(أسس هوية أدبية جعلته من أكبر كتاب القصة العرب)

جلال الحكماوي
(المغرب)

إدريس الخوريلا يمكنك أن تتحدث عن الأدب المغربي الحديث دون المرور تحت شجرة بادريس الباسقة. لقد شكّل إدريس الخوري رفقة صديق عمره محمد زفزاف، ومحمد شكري الذي التحق بهما فيما بعد، ثلاثيا جهنميا دوّخ متاهات الأدب المغربي السرية، وحانات الرباط والدار البيضاء، ونقاد المشرق العربي. كتب مجموعات أساسية في شجرة القصة القصيرة المغربية: «حزن في الرأس والقلب»، «ظلال»، «بدايات»، «الأيام والليالي»، «يوسف في بطن أمه»، وكتبا أخرى في النقد التشكيلي أو الفني مثل «قريبا من النص بعيدا عنه»، و«كأس حياتي»... بادريس بضحكته المجلجلة ونكته الصاخبة يرخي بظلاله على فضاءات الرباط والدار البيضاء. إذ يعتبر شخصية «عمومية» يحييها سائقو التاكسي، الطلبة، رجال الأعمال أو الأدباء. فإذا زار كاتب مدينة الرباط ولم يجالسه في فضاءاته المحببة، تعتبر زيارته باطلة، لأنه لم ير شخصية الرباط الرئيسة.

إدريس الخوري قبل ان يكون شخصية محببة، هو كاتب خبر. مبكرا درس الكتابة، أي نفذ إلى أعماق الحياة ليستخرج لنا ذهبها الأدبي النادر. فصاحب «خديجة البيضاوية»، شرب ماء الحياة في الدار البيضاء العامرة، يروي لنا قائلاً: «ولدت في النصف الثاني من سنة 1939 بحي درب غلف الشعبي، قريبا من «المعاريف» الحي الأوروبي آنذاك. ففتحت عيني في نفس الوقت على الثقافة الشعبية ونظيرتها الأوربية. ترعرعت إذن في أسرة عمالية فقيرة جدا تتكون من خمسة إخوة وأخت واحدة هي فاطمة رحمها الله. نزحت إلى الدار البيضاء من سهول الشاوية، وبالضبط من «ولاد بنداوود». هذه الأصول البدوية التي صهرتها الثقافة العمالية البيضاوية، مكنت الكاتب من حاسة التقاط أدبية فتحت له أبوابا جديدة في الكتابة الأدبية. إن هذه العين اللاقطة للكتاب الكبار لم تكن يتيمة المرجعية، بل متحت من نصوص مغربية وعربية شحذت قدرتها على التغلغل في الوجدان المغربي الشعبي.

ماذا كان يقرأ بادريس شابا؟ «تماهيت في صغري، عربيا، مع نصوص نجيب محفوظ، محمود تيمور، مارون عبود، محمود بدوي، ومغربيا كنت أقرأ لمحمد برادة، عبد القادر الصحراوي رحمه الله، عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي ومحمد بيدي الذي كان كاتب قصة متميزا آنذاك. هذه النصوص الغائبة صهرها إدريس الخوري في كتابة مغايرة أدخلت القصة القصيرة المغربية في مراحل حداثتها المتقدمة. كما تجربته شابا في إحدى المكتبات ساعدته على تقوية حسه الأدبي بالكتب الكثيرة التي كان يعيره إياها صاحب المكتبة اللبناني: «كانت الدار البيضاء تعج بالمكتبات في الستينات من القرن الماضي. فمن يتذكر الآن «مكتبة الوحدة» لصاحبها عيسى اللبناني الذي كان رجلا طيبا، و«المركز الثقافي العربي» لعائلة نزار فاضل اللبنانية التي استقرت في درب الأحباس بشارع فيكتور هوغو إلى يومنا هذا. وقد اشتغلت معه كمساعد في مكتبته بين سنتي 1964و1965، وكان يعتبرني مثل ابنه فيدعوني إلى بيته ويعيرني العديد من الكتب التي كانت تعجبني. إنني مدين له بحبي للأدب». وبعد أن درس بادريس بمساعدة أخيه البكر، عانق مبكرا عالم العمل/ الكتاب.

دَين الكتابة الحقيقي يدين به بادريس للمجتمع المغربي الشعبي الذي عبر عنه الكاتب بفنية عالية، جعلت الكتابة الأدبية صنوا للحياة نفسها. وهذه سمة ميزت أدب جيل الخوري الذي كان يكتب كما يتنفس ويعيش الحياة/ الكتابة بطولها وعرضها. فكان إدريس الخوري من أوائل من وظف الدارجة المغربية توظيفا جماليا بارعا، وخضرم اللغة الأدبية بـ «درجة الصف في الكتابة» فخلب لب القارئ المغربي الذي رأى ذاته في مرآته الواقعية الجديدة. فأصبح يجد نفسه سائحا في قصص بادريس، لا يفرق بين الواقع والتخيل. ها هو يخرج من بيته أو الحانة فتوقفه «الفاركونيت» «سيارة الشرطة» ويخنزر فيه «يحدجه» قائلا «اطلع!». ابتكر إدريس الخوري لغته القصصية الخاصة، مازجا بين السخرية والنميمة والنقد الاجتماعي ووصف الأمكنة، فاستطاع تأسيس هوية أدبية جعلته من أكبر كتاب القصة في المغرب والعالم العربي. فلماذا فضل بادريس القصة القصيرة على الرواية: «بقيت مرتبطا بالقصة القصيرة لأسباب شخصية وأدبية. وفي المغرب يظل هذا الجنس الأدبي في حاجة إلى تراكم حقيقي حتى يؤسس نوعيا هوية هذا الأدب بالذات». وقد ظل إدريس الخوري وأحمد بوزفور، وفيّين لفن القصة باعتبارها فن التفاصيل الصعبة التي لا يقبض عليها إلا الكتاب الحقيقيون. وربما يعود ترك كتاب القصة «الحبيب الأول» لتأثرهم بالتقاليد الأدبية الفرنسية أصلية أو مترجمة، لأن الكتاب الفرنسيين لم يعطوا لهذا الجنس الأدبي المكانة الحقيقية التي يستحقها، عكس الأدب الأمريكي الذي يعتبرها جنسا مستقلا ينافس الرواية ابتداء بهمنغواي مرورا بريمون كارفر وانتهاء بشارلز بوكوفسكي.

