو في زاوية تفعيلاته الخماسية والسباعية، في أفضل الحالات!

وأما المناسبةُ فإهداءُ الشاعرِ اللبناني الكبير أُنسي الحاج، أحد حُماتنا، مصرَ أعمالَه الكاملة وصدورُها عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في ثلاثة مجلدات، ربتْ على الألف صفحة. وأنسي الحاج أشهرُ من أن نقدم نبذةً عنه، سواء للقارئ المصري أم العربي، لكننا نفعل لكي نشير إلى البيئة التي احتضنته صغيرا فجعلتْ منه أحد كبار المتمردين الذين سيشقون عصا الطاعة في وجه السلفية والتصنيم ليغدو من كبار الثائرين، في هدوءٍ، ضد هؤلاء المُرتعبين المُتطيّرين من المستقبل، المحتمين بأمن الماضي وجاهزيته. ولد أنسي الحاج عام 1937 لأبوين مثقفيْن، هو ابن المترجم لويس الحاج، وتعلم في مدرسة الليسية الفرنسية بلبنان. بدأ في نشر أعماله الإبداعية والبحثية وهو بعد صبيٌّ في المرحلة الثانوية، ثم دخل عالم الصحافة محترفًا قبل أن يتم العشرين من عمره فعمل بجريدة "الحياة" ثم "النهار" اللبنانية كمسؤول عن الصفحات الأدبية، ثم رئيسًا للتحرير. وإليه يعود الفضل في إصدار الملحق الثقافي لجريدة النهار عام 1964. كما أنه أحد مؤسسي مجلة "شعر" عام 1957 مع يوسف الخال وأدونيس. أما في مجال الترجمة فقد أضاف للمكتبة العربية العديد من الترجمات العربية لمسرحيات دورنمات وشكسبير وبريخت وكامو وغيرهم.

أجزاءٌ ثلاثة إذن صدرت في مصر مؤخرًا هي محصلة نتاج أُنسي الحاج الشعرية والتأملية الفلسفية لحد الآن. الجزء الأول يشتمل على دواوينه الثلاثة الأوَل: "لن" 1960، "الرأس المقطوع" 1963، "ماضي الأيام الآتية" 1965. وبالطبع التقدمة التأسيسية المهمة التي صدّر بها أنسي الحاج ديوانه "لن" الذي حمل على غلافه، لأول مرة في تاريخ الأدب العربي، عبارة "قصيدة نثر" وصدر عن دار "مجلة شعر" في خريف مطلع ستينيات القرن الماضي. الجزء الثاني يضم الدواوين الثلاثة التالية: "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" 1970، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" 1975، "الوليمة" 1994. أما المجلد الأخير فجمع كتابيْه النثريين "خواتم(1)، و"خواتم"(2) الصادرين عام 1991، 1997 بالتتابع. ويمثلان تأملاته الفلسفية والوجودية التي جاء بعضها مكثّفًا وموحيًا، وبعضها الآخر شارحًا محلّلاً. كتب الحاج هذين الكتابين إثر تشككه في موات "الكلمة" أو خفوت طاقتها في هذا الزمن الرقميّ الصارخ بعبثيته وبرمجياته، وهما محاولة منه للبحث عن لغة جديدة "تختصر كل شيء"، بتعبير رامبو، كما جاء في مقدمته كتاب: خواتم(1). والشاهد أن فارقًا هائلا يمكن رصده بين هاتين المقدمتين: مقدمة ديوان "لن"، ومقدمة كتاب "خواتم". هذا الفرق، الذي سنفصله لاحقا، جاء على مستوييْ الشكل والمضمون. أما المقدمة الأولى فكتبها الحاج عام 1960، وكانت، ولا تزال، تعدُّ البيانَ التأسيسيَّ الأولَ الذي دشنت به جماعة "شعر" عصرًا شعريًّا جديدًا يحتفي بقصيدة النثر العربية ويؤسس لها، مُطالبًا السلفيين من المهاجمين أن يتحرروا من وطأة الطوطميات والتصنيمات والاستنامة الرخوة للجاهزية التي هي ضدٌّ للفن في جوهره، وأن يفسحوا المجال لغيرهم من الشعراء المتمردين القلقين الذين يفهمون أن الفنَّ، أي فنٍّ، في جوهره العميق ثورةٌ على القارّ المطمئن. وفيها شرحَ الفرق، والعلائق، بين النثر وبين الشعر، ثم بين الشعر وبين القصيدة. مبينًّا أن أواصرَ وروابطَ وتقاطعاتٍ كثيرةً تربط بين الشعر والنثر ويشهد على ذلك التراثُ القديم. لأن كليهما، الشعرَ والنثرَ، حفرَ بقوة ونهلَ من حقل أخيه، ففي بعض الشعر نثرٌ مثلما نجد الشعر في كثير من النثر. فيما القصيدة شيء آخر غير الشعر. فالقصيدة هي العالم المغلق الذي يسعى الشاعر إلى خلقه من خلال الشعر. وتكلم عن الأوزان الخليلية التي رَهَنَ السلفيون الشعرَ بها بوصفها قالبًا كان صالحًا لشاعر كان يصلح لها، وهي ابنة عالم يناسبها وتناسبه، لكن العالم يتغير وهو ما لا يدركه المحافظون المحتمون بالماضي. ثم راهن بقوة على قصيدة النثر بوصفها ابنةً شرعيةً لهذا الزمن خليقته وحليفته ومصيره. وأنها تحقق سعي الشاعر التوّاق إلى المطلق واللانهائي. وكان أنسي الحاج، في مقدمته العميقة تلك، ذا حدس سبّاق فيما يخصُّ مستقبل قصيدة النثر بعد عقود من كتابته البيان. وكأنه يقرأ المستقبلَ، الذي غدا الراهنَ الذي نحياه الآن، باعتبار الزمن الذي كُتبت فيه هذه المقدمة عام 60، حين تكلم عن راكبي الموجة الذين سيكتبون الخاطرة والنثر الفني ظنًّا منهم أنهم يكتبون قصيدة نثر، فيما أكّد أن قصيدة النثر عملٌ فنيٌّ بالغُ الصعوبة وهي إنما "عمل شاعر ملعون". وطالب المحافظين بأن يعطوا لهذا الوليد الغضَّ الطريّ الفرصةَ لينمو بدلا من الحكم بوأده قبل أن يستوي على عوده، قائلا إن سنتين من عمر التاريخ لا تكفيان للحكم على جنس أدبي بالنجاح أو بالفشل ولذا فعلينا الانتظار قليلا. لكن الحاج لم يكن يعرف أن بلدا كمصر ستظل تعتبر قصيدة النثر كائنا لقيطًا (!) حتى بعد مضي قرن على ميلادها الفرنسي، وخمسين عاما على مولدها عربيًا في لبنان، بل بعد مضي ما يقارب العقود السبعة إذا ما اعتبرنا الإرهاصات الأولى الخجلى لها في عشرينيات القرن الماضي عند حسين عفيف وغيره! كثيرةٌ هي الأفكار المهمة التي يجب أن نتوقف عندها حال الكلام عن مقدمة ديوان "لن"، ومن الصعوبة بمكان الوقوف عليها جميعها. على أنني سأشير في الأخير إلى رأيه المهم حيث يقول: "في كلِّ شاعرٍ مخترعُ لغةٍ، (...) الشاعرُ الحرُّ مطلقٌ، ولغةُ الشاعر الحرِّ يجبُ أن تظلَّ تلحقَه، (...) الشاعرُ لا ينامُ على لغة."
أما مقدمة كتاب "خواتم (1)"، التي كتبها أنسي الحاج في ربيع 1991، فنحتْ نحوًا مغايرًا تمام المغايرة عن المقدمة الأولى. فبينما كانت المقدمةُ الأولى تبشيريةً مُستقبِلَةً، بفرح، مولودًا جديدًا طريَّ العود واعدًا بالثبات والثبوت والنجاح، مؤمنةً بالقادم مراهِنةً عليه، بدا لي بالمقدمةِ الثانية مسٌّ من الكفر بالقادم ويأسٌ من الرهان على أحصنةٍ أثبتت شيخوختها أمام ميكنة عصر مبرمج آلي استهلاكيّ المنزع. أما الحصان الذي خيّب ظنّ أنسي الحاج فيه، بعد رهان طويل عليه، فهو "الكلمة". ينعي الرجلُ، الذي الحرفُ صِنْعَتُه، الكلمةَ ويؤبِّنُها في مقدمة بدت لي عدميةً يائسةً كافرةً بالقادم. يقول: "هل أفلتتِ الظواهرُ والحقائقُ من محيط الكلمة وبات الواقعُ يُلمس خارج لغاتِها؟ ألم تعد الكلمات تبلور الحقائق وتبدعها؟ هل حلّت الرياضياتُ محلَها؟ والإحصاء والحفظُ الإلكترونيّ؟ هل أصبحتِ اللغةُ تَنْبتُ من اللغةِ لتُنجبَ لغةً دون أمل بأن تُفضي كل هذه اللغات إلى شيء خارج حلقتها المفزعة؟ (...) بين الأمية الجديدة، المقنعة بحجج السرعة والتكنولوجيا والمدنيّة السمعية البصرية، والانحطاط العضوي الذي يفترس اللغةَ، تصل هذه إلى حافة الاضمحلال." وعند هذا المقطع من المقدمة تلبسّني فزعٌ. فزعٌ مزدوج. فزعٌ وجوديّ وفزعٌ عمليّ. فأما الوجوديُّ فيصيبنا حين نلمح اليأسَ في عيون القادةَ والزعماء ممن نعوّل عليهم أن يرفعوا عنّا اليأس والجزع. وهذا أنسي الحاج أحد حُماتنا بدأ يفقدُ الإيمانَ بالكلمة وجدواها! ففيمَ نكتبُ نحن؟! وأما الفزعُ العمليّ فمرّده إيماني بحدْس هذا الرجل، فضلا عن حدس الشاعر الذي يمتلكه أصلا، وإذن اللغةُ إلى زوال حقًّا؟ ففيمَ وبمَ ولمَ نكتبُ نحن؟ ويتأكد لي حدس أنسي الحاج لأنه كتبَ هذه المقدمة "اليائسة" في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ليكتب بعده بعقد كامل ديفيد كريستال، أستاذُ الألسنيات واللغويات بإحدى جامعات أمريكا، كتابا بعنوان "اللغة والإنترنت" "The Language and the Internet" الذي صدر عن جامعة كامبريدج عام 2001، أي بعد كتاب الحاج بعشر سنوات، ويحمل نفس مضمون مقدمة أُنسي الحاج. متخوّفًا من اضمحلال اللغة الإنجليزية بفضل استشراء الرقمية ولغة الحواسيب والانترنت. على أن كريستال كان أكثر تفاؤلا وذهب إلى أن ذلك إثراءٌ للإنجليزية ولا خوف هناك، إثراء من شأنه خلق لغةٍ جديدة سماها "اللغة الثالثة"، باعتبار الأولى هي الإنجليزية الفصحى، والثانية هي الإنجليزية الدارجة. على أن تفاؤل كريستال لا يعنيني بقدر ما أحزنني تشاؤم الحاج بوصفه أحد عرّابينا نحن الشعراء الجدد الذين لا نقبل من حُماتنا إلا أن يزودونا بالأمل كما فعل بمقدمته الأولى عام 1960. هذا اليأسُ خليقٌ بالسلفيين الدوجمائيين الذين يقتلوننا كل يوم ولا يقبلون فينا عزاءً، بينما هو، اليأسُ، ترفٌ لا يمتلكه أصلا تنويريونا وحامونا.
لكن، دفعًا لليأس من قلبي، ألا يحقُّ لي أن أناقض نفسي لأسأل: هل حقًّا يمرُّ هذا الرائد الجميل بحال نكوص "إيمانيّ" وارتداد عن تبشيريته الأولى؟ هل يمدُّ يده الآن ليستردَّ منّا، نحن المحتمين به، منحته التي منحنا قبل خمسين سنة؟ هل يكفر بما جعلنا نؤمن به ويتركنا دون قِبلة نوليّ شطرها وجوهنا؟ هل هذا هو الأقرب للمنطق؟ أم أنني لم أكن في تحليلي إلا أحاديةً ضيقةَ النظر فقيرة القراءة؟ لماذا لا يكون الأمران اللذان ظننتهما نقيضين إلا وجهين لعملة واحدة؟ لماذا لا يكون ما بدا لي يأسًا وكفرا إن هو إلا أحد ألوان تقلّب نفسٍ كبيرة يمتلكها شاعرٌ كبير ربّى عقلَه على تقليب الأمور على وجوهها التي لا تتشابه إلا لتختلف، ولا تختلف إلا لتتشابه؟ أليس الأبيضُ أسودَ في أقصاه، كما الأسودُ أبيضُ في أدناه؟ ألم يعلمنا ماركس أن أقصى اليسار هو أقصى اليمين؟ مثلما علمنا هيراقليطس أننا لا ننزل النهرَ الواحد مرتين؟ فلماذا أطالب الرجل بأن يقول الرأي ذاته لنصف قرنٍ؟ حتى ولو كان القائلُ بالنسبة لنا هو بروميثيوس السارق لنا شعلة التجديد؟ بل لماذا لا يكون الرأيان فيهما من الرهان على الجديد الشيءُ الكثير حتى وإن بدت لي مقدمته الثانية عكس هذا؟ ثمة حجرٌ كريم اسمه "ألكزاندريت"، ربما نسبة إلى الإسكندر الأكبر، في كل ساعة من ساعات النهار يشعُّ انعكاسات ضوئية ولونية متباينة تبعا لكم الضوء الساقط عليه وزاوية السقوط. أفليس الشاعرُ أشبه بهذا الحجر الكريم سيما إذا كان بحجم أنسي الحاج؟
هكذا اختلفتِ المقدمتان مضمونيًّا. ولو ظاهريًّا. أما أسلوبيًّا فالمفارقة أن المقدمة الأولى التبشيرية جاءت إبلاغية إيصالية مباشرة لا مجاز فيها كثيرا. ربما لأن هدفَها إيصالُ رسالة محددة تُطوّب النصَّ الجديد وتدفع عنه غلواء المحافظين. أما المقدمة الثانية اليائسة فجاءت شعريةً إبداعية كأنما هي قصيدة نثر مطولة كتبها شاعرٌ حزين كمرثية في معبودته التي تحتضرُ على مرأى منه ومسمع: الكلمة. وأما المفارقة فمتأتية من أن الأولى كانت مقدمةً لديوان شعري، بينما الثانية مقدمةً لكتاب تأمليّ وجوديّ يقترب من الحِكَمية والفلسفة.
جاءت قصائد الدواوين الستة لأنسي الحاج على أنحاء مختلفة من حيث طبوغرافية توزيع أسطرها على الصفحة. بعضها جاء مقطّع الأسطر مثل قصائد الشعر الحر حيث التقطيع السطري يلتزم إما اكتمال المعنى وإما تبعًا للإيقاع الموسيقي الذي يتغياه الشاعر، بينما اعتمدتْ قصائدُ أخرى الشكلَ الأفقيّ للقصيدة الفرنسية من حيث انتثارها على السطر الكامل كأنها قطعة نثر عادية.
أما المقارنة بين "لغة" مقدمة ديوان "لن" وبين "لغة" قصائد أنسي الحاج، أي المقارنة بين أنسي الحاج الناثر وأنسي الحاج الشاعر فتحمل وتشرحُ، المقارنةُ، رسالةَ الرجل كاملةً. الفارقُ بين لونين من الخطاب: أحدهما إيصالي إبلاغي عاقل، والثاني إبداعيّ بلاغيّ فنيّ محمول على كف الجنون. نرصدُ في الخطاب الأول رصانة اللغة واحتراما تامًا للأجرومية اللغوية صرفيًّا وتركيبيًّا وحتى سيموطيقيًّا من حيث أدوات الترقيم وانتظامها وانضباطها– بالمسطرة كما نقول بالمصري-. فلا ألاعيبَ لغويةً ولا مجازات معقدة ولا خروجات عن اللغة التبيانية التي "لا غبار عليها". بينما في الخطاب الآخر، الشعري، يبدأ الفنُّ الذي "غبارٌ عليه أيُّ غبار". إذ نرصد التمرّدَ على انتظامية اللغة وسَوْسًا لها واجتراحا لرتابتها واختراقًا وتفجيرًا لقانونها الأجروميّ الرتيب. هذا، وإن ظلَّ ميزانُها النحويّ والصرفيّ محترمًا وسليمًا، بوصفه عمادَ اللغةِ ونسغَها الذي لا يُمسّ وإلا قُوّضت اللغةُ من أساسها. وهنا رسالة أخرى من أنسي الحاج لقارئه، مفادها أن قصيدةَ النثر وراءها فكرٌ ورؤى ورسالةٌ أيديولوجية وإن طرحتْ عن ثوبها الأيديولوجيات. قصيدة النثر ليست مجرد شكل جديد للقصيدة، وليست أيضا ثورةً على الوزن الفراهيديّ، بقدر ما هي ثورةٌ على صنمٍ أحاديِّ الرؤية فقيرِها. صنمٌ اسمه "قداسة اللغة" وُضِع للعربِ، أو وضعَه العربُ بأنفسهم لأنفسهم لكي يعبدوه. بينما اللغةُ براءٌ مما يصفون. إن المحبَّ الحقيقي للعربية، وأنا إحدى المفتونات بها، لابد أن يؤمن أن اللغة كائنٌ حيٌّ يولد ويعيش ويتنفس ويموت أو تموت بعض خلاياها ليولد غيرُها. أذكرُ في حوار بيني وبين القاص الإنجليزي جون ريفنسكروفت أن قلت له نحن كعرب نقدّس لغتنا فماذا عنكم أيها الإنجليز؟ سيما بعدما استبدلتم بالشكسبيرية القديمة لغةً حيّة معاصرةً أكثر حيوية وبساطة. فأجابني: "إن اللغة ليست مقدسة في ذاتها، لكنها تشبه شجرة الميلاد، هي رمز وحسب للقداسة، لكن بوسعنا أن نضيفَ إليها ونقصَّ منها حسب معطيات الضرورة". شعرُ أنسي الحاج، وقصيدة النثر بعامة، ثورةٌ على "الداء العربي" حسب عنوان كتاب شريف الشوباشي. الداء العربي الذي احترف الأحاديات والثنائيات وأغفل ما بينهما. الداء الذي يجعلنا نخلق صنمًا من التمر لنعبده ناسين أننا صانعُوه، ثم نلتهمه بليلٍ بعيدًا عن عيون الناس. الحبُّ لا يعني العبادة، الحبُّ برأيي شيءٌ أرقى لأنه يقوم على نديّة صحّية تنعش الحبَّ وتنزع منه الرهبة. وحبُّ اللغة لا يمنع اللعبَ بها واللعبَ معها، سوسَها حينًا والخضوعَ لسطوتها ودلالها حينا. سنرصد بجلاء هذا اللعب والتفجير اللغوي في شعر أنسي الحاج حين يأتي بجمل غير مكتملة كما في قوله:

"سأطبعُ كتابًا
ليعرفوا أنكِ
سأطبع كتابًا
ليقولوا عندما يفتحونه:
"كنا نحسبه شخصًا آخرَ"
سأطبع كتابًا
ليقولوا عندما يغلقونه:
لم نكن نعرف أنه
كنا نظن أنه
سأطبع كتابا
لأن عينيك لأن يديك
سأطبع كتابا
لأني لا أصدق."

هذه الجمل المبتورة لم تبتسرِ المعنى ولم تلغْه، بل كثّرته وأثرته. شيءٌ يشبه هدمَ الحائط الرابع في مسرح بريخت لكي يتفاعل النظّارةُ مع الممثلين. هنا القارئ سيكمل النصَّ بدلالات لا نهاية لها. كأن لسانَ حال الشاعر يقول: أنا لم أعد نبيًّا أعلم الغيب، بل أنا حائرٌ مثلك أيها القارئ! مثلك أبحث عن المعنى، مثلك أسألُ ولا أصلُ، وهنا مكمنُ جمالي كإنسانٍ، مكمنُ اكتمالي هو النقصُ.
وفي قصيدته الجميلة "قبل أن يموت" يقول الحاج:

"من الآن فصاعدًا
لا تضحكوا
إن أخطأ فظنَّ
أن حبيبتَه
هي حبيبتَه!"

أما سرُّ عبقريتها برأيي أن الجملة الأخيرة أيضا غير مكتملة. كانت تكتمل لو قال: "أن حبيبتَه هي حبيبتُه." فلو تأملنا تنضيد الأحرف سنكتشف أن خبر "أن" غير موجود. فكلمة "هي حبيبتَه" الأخيرة ليست خبر "أن" بل هي تكرارٌ لاسم "أن"، والدليلُ نصبُها أيضًا بدلا من رفعِها.
وفي قصيدة "يكتب ويقرأ" يقول:

"كانت يدٌ
كانت يدان
كانت يدان صغيرتان
لم تفعلا غير الظلّ
والثلج
والجمر
(...)
كانت عينان
لم تفعلا غير السجن"

ليس سوى الشعر، وليس سوى شاعر جرئ "ملعون" بوسعه أن ينسب الفعلَ "يفعل" إلى الظلّ والثلج والجمر، وهي أشياء لا "تُفعل" بل هي موجودةٌ، أو في أحسن الأحوال "تُصنَع" لا تُفعل. والأمر نفسه منطبقٌ على مفردة "السجن"، الذي لا "تفعله" إلا "عينان" لا تراهما سوى عيني شاعر "غوّاص" يفهم المعنى الصحيح "الصحيّ" لمصطلح "تفجير اللغة"، بمعنى محاولة استخراج طاقاتها الخبيئة من خلال تراكيب طازجة جديدة لم يكشفها الأقدمون بعد، في لغةٍ هي كـ "البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ" ينتظر غواصينَ جددًا لا يُسألون عن الأصداف.

النهار
ابريل 2007