عبده وازن
(لبنان)

حسن نجميلعل أبرز ما يسم ديوان الشاعر المغربي حسن نجمي «على انفراد» (دار النهضة العربية، 2007) سعيه الى الإفصاح عن «بيان» شعري أو عن «فن الشعر» كما يفهمه هذا الشاعر في نصه نفسه وليس بعيداً منه أو خارجه. و «البيان» يجب ألا يُفهم هنا نظرياً، كأن تعمد القصيدة الى فرض نظرية شعرية كما لدى بعض الشعراء، بل أن «البيان» هذا تضمره شعرية حسن نجمي وتبوح به لماحاً من خلال اللغة والموقف والرؤيا وسواها. ولا غرابة أن يسمي إحدى قصائده «فن الشعر» مذكراً قارئه بعنوان كتاب نقدي للشاعر الأرجنتيني بورخيس الذي يحضر أصلاً في الديوان حضوراً شديداً ولامعاً. إلا أن «فن الشعر» عبارة أو مقولة استخدمها شعراء كثيرون عبّروا من خلالها عن مفهومهم الشعريّ. وقصيدة حسن نجمي هذه تندّ بدورها عن رؤيته الى الصنيع الشعري الذي يماثل «الرسم» بصفته تركيباً لـ «العناصر اللونية الأولى». هنا تغدو الكلمات أشبه بالألوان بين يدي الشاعر وتمسي المادة الشعرية «خيمياء» لونية.

ويتجلى «الرسم» أيضاً في مفهوم «الغبطة»، غبطة الشاعر «هارباً الى الفراغ واللون»، كما يقول نجمي في قصيدة عنوانها «غبطة الشاعر الذي أصبح رساماً». هكذا يحتل اللون حيزاً كبيراً في قصائد الديوان، اللون في بعديه الحسّي والميتافيزيقي، في تجلّيه وغيابه. وقد يكون الأسود أحد الألوان الطاغية لأنه يرادف العماء الذي يستوحيه الشاعر كثيراً متكئاً على تجربة بورخيس نفسه. وليس من المصادفة أن تحمل القصيدة الأولى في الديوان اسم «بورخيس» عنواناً، وفيها يخاطبه نجمي قائلاً: «لست أقلّ عمى منك». لكن العماء البورخيسي هو حال من الإبصار في قلب السواد، حيث يرى الأعمى ما لا يُرى: «أعمى مثلك... فقط مثلك حُِرمْتُ من السواد»، يقول الشاعر. لكنه «حين تعوزه الألوان يرتجل الأصفر لعينيه» كما يعبّر نجمي في قصيدة أخرى. والأصفر هو لون الشحوب مثلما هو لون الذهب الذي طالما آثره بورخيس.

لا يغيب اسم بورخيس عن قصائد كثيرة في الديوان، بورخيس المبصر في ظلامه، بورخيس الذي يقول بحسب نجمي إن «الفجر بشع» مع انه لا يرى الضوء، والذي «يزعجه الغروب مع انه لا يراه». في قصيدة «أنا وبورخيس» يتهيأ لحسن نجمي أن الشاعر الأعمى هو الذي يملي عليه هذه القصيدة «بصوت أجشّ سرعان ما يتلاشى». ويضيف: «هو يملي وأنا أكتب صدى شفتين تتلامسان». وفي قصيدة «امتثال لبورخيس» ترد مقولة «الليل» التي تشكل أحد «الحقول المفهومية» البارزة في الديوان. ويعترف نجمي أن بورخيس «كان شغوفاً بأن يؤرّخ لليل». وليس تأريخ الليل إلا تأريخاً للضوء في منقلبه الآخر. تُرى ألم يخاطب نجمي بورخيس قائلاً: «مثلك حرمت من السواد» وكأن ليل بورخيس الذي هو «تاريخ الليل» كما يعبر، ليس سوى تاريخ الضوء. فالشاعر حسن نجمي الذي يتماهى مع بورخيس لا يحب «أن يرى ما يُرى» بل ما لا يُرى أو ما يُرى بالعين الخبيئة أو الداخلية. هنا يقترب الشاعران من ليل الشاعر القديس يوحنا الصليب الذي قال: «كان الليل يضيء الليل» أوهما يلامسان أيضاً ليل الشاعر الألماني نوفاليس الذي طالما تحدّث في ديوانه الشهير «أناشيد الى الليل» عن «تجلّي» الليل و «غبطته اللامتناهية». يقول نجمي مذكراً أيضاً بليل رينه شار «الطلسمي»: «أظلمت كالليل/ أنا الآن ليل في الليل». حتى الملاك في شعره أعمى «يخطو متلذذاً بالأرض».

