هشام فهمي
(المغرب/كندا)

هشام فهميأخيرا الأعمال الكاملة لأنسي الحاج تصدر في نسخة شعبية بمصر .
أليس هذا عجيبا بكل المقاييس ؟
تلتفت الثقافة العربية أخيرا الى شاعر فذٌ. هل سينصفه المصريون بعد كل هذا العمر من "لن"؟ هل هو يحتاج الي من ينصفه أصلا؟ هل مصر هي نموذج الثقافة العربية النسٌاءة و التي تتذكٌره الآن؟ عبلة الرٌويني قالت مرة أن أنسي لا يعرفه المصريون. الذين لا يعرفون أنسي لا يعرفون الشعر العربي الحديث اطلاقا و لا حتي الشعر المصري.

لا يمكن أن نلصق هذا جزافا بالثقافة المصرية لأن قصيدتها الجديدة تغرف من معينه .
أنسي الحاج يتربٌع على عرش التجديد الشعري العربي. من قال غير ذلك؟ هل ثمة مقارنة بين أنسي ثم درويش وأدونيس و هما يصولان ويجولان في العواصم العربية والاجنبية كشخصيات من الهيئة الديبلوماسية مكلٌفة بمهمٌات خاصة. ماذا نفعل؟ المقارنة لا تؤدي الي شيء. الحياة اختيارات. وأنسي اختار طريق فيروز ونحن نتلقٌف روائعها وهي متوارية عن الحياة العامة. هذا نوع من الكبرياء الشعري العظيم .أعتقد.

المقارنة هنا لا تنقص من شاعرية درويش و لا أدونيس فهما حسب جابر عصفور في تصريحه الأخير شاعران كبيران . و لا شعراء كبارا في العالم العربي غيرهما أضف اليهما سعدي يوسف. هذا تصريح خطير و مجازف من ناقد عربي رصين. هل هناك فعلا نقد عربي للشعر الآن ؟ المواكبات النقدية (بين قوسين) التي نقرأها علي صفحات الجرائد و بعض المجلٌات النادرة تثير الغثيان. بعض النصوص التي أحببناها نراها تتعذٌب تحت رحمة سلٌاخين. الأخطر أن النص الشعري الجديد الذي يكتب منذ "لن" الى الآن يبدو منفلتا و عصيٌا على بعض النقاد. كأن ثقافة الناقد لم تستطع أن تواكب الجماليات المطروحة أمامه و هو يعيش حالة الصدمة و العجز و الانفصال. هذه الحالة السديمية يلصقها البعض بمصطلح قصيدة النثر ، و هي بنظري جماليات تزحف في صحراء ثقافية.

من الطبيعي أن يرى جابر عصفور في درويش وأدونيس وسعدي شعراء كبارا. هو لا يتصوّر شيئا وراء هذا المنجز لأن ثمة ما يحجب الرؤية وفوق الطاقة قليلا . إننا ببساطة أمام رأي للثقافة الرسمية يربط بين الكاتب وتحققه في المحافل والمناسبات الرسمية.

لا يمكننا سوى أن نحترم درويش الشاعر والمثقف العظيم. هذا من مسلٌمات الثقافة العربية المعاصرة. القضيٌة التي بنت عليها قصائده كل المجد انهارت أمامنا ونحن ننظر .هذه القضية التي كانت حلمنا العربي أصبحت عارا علينا الآن. ما يمكننا أن نستخلصه بعد كل هذا الجرح الغائر أن شعر درويش أكبر من كل القضايا التي راهن عليها جمهوره. الرهان كله على شعره في بعده الانساني لا غير. شعره شعر مقاومة حقٌا لا كما بلورته بعض الأدبيات السياسية في ظرف تاريخي محدٌد. المقاومة أصبحت مقاومة الذات . العدوٌ الأوحد هو هذه الذات المتشرذمة نفسها. الشعر سيرابض لوحده أعزل في جبهة المتناقضات.

في مقابل ذلك ستسمع عن جولات درويش في الدول العربية كأنك تسمع عن وزير منتدب لمهمة طارئة و يريد تبليغها في لقاءاته الشعرية. حواراته الصحافية كأنها لشخص مسؤول و كلامه موزون خال من عفوية الشعر. ورطة درويش أنه يهرب من صورة الشخصية العامة ليكرٌسها. نزار قبٌاني الذي كان أيضا ظاهرة شعرية عربية ويرفل بجمهور كبير أينما حلٌ كان سفيرا ودبلوماسيا. أعتقد أن الأمر يمكن حصره في وظيفة الشاعر الاجتماعية. فدرويش نموذج كبير للشاعر الذي يقوم بوظيفة اجتماعية ذات طابع وطني وقومي.
وهنا مأزق درويش الذي لا نفع معه لمقاومة. أعتقد أن أدونيس وسعