عناية جابر
(لبنان)

عباس بيضونأحب أن اسميه كتاب عباس الجديد . ب ب ب ليس العنوان الذي يؤرقني، أو يذكرني بـ حجرات أو أشقاء ندمنا أو سواها من عناوين كتب عباس. ب ب ب لا يجرحني، أو يسمر بؤبؤ عيني او يجعلني أتمثل عباس يجلد الكلمات، او يقطع أرجلها، او يجعلها تهلك من كثرة الحب. ب ب ب مع ذلك ـ سواء أعجبني أو لا ـ عنوان المجموعة الشعرية الجديدة لعباس بيضون، وفيها عباس نفسه، وفيها بيروت باريس برلين، وفيها الكلمات المستعملة مراراً من الشعراء، سوي أن عباس يعرف أن يجعل لها حياة خاصة، لا ترحمنا في جمالها.
لا يخشي عباس، الذي حولنا دائماً ويعيش معنا، أن يكتب حياته ذاتها التي يعيشها حولنا ومعنا، سوي أننا نراها مكتوبة، فنجدها متحققة خارج عيشنا، وفي غير الأيام التي حسبنا أنها حدثت لنا وله، وبعيداً عن الأشياء التي بدت لأعيننا كما لعينيه. مدنه، وشوارعه، وطرقاته، ومشيه، وأحذيته، وجراحه، ونساؤه، وتعبه، وقصائده كلها غير التي لنا. تتحقق حياة بيضون دائماً خارج ما نعتقده ونظن، وتتحقق في الحرية القاسية لقدمين مشاءتين، وصدر بجرح. ولن يكون عباس سعيداً أبداً.
أغوي امرأة بجرح في الصدر، بجرح في الساق واستدرجها بإصبع مكسور إلى سريري، من الرائع لها أن تكون رخاما وان أدس إصبعي في فجوة إذنها. من الرائع أن لا تتأثر برودتها بيدي. وان تسري نعومتها الرخامية في جلدي تم تعلقني بنظرة عينها الزجاجية.
في النهاية نحن لا نتألم لكن ننام متعانقين وعاريين مع جرح .
عباس بيضون شاعر حداثي جداً. تعريف مقتضب لكنه هكذا يفرض نفسه. شاعر حداثي ذو تذوق حقيقي ومخيف للفنون.
ينهب الأشياء نهباً لا رحمة فيه. تنوع معارفه في القصيدة هو جزء حيوي من شعره، إضافة إلى أن كتابته بأكملها إنما هي تجوال بين الثقافات يشربها قلبه وتخزنها عينه. يبلفنا عباس ببضعة ارتباكات يفعلها جسده، جاهداً في الحقيقة إلى إخفاء ارتباك شعوري أعمق، وحس إغريقي ممعن في الألم، يتمثل من حيث الإيقاع الفني، مسيطراً عليه بصرامة، ما يثري الجملة عنده بسبب من هذه الصرامة تحديداً، ومن اختلاط الحس والمعالجة بأقل الممكن من الكلام، تم التألق والبهاء اللفظي والمشاهد التي تسطع، وتحتاج هذه لسطوعها شاعراً من وزن عباس.
ثمة وراء حداثويته بجدارة، ما هو قائم علي ما يراه، وعلي كيف يراه ويكتبه. هناك وعيه الكئيب بالحياة التي تكتمل في مفارقات معادية بشكل عميق لطمأنينته، وبشكل مفارق خصوصاً، لبلادة الشعر. حداثي، ليس أكثر من شعراء حداثويين فعليين، سوي انه مختلف بموقفه من العالم الحديث، بجماليته إزاءه، بارتباكه الخلاق الذي لا يستجيب للصورة السائدة المتعارف عليها عن الحداثة.
مسألة إضافة كتاب جديد او مجموعة شعرية جديدة إلى منجز بيضون الشعري، تستمد حساسيتها عنده من آلية كتابته العالية، ومن اهتمام بتلمس ملامح جديدة علي الصعيد الفني، ومنحوتة في آن من مراكمة مشاهدات داخلية وخارجية يستلها استلالا من الأمكنة والمواضيع، والهوامش خصوصاً، التي ترتفع في قصائده إلى مرتبة الفكرة الكلية، القابضة والمهيمنة.
قصائد ونصوص شعرية تتقطع لها الأنفاس من نغمتها غير العابئة ظاهرياً، والحزينة فعلاً، روحها، عاطفتها الفردية التي تحتدم في مواجهة العالم، ودائماً من تفاصيله التي لا تلحظ.
لماذا اخجل إمام بوابة براندبورغ؟ أفكر أن علي أن ابرز شيئاً للتاريخ، أن جرحاً في الصدر قد يكفي لكني لا أقدم ذلك للسائق بالطبع. علي فقط أن اخجل من الصعود إلى الحافلة او اجلس متلبكا كمن فقد بطاقته، ربما احتجّ بأن ذلك غير مفهوم في لغتي او أتخلص من جرحي إذا بقيت أتحسس في جيبي البطاقة الضائعة وأقدم خجلي لمفتشي القطار .
لا مناص أيضا من مكر بيضون، حين يقدم لنا الجمال، بدون انسجام ودون اكتمال، وفي الجرأة في الحدب علي القبح والغروتيسك والشر ورفعها إلى أبهة الشعر، ودائماً من خلال وحدة الغاية والتعبير.
ينزع بيضون إلى حب الأجزاء، الأجزاء هي فكرته لذلك لا يقترح علينا في تجواله بين بيروت باريس برلين حكاية عن حياته او أسفاره، ولا وصفا لمشاهد او مدن حقيقية، ولا يفرض علينا وحدة ما لمجمل المشاهدات، بل هي كتابته دائما في حالة تهيؤ لكل مصادر الإلهام لدي الشاعر.
في النصوص النثرية إذا صح التعبير، يسمح لنا بيضون بمزج أنواع مشاهدة شديدة الاختلاف، حتى ليجعلنا نحس بوجود عالم غامض شديد الوطأة ومكتمل الشكل، سوي أن تحققه علي يدي الشاعر فحسب، ومن خلال معجمه التقني اللغوي بشكل أساسي، وجديد في آن.
هل نضرب هذه الساق المقطوعة مثلا أم نستخرج من رجلين خشبيتين درس النملة المجتهدة. لو كانت نملة كاملة لضربت مثلا أوضح. لو كانت خشبة لأحياها الله في ثانية. لكن الألم هو الفرق الذي لا يلاحظه احد.
بدون مؤثرات بلاغية، او نوافذ زائفة، يتبني بيضون شكل النثر الأكثر تصادمية، ويتحاشى كل ما يمنح جملته مظهراً خطابياً متزناً، ويجنح إلى كسر التماثلات، وتستهويه الانقطاعات المفاجئة في التركيب، ونري إلى رغبته بتفكيك الجملة مفسحاً للإيقاع بالتواجد في قلب هذه الفوضى، كما مفسحاً للعناصر والروابط وأدوات الوصل، بالتوحد.

القدس العربي
8-2-2007