(الروائية الأميركية في «أحلام صبيان» و«لي، إلى الأبد)

اسكندر حبش
(لبنان)

لورا كازيسكيعن منشورات «بورغوا» في العاصمة الفرنسية صدرت مؤخرا ترجمة لروايتي الكاتبة الأميركية لورا كازيسكي، الأولى بعنوان «أحلام صبيان» والثانية بعنوان «لي إلى الأبد»، هنا تعريف ببعض مناخات الكاتبة والكتابين.
تبدو النساء اللواتي تكتب عنهن الروائية الأميركية لورا كازيسكي نسوة عاقلات جدا، وإن كنّ يشعرن بالانزعاج في كثير من الأحيان. تتراءى حيواتهن منتظمة ومنظمة بشكل مدهش تماما مثل عداد «الميكرو ويف» الموضوع في المطبخ لكنهن يرقصن فوق براكين، من دون أن يعرفن ذلك. ففي منازلهن الأنيقة والمرتبة، يتحرك «إبليس» تحت السجاد والموكيت، لذلك هن جديرات بالانتقال من اجتماع صباحي يناقشن فيه ما سيطبخن ذلك اليوم، إلى أعمق أعماق الجميع الذي يحيط بهن. من هنا يجب علينا أن نحذر من هذه الكاتبة، التي «تختبئ» في مزرعة بعيدة من مزارع ميتشيغن، لأنها لا تنفك عن «إشعال» هذه الطبقة الأميركية الوسطى عبر هذه «السيناريوهات» (الروايات) التي تكتبها، والتي غالبا ما تبدأ على طريقة «المسلسلات العاطفية الزرقاء» المحببة إلى قلوب المشاهدين، بيد أنها سرعان ما تتحول إلى صخب وعراك وعنف لأن الحياة، ليست في النهاية، إلا هذه الآلة الجهنمية. «ما يثيرني فعلا ما، هو هذا الشيء الموجود خلف هذه الطلاء الذي نطلي به حياتنا، ما تخفيه حقا حين تكون عقلانية وهادئة جدا»، على قولها في أحد الأحاديث الصحافية.
ثمة بعض الأفكار، وهي تبدو أشبه بحفنة من الهوس، تشكل عماد رواياتها، لدرجة أنها قد تنتقل من كتاب إلى آخر: تحول النساء في سن المراهقة، فخاخ الجنسانية وعلاقاتها، العلاقة بين الأمهات وبناتهن والتي غالبا ما تكون علاقات عاصفة، فترات نهاية الأسبوع، بعيدا عن العمل. الماضي وغالبا ما يكون ثقيلا ومزعجا ومهددا بتقويض كل شيء الذي لا يتوقف عن العودة لتهديد الحاضر ويغرقه بالدم. كذلك نجد تلك الوجوه المتعددة للموت وهي تقف بالمرصاد في كل أجزاء المنزل. فحين ندخل في رواية من روايات لورا كازيسكي، لا شيء يتحرك، وكأننا داخل لوحة من لوحات إدوار هوبر، لنجد فجأة، أن اللوحة تتشظى لننتقل بعدها إلى عند مونخ أو غويا.

أحلام صبيان

«سنة بعد سنة، نستعيد القصص المرعبة عينها، المخيفة والحقيقية وثمة دائما فتيات يخفين وجوههن بأيديهن خلال عملية السرد»، تكتب لورا كازيسكي في بداية كتابها «أحلام صبيان»، لتعلن بذلك اللون التي ستعتمده طيلة الكتاب. إنه اللون الأحمر هذه المرة. أحمر كالدماء بالطبع. احمر كلون سيارة «الموستينغ الكشف»، حيث في أحد الأيام المشرقة تصعد إلى متنها ثلاث فتيات مشرقات في السابعة عشرة من عمرهن. خلف المقود، كانت كريستي، النزقة، المعطرة برائحة الفريز، «ذات العينين الكبيرتين الزرقاوين والخدود الزهرية، والبشرة المبرنزة والابتسامة الساحرة والصدر الجميل...»، كل شيء يوحي وكأننا أمام مجموعة من تلك المجموعات التي كتب عنها جاك كيرواك. في المحطة المقابلة، لم يتوقف صَبيان شجاعان من التحديق بهن، وليلحقا بالسيارة عن قرب «بالبريك» (عربة بأربع أرجل يجرها جوادان)... حفلة أشبه بحفلات «الروديو» (مصارعة الثيران) لكنها تدور في جنة ما ولتنتهي بشكل سيئ، بالطبع، عبر خانة الاستدارات المرعبة. قبل أن يتم انتخاب كريستي، في الخريف الذي حل، ملكة جمال الليسيه. كما لو أن شيئا لم يحصل البتة. «كنت املك سيارة موستينغن، صديقاً ومستقبلا ينتظرني». كملة تقولها بطلة رواية لورا كازيسكي وكأنها تعزي نفسها بها. عزاء ضروري في هذه الحكاية التي تغرق في هذا القبر المفتوح التي لم تتوقف الكاتبة عن سبر أغواره منذ أعمالها الأولى.
تتكلم الروائية الأميركية عن المراهقة كما لم يتكلم أحد عنها من قبل. تموسق أصوات القدر النشاز مثل نشال مخيف. هل لأنها تكتب وراء طاولة تطل نافذتها على مقبرة؟ أم لأن أمها اختفت بطريقة مأساوية عندما كانت في عمر هذه الفتيات الشابات؟ أسئلة لا تتوقف عن طرحها أيضا مع الرواية الثانية التي تصدر ترجمتها في الوقت عينه عن الدار ذاتها، بعنوان «من أجلي للأبد». إذ فيها أيضا، يتعطل الفيلم بدوره ويحترق. نحن أمام امرأة تدعى شيري سيمور، في الأربعين من عمرها، تُدرس في إحدى الجامعات الصغيرة لتتلقى يوم عيد القديس فالنتين بطاقة غامضة. ثمة يد غريبة كتبت عليها بعض الكلمات «لتكوني لي إلى الأبد». تخبر شيري زوجها عن ذلك، فيشجعها على إيجاد كاتب هذه الرسالة «ليضع بعض التوابل في حياتهما». تصاب شيري بالهوس من قبل هذا المعجب الغامض والسري، تبدأ تحرياتها. تظن أنها كشفت النقاب عنه. فتسقط بين ذراعي متجامل لا يقودها إلا إلى خيانة زوجها قبل أن تتحول هذه الكوميديا إلى لعبة أشبه بالمذبحة.
تعرف لورا كازيسكي الكثير حول تشوش العواطف وتصدع الأرواح وسوء الفهم والكلام المخفي الذي يسمم العائلات. تعرف الكثير وتعرف كيف تتحدث عن ذلك كله. نأخذ الطريق باتجاه المأساة من دون أن ننتبه إلى ذلك حقا، بعد أن نكتشف الكاوس الأخلاقي والاضطراب العاطفي اللذين يختبئان خلف المظاهر الأكثر عادية. يمضي ذلك كله بسرعة كبيرة، يمضي إلى هدفه رأسا «مثل دولاب ضخم يتدحرج من فوق هضبة عالية».
تنتمي لورا كازيسكي إلى تلك الفئة من الكتاب الذين ننحاز إليهم بسرعة كبيرة. لأنها تكتب ذاك النوع من الكتب الذي يقودنا إلى قراءة «الأعمال الكاملة». وما هذان الكتابان الجديدان إلا التوكيد على ذلك. فالكتابان وكأنهما يتحاوران مع بعضهما البعض ويتكاملان بشكل طبيعي، لدرجة أنه يمكننا اعتبار أن شيري، المرأة الأربعينية في كتاب «لي إلى الأبد» والتي تقترب من مدام بوفاري (في رائعة فلوبير، التي تحمل العنوان عينه)، لكن التي تعيش في إحدى مدن «الميدل ويست»، والتي تعود لنكتشف الرغبة الجسدية بسبب سوء الفهم هذا، مثلما أشرنا ليست في واقع الأمر إلا كريستي (بطلة «أحلام صبيان») بعد أن تخطت المراهقة وأصبحت في سن الرشد، أي تلك الفتاة المتفتحة بشكل مدهش، التي وقعت في حبال كمالها إلتي كانت تبحث عنه.
لكن على الرغم من هذا التشابه، التي تقول الكاتبة إنها لم تبحث عنه عمدا، إلا أنها تعي ما يمكن أن يكون عليه ذلك، وبخاصة حين تكتب في نهاية كتاب «أحلام صبيان»: «لقد أصبحت أكثر من هذه الفتاة المراهقة، أكثر من هذه الفتاة الأميركية النموذجية، أنا أيضا، يحدث لي بأن أعيش لحظات رعب على أنها لحظات انخطاف وانشداه».
هذه الانسيابية التي تنتقل من رواية إلى أخرى ربما تتأتى من كون لورا كازيسكي التي يُعترف بها في الولايات المتحدة بكونها شاعرة أكثر من كونها روائية تستوحي رواياتها من العالم المحيط بها ومن الناس الذين يحيون في هذا العالم. فهي تهب نفسها كليا إلى هذا العالم الكتابي، لأنه يمثل لها هذه الطريقة في «إعادة تنظيم الواقع من أجل إعطائه معنى، من أجل أن نبحث له عن هذا المعنى الذي لا يمتلكه». فهي، كما كريستي، نشأت في إحدى الضواحي الأميركية الغنية ذات الأعماق المضطربة على الرغم من مظاهرها الهادئة. وفي فترة باكرة جدا، بدأت تلاحظ ما يجري حولها، وبخاصة أنها من عائلة ميسورة بشكل متواضع أمام كل تلك العائلات ذات الملايين، إذ لم تكتشف في الجامعة إلا أن كل عائلة من هذه العائلات كانت تملك طائرة «هيلوكوبتر» على سطح البناية التي تسكنها. من هذا الفارق، يبدو حس الصورة الفريدة الذي يموضع هذه الروايات في خط متواز، ما بين الواقعية الحادة وما بين الفانتازيا الضبابية.
لورا كازيسكي، كاتبة تستحق أن تكتشف وأن تقرأ، فهي ترسم لنا صورة عن تلك الأرض، التي مهما قرأنا وشاهدنا من أفلام ومسلسلات، تبقى عصية على السر، وبخاصة لمن لا يسكن فيها.

السفير
15 يونيو 2007