عن الطبيعة البشرية

(طائر البحر، عمل يثير الدهشة وحب الاستطلاع)

غادة السمان
(سوريا)

غادة السمانهذا الكتاب يثير الدهشة والفضول، اسمه جوناثان ليفنغتون النورس طائر البحر ، وقد استطاع أن يكون أكثر الكتب مبيعا في أمريكا وأوروبا طيلة أسابيع، بالرغم من أنه يخلو تماما من كل أثر للعنف، أو الجنس، أو السياسة، أو الفضيحة!.. ويخلو حتى من بطلة امرأة.. وحتى من بطل رجل!.. انه يخلو من بطلات جاكلين سوزان المثيرات وأبطال هارولد روبنز المثيرين وغيرهما من أصحاب أكثر الكتب رواجا.. فبطل الكتاب نورس!.. وقد اعتدنا علي أن تكون الكتب المرشحة لبيع ملايين النسخ، زاخرة بالمشاهد الجنسية العارية، أو المشاهد السياسية العارية التي تعري حقيقة فضائح أشخاص أو مدن أو أنظمة أو مشاهد العنف العاري حيث يخوض المؤلف في بحر الدماء عاري القدمين وبلا قفازات ويتزلج علي الجراح النازفة باستمتاع كأنه يتزلج علي الجليد..

أي أن المهم في الكتب الأكثر رواجا هو العري في الجنس أو السياسة أو الدين.. أو المجتمع.. أو العنف..

فهل كسر كتاب جوناثان ليفنغستون النورس، القاعدة، أو تراه أكدها؟.. للوهلة الأولى يبدو لنا انه كسرها..

فليس في الكتاب أي عري من التعريات ، الآنفة الذكر، ولكنا حين نعيد النظر فيه، نجد أن مؤلفه اكتشف مجالا جديدا للتعرية.. فهذا الكتاب يعري الإنسان من الداخل، وهو أمر ليس جديدا، وكل كتب الأدب التي كتبت طيلة قرون كانت تهدف إلى تعرية الإنسان وصراعه مع الوجود، ولكن سر نجاح هذا الكتاب وانتشاره هو في أسلوبه الخاص لهذه التعرية.. أسلوبه الجديد، والبسيط والسهل حتى أنه يصلح كتابا للأطفال، والعميق حتى انه يحرض المثقفين والفلاسفة علي التفكير.. والشاعري الشفاف الذي يرضي حتى أذواق حذالقة الأدب.

فحكاية النورس التي يرويها الكتاب هي حكاية كل إنسان منا.. والمؤلف ريتشارد باخ يروي حكاية الإنسان مع المجتمع والوجود علي طريقة ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة ، أي علي لسان الحيوان وفي مملكته.. وفي حين توقف التراث العربي عند كليلة ودمنة، ولم يأت عربي يطور هذا الأسلوب في الكتابة، أو ينفض الغبار عنه ويعيد خلقه في أسلوب عصري حديث، نجد أن أمريكيا من نيويورك القرن العشرين استطاع أن يكون ولي العهد الروحي لابن المقفع، وها هو يروي حكاية الإنسان علي لسان طائر النورس الذي لم يسبق لابن المقفع أن استغل إمكاناته الفنية.

نورس القلب الشريد

تبدأ الحكاية بنورس صغير طيب اسمه جوناثان ليفنغتون يعيش مع أسرته ومجتمعه الصغير المكون من مئات النوارس علي شاطئ جميل.. وبينما يتعلم النوارس الصغار الطيران لصيد الديدان والأسماك لأكلهم، تجد جوناثان النورس مهتما بالطيران من أجل الطيران.. إنه نورس فنان !.

انه يحب أن يحلق في الجو، أن يعلو، ان يكتشف الوجود حوله، ويرفض أن يكون وجوده كله مكرساً لمجرد الأكل والنوم مثل بقية النوارس.

انه بدلا من أن يتعلم الطيران المنخفض قرب الماء، نجده يحلق في الريح عاليا، ولكن أجنحته ليست كأجنحة النسور التي خلقت لتحلق، وها هي الريح تقصف جناحه، وهاهو يسقط في البحر مهيض الجناح، يهذي بألم: لا شفاء لقلبي الشريد، ما أنا إلا نورس مسكين. الطبيعة حددت طاقاتي. لو كانت الطبيعة تريد لي أن أطير لزودتني بأجنحة النسور، ولزودت دماغي بقدرة علي التخطيط ومعرفة الاتجاهات، لقد كان والدي علي حق. يجب أن أنسي هذا الجنون. يجب أن أعود إلى القطيع وأرضي بالحياة معهم ومثلهم وأقنع بمجرد صيد الديدان والأسماك، فما أنا إلا نورس مسكين محدود الطاقة.

ولكن ما أن يطلع فجر اليوم التالي حتى تعاود جوناثان النورس شهيته إلى الطيران ويعاود تمريناته.. يكتشف انه بالرغم من طاقاته المحدودة، يستطيع التحليق اذا استغل عقله.

وها هو يحاول من جديد، أن يكتشف كيف عليه أن يحرك جناحيه أثناء الهبوط وكيف ومتى تأتي لحظة الخطر وكيف ينجو منها، واستطاع أخيرا أن يتقن الطيران بسرعة 214 ميلا في الساعة وهو أمر لم يسبق لنورس حي أن حققه.. ومن بعيد يراه سربه وهو يحلق في السماء بهذه السرعة، ويرونه وهو يتقن الهبوط رغم هذه السرعة دون أن يتحطم علي الشاطئ.

ويلتف حوله حكماء وزعماء السرب، وهو أمر لا يفعله النورس إلا في حالتين: حالة التكريم. وحالة النبذ. ويظن أن جميع نوارس السرب قد جاءت لتهنئته، والتعلم منه، لكنه يفاجأ بطرده من القطيع لأنه تجرأ علي حرمة تقاليد أسرة النوارس! ولىنه بكثير من اللامسؤولية خالف نظامهم القائل بأن كل ما يحق للنورس معرفته هو أن يأكل ويظل حيا أطول وقت ممكن .. ورغم أن قوانين القبيلة تحرم علي النورس المعاقب حق الكلام أو الدفاع عن النفس، إلا ان جوناثان النورس يتجرأ ويصرخ بهم: يا رفاقي تتهمونني باللامسؤولية. من يمكن أن يكون مسؤولا أكثر من نورس يبحث عن طريقة ترفع مستوي حياة قومه وأهداف وجودهم إلى مراتب أرفع من مجرد الأكل والنوم؟ أعواما طويلة قضيناها لا نفكر إلا بأكل الأسماك، أما الآن فلدينا سبب جديد نبيل لنحيا.. لنتعلم.. لنكتشف.. ولنكون أحرارا.. امنحوني فرصة أعلمكم فيها اكتشافاتي..

ولكن جوناثان النورس الثائر مصيره مثل مصير أي ثائر في تاريخ الإنسان، انه يمنع من حق الكلام، ويطرد من القطيع لأنه تعلم الطيران وعليه أن يدفع ثمن هذه الخطيئة.

وغادر القطيع ليعيش وحده في المرتفعات المشرفة علي البحر واكتشف أن الضجر والخوف والغضب التي تجعل حياة النورس قصيرة، يسببها المجتمع بكبته للنورس ومنعه من الطيران.. وها هو جوناثان يكبر دون أن يشيخ وإنما تزداد طاقاته علي التعليق بشكل مذهل. وها هو يطير ويطير حتى ينجح في الوصول إلى السماء.. فذات مساء يفاجأ جوناثان بوصول نورسين شفافين أجنحتهما من نور وذهب يقتادانه إلى بلاد النوارس التي تعرف الطيران.. ويظن انه في السماء، لكنه يكتشف انه خلف هذه السماء سماء أخري وخلف معرفته بالطيران معرفة لا تنتهي.. وهو الذي كان يظن أن الطيران بسرعة 273 ميلا في الساعة هو أقصي رقم يمكن للنورس الوصول اليه، يكتشف علي يدي معلمه شيانغ النورس أن هذا الرقم ليس شيئا وان بوسع النورس يتجاوز بطيرانه سرعة الصوت وحتى سرعة الضوء ليطير بسرعة الفكر.. أي انه يكفي أن يفكر بمكان ما ويريد أن يكون فيه بكثافة وصدق حتى تتحول إرادته إلى حقيقة واقعة.. وان مثل هذا التطور يتطلب من النورس معرفة ومراس أجيال ونجد النورس يلخص حضارة الإنسان بقوله: نحن الذين نختار عالمنا المقبل ونرسم صورته وذلك من خلال ما نتعلمه في عالمنا الحالي وما نضيفه إلى معارفنا هذه. وإذا لم نتعلم شيئا، ولم نطور شيئا، لن يكون الغد سوي الأمس مكررا بكل ما فيه من قيود وحدود وأثقال تكبلنا. وذات يوم يقول جوناثان النورس لمعلمه شيانغ النورس ولمجتمع النوارس الشفافة المضيئة الأجنحة: شيانغ، هذا العالم ليس السماء، أليس كذلك؟ ويرد المعلم شيانغ: انك تتعلم بسرعة ياجوناثان.