ومن رفاق درب إدريس الخوري محمد زفزاف الذي شاركه الطعام ومتعة الكتابة ومقالب الحياة: «تعرفت على محمد زفزاف عندما كان ينشر قصصه الأولى في جريدة العلم. كان كاتبا متميزا. وقد كان طالبا بكلية الآداب بالرباط في شعبة الفلسفة. وهكذا صرنا صديقين بحكم عملي في جريدة «العلم» ونشره فيها، تجمعنا الصداقة والكتابة. ولما عين زفزاف في الدار البيضاء، ساعدته لينتقل لإحدى الثانويات بحي المعاريف، وتركت له شقتي لأنني تركت آنذاك نهائيا الدار البيضاء لأستقر وأعمل بالرباط. وبالمناسبة فزفزاف كان أنيقا، يرتدي بدلة رمادية ويركب على دراجة نارية من نوع «سوليكس». وكان حريصا على تناول الغداء في مطعم «ماجستيك» الذي ما زال مفتوحا إلى يومنا هذا. وكنت أزوره كل أسبوع لنلتقي بالأصدقاء. وذات يوم استدعيت إلى المحكمة، وكنت قد انتقلت نهائيا إلى الرباط. وكانت المفاجأة أن صديقي محمد زفزاف لم يؤد الكراء لمدة سنة، فحكمت عليه المحكمة بالإفراغ لصالح صاحب الدار!». لقد التهم جيل إدريس الخوري ومحمد زفزاف، ومحمد شكري فيما بعد، الحياة بنهم وحفر هوية أدبية مغربية مشرعة على الاختلاف الوحشي. ورغم الصراعات التي تعرفها الأجيال الأدبية في مختلف بلاد المعمورة، فقد كانت الصداقة وهواء الحرية الطلق والوجودية، ملامح جيل متمرد أصر على الكتابة والحياة بشكل مغاير وأصيل. لذلك فهذا الجيل لم ينل حظه من الحياة العينية التي استفاد منها بعض «الكتاب» الذين ليس بينهم وبين نار الكتابة إلا «الخير والإحسان» كما يقول المغاربة. وتبعا لهذا المنطق المفارق، لم ينل لا إدريس الخوري ولا محمد زفزاف ولا محمد شكري جوائز الدولة التقديرية! لأنهم ربما كتاب أكبر من المعايير التي تحددها لجان الأساتذة الجامعيين التي تفهم نظريات الأدب أكثر من فهمها للأدب نفسه أو ربما لأنها تفضل منح الجوائز للمقربين...
برع بادريس في التقاط روح الأمكنة الشعبية، ولا سيما المقاهي باعتبارها فضاءات كان يترفع عن الكتابة عنها الكتاب المغاربة التقليديون. يقول الكاتب: «أنا رجل أحب الحياة وأكره الانعزالية. أحب الفضاءات المفتوحة كالمقاهي والحانات، فهي عبارة عن مجتمعات مصغرة تلتقط فيها تناقضات الناس وأقنعتهم، أفراحهم وأحزانهم. لذلك فضلت الكتابة عن الهامش مكسرا التابوهات التي تخنق مجتمعاتنا العربية، فيصير كتابها انعزاليين». وفي علاقته بشخوصه ونصوصه يقول الكاتب: «يصعب على الأب أن يفرق بين أبنائه، كما تعلم. ومع ذلك إذا أردت أن أفضل بعضا من أبنائي فسأختار مجموعتي «الأيام والليالي» و«مدينة التراب». لقد انتقلت في مسار الكتابة القصصية من الواقعية إلى التجريبية، أي من القصة التي تبحث عن الذات في تفاصيل اليومي إلى قصة متعددة الأصوات الدلالية واللغوية والرمزية. ومع ذلك فعندما كتبت عن الذات والمرأة والجنس اتهمني النقد الإيديولوجي بأنني بورجوازي صغير! وبعد سنوات عاد الحديث عن هذا الأدب بشكل إيجابي! غير أنه بالنسبة لتجربتي المتواضعة فأعتقد أن النقد الحقيقي أنصفني». لكن هل أنصف المغرب هذا الكاتب الكبير؟ سؤال يبقى معلقا، لا سيما بعد أن تقاعد بادريس من مهنة المتاعب التي قضى فيها زهرة شبابه دون أن يوفر لأسرته الصغيرة بيتا حقيقيا ورمزيا يحميها من أنياب المجهول. غير أن المثقفين المغاربة يتوقعون أن يلتفت الشاعر محمد الأشعري، وزير الثقافة، قبل أن ينهي ولايته الثالثة إلى هذا الكاتب المغربي والعربي الكبير الذي يستحق تكريما في قامة إسهامه الأدبي من أجل بناء صرح الأدب المغربي الحديث، لينصفه إنصاف أبناء الدار.

القدس العربي