أما أجمل «أحوال» الليل فتتمثل في أنثوية الليل أو في الليل الأنثوي، الليل الذي يسكن الأنثى أو الليل الذي تسكنه الأنثى. هنا تصبح الظلمة رديف العري والضوء قرين العتمة: «أصبح الليل في حضرتكِ كثيفاً» يقول الشاعر للمرأة التي «يتعتم الليل» في بهاء جسدها. وبينما يصرّ على العماء كشرط لاكتمال وجهها (كان لا بد من عمى ليكتمل وجهكِ، يقول) يتحدث عن «ضوئها الداخلي» الذي يملك «اندفاع السيل الذي تتجه نحوه الكلمات». ويعترف الشاعر أنه كان يسعى ليكتب سيرة الليل قرب امرأته، ويختتم قصيدته «تاريخ الليل» قائلاً: «ها أنا معتم وأضيء». يرتدي الشاعر قناع الأعمى ليحبّ امرأته كما لم يحبها من قبل، ليكتشفها عبر لمسه إياها، عبر جسّ عريها الذي هو مزيج من ظلام وضوء: «أمسكت بنحاس الشمعدان لأتعرّف على عريك» يقول في قصيدة «الوميض». والمرأة التي هي الأنا مثلما هي الآخر، ليست غريبة عن حال العماء هذه، فهي تلطفت بـ «ضرارة» الشاعر، كما يقول، وقرّبت «عشبها من أنفاسه». يحضر الليل بشدة سواء عبر مفرداته أم عبر الإشارات لكنه لا يثقل كاهل الشعر والقصيدة، فهو يومض ومضاً، متجلياً في أحوال العماء واللمس والانقشاع والضوء.

الإحتفاء بالشعر

لم يخفِ حسن نجمي عن ديوانه «على انفراد» طابع الاحتفاء بالشعر من خلال الاحتفاء ببضعة شعراء هم من أصدقائه القريبين والبعيدين. فعطفاً على بورخيس يحضر يانيس ريتسوس في قصيدة جميلة عنوانها «في الطريق الى كافالا» ولا يتوانى عن مخاطبته فيها قائلاً: «تذكرتك: مساء الخير ريتسوس». ومثله يحضر ايضاً سالفاتوري كواسيمودو وجوزف برودسكي وبودلير وأبولينير وبيار ريفردي وجان بيار جوف وأدونيس ومحمود درويش... هؤلاء جميعاً يحضرون شعرياً، كأطياف هائمة داخل القصائد، كأصدقاء يضفون على الشعر الكثير من اللطافة أو الأسى أو الذكرى. يقول في «ذكرى برودسكي»: «كان في منتهى العزلة./ لم تكن له إلا الكلمات./ كان واحداً./ كان أقل من واحد». أما ريتسوس فيخاطبه قائلاً: «لولاك، يا صديقي – كيف كنت سأفتّت كل هذا الملح الذي تخثر في شرايين القصيدة؟». ومثلما يحضر الشعراء هؤلاء يحضر أيضاً رولان بارت في قصيدة «مغربية» جميلة يتحدث فيها الشاعر عن الناقد الفرنسي مستعيراً عينه وراصداً عبرها المشاهد التي كان يتملاّها بارت والطرائف التي صادفته والوقائع التي عاشها في المدن المغربية. ولا يفوت حسن نجمي أن يتذكر شارل أزنافور وإديث بياف مستخدماً في سياق القصائد بعض المفردات والجمل الفرنسية.