- ومتى أصل إلى السماء؟

- ستبدأ بلمس ملكوت السماء في اللحظة التي تصل فيها إلى الطيران المثالي والطيران المثالي ليس الطيران بسرعة مليون ميل في الساعة أو الثانية أو حتى بسرعة الضوء لأن أي رقم هو تحديد، وليس للأشياء المثالية حدود يا ابني.

وبعد هذه الكلمات يختفي شيانغ ليظهر طائرا في مكان بعيد وليعلم جوناثان الطيران بسرعة الفكر، ويصير جوناثان الابن الروحي للأب شيانغ الذي يعلمه حتى الطيران عبر الزمن إلى الماضي والمستقبل ويقول له: ان أصعب طيران وأهم طيران وأمتع طيران هو الطيران إلى عوالم المحبة واكتشاف معني الحنان .

وذات يوم اختفي الأب الكبير شيانغ وأدرك جوناثان ان دروسه تكاد تنتهي وكان كلما مارس طيرانه إلى عوالم المحبة والحنان أحس بالرغبة في الهبوط من السماء والعودة إلى الأرض والي قومه ليهديهم.

ويهبط من السماء عائدا إلى قومه، ويلتقي مع فليتشر ليند النورس، وهو نورس صغير يحاول وحده أن يتعلم الطيران، وكذلك شارلز رولاند النورس.. ويصير لجوناثان أتباع كثيرون من صغار النوارس الذين يعلمهم الطيران، وتتسع حلقات الثوار الصغار، ويشكلون خطرا علي مجتمع النوارس المتخلفة.. وذات يوم يسقط نورس صغير من تحليقه ويموت، ولكن جوناثان يحييه من الموت مثل معجزة المسيح أمام دهشة بقية النوارس، ويعلن للجميع أن تقاليدهم يجب أن تتبدل وأن قانون الحرية يجب أن يسود. ويحاول النوارس صلبه وقتله، لكنه بما أوتي من قدرة علي الطيران عبر الزمان والمكان ينجو منهم، ويظل قلبه لا ينبض إلا بالحب لهم، وحينما يسأله نورس صغير من تلامذته: كيف تستطيع أن تحب رعاع النوارس الذين حاولوا قتلك يرد جوناثان: أواه يا فليتشر النورس، أنا لا أحب ذلك! بالطبع أنا لا أحب الكراهية والحقد، ولكنني أحب الخير في أعماق كل نورس وأحس ان من واجبي أن أساعدهم علي اكتشاف ذاتهم وعلي إدراك معني الحب في داخلهم .

الحب والإنسانية

بأسلوب شاعري شفاف متدفق، وعبر حكاية مغامرات نورس متلاحقة الأحداث، يروي المؤلف ريتشارد باخ حكاية الإنسان مع المحبة، ومع المثل العليا، وفي لحظات كثيرة تحس بأن جوناثان رمز للمسيح ولكننا نحس أيضا بأنه رمز لكل ثائر في كل مجتمع تسوده عقلية القطيع وتتحكم فيه التقاليد المتهرئة.. ومؤلفه ريتشارد باخ يذكرنا في كتابه هذا بالموسيقار باخ، ففي الكتاب موسيقي جميلة كأنه حكاية حب تتلي في كنيسة شفافة الجدران والقباب.. ونورس ريتشارد باخ أكثر وضوحا من نورس تشيكوف في مسرحية النورس ، وأكثر بساطة.. انه مثل نورس من الطبقة العاملة اذا قورن بنورس تشيكوف المغرق في الميتافيزيكية.

لمسة العصر والتكنولوجية..

ربما كان من أسباب نجاح هذا الكتاب، ذلك الزواج الموفق بين اللغة والصورة.. ففي الكتاب عشرات من الصور الفوتوغرافية المعبرة والجميلة للنورس التقطتها عدسة الفنان رأس مانسون ، وهي ليست لوحات تزيينية وإنما هي من بعض الكتاب.. ففي الصور كما في اللغة، دفق من الشعر الآسر، والكاميرا الحديثة التكنولوجية استطاعت أن تكون حدقة إنسانية تثبت الشعر المرشوش في الطبيعة حتى لتخال أن لكاميرا راسل مانسون أهدابًا وجفوناً.

نصر الفضيحة الشريفة

هذا الكتاب أهداه مؤلفه إلى جوناثان النورس الحقيقي الذي يعيش بداخل كل منا.. وكما أراد مؤلفه، ينجح هذا الكتاب في الدخول إلى أعماق القارئ مهما اختلفت ميوله.. فهو يحمل نصرا للفضيحة الشريفة، فضيحة حكاية الإنسان مع الوجود والمجتمع وذاته.. انه من الكتب القليلة التي تقنعنا بأن المؤلف يستطيع أن يصل الى الناس جميعا دون أن يبتذل فنه شرط أن يكون مبدعا حقا.