قد يبدو ديوان «على انفراد» أكثر من ديوان على رغم أنه لا يتخطى المئة وأربعين صفحة نظراً الى تعدد أجوائه ومراوحة قصائده بين الفن الشعري والليل والعماء والحب والسيرة الذاتية والشذرات... وقصائد السيرة الذاتية التي يستهلها بقصيدة عنوانها «شبه أو طوبيوغرافيا» تقارب سيرته شعرياً أو طيفياً من خلال بعض الإشارات والأسماء والوقائع. «ولدت هناك» يقول نجمي في مطلع هذه القصيدة، ما يعني أن السيرة الذاتية هي أيضاً سيرة للمكان سواء كان «مسقط الرأس» أم البيت الذي تحضر فيه الأم بشدة، الأم التي تكنّى بـ «بائعة الخبز» والتي رحلت باكراً وكان الشاعر ابنها طوال عشرين عاماً فقط. وليس وحده الذي تيتّم في غيابها بل قصيدته أيضاً: «تيتمت في طريق العودة الى ذكرى غيابها، قصيدتي». أما الزوجة فلا تغيب عن المشهد العائلي فيكتب الشاعر عنها «باختصار شديد» كما يفصح عنوان القصيدة الذي أرفقه بعنوان إضافي بالفرنسية وترجمته «بورتريه لزوجتي». والقصيدة سيرة للزوجة من خلال عين الشاعر الزوج والأب وعبر روايته هو: «كانت قد تفرّغت للبيت كالطيف المنفي. طمرت دفاترها الزرقاء في الخزانة ونسيت قصائدها الأولى». حتى العمل في الجريدة لا يغيب عن منحنى هذه السيرة بحسب ما تبوح به قصيدة «من القلب». وكذلك الحانة حيث يظهر طيف الأب مخاطباً ابنه: «قال لي تجعّدت قبل أوانك يا ولدي. قد صار لك وجه أبيك». إنها سيرة متقطعة أو ملامح من سيرة يصعب أن تكتمل، سيرة ناقصة لأنها سيرة شاعر في حال من «التشظي»، شاعر لا يتوانى عن مخاطبة المرآة: «رمّميني أيتها المرآة التي ترأف بالوجوه/ تشظيت كثيراً كثيراً». وتبلغ حال التشظي لحظة مأسوية في قصيدة «الإحساس بالموت» كأن يقول الشاعر: «ها أنا أتشظى – صرت أدفن كل يوم أحد أطرافي». ولا يغيب الأصدقاء عن هذه «السيرة» أو «شبه السيرة»: محمد شكري يطلّ على سرير الاحتضار وقد «بدأ يؤثث الغياب» و «أضحى في هذا البياض ملاك جحيم»... صموئيل شمعون يحضر طيفه في قصيدة «الأشوريون» الجميلة وكذلك محمد بهجاجي والممثلة الراحلة فاطمة شبشوب وسواهم.

يتسم ديوان»على انفراد» برحابة شعرية نادراً ما تعرفها الدواوين، رحابة في اللغة نفسها و «الموضوعات» (أو التيمات) والأشكال والأساليب وكلها تلتئم في هذا الأفق المتراوح بين المتخيل والحياتي، بين الميتافيزيقي والواقعي، بين الشخصي واللامتناهي، بين الحب والموت. ترى ألم يعرب الشاعر أنه يكتب القصيدة هو وظله، يغني واحدهما للآخر وكأن واحدهما هو الآخر، الآخر – الطيف، الآخر – الشخص؟ يقول حسن نجمي: «الآن وأنا أنهي هذه القصيدة/ ينهيها ظلّي معي». إنها لعبة الأنا والظل، وما أجملها لعبة تتلاشى فيها حدود الخيال والواقع.

الحياة
19/09/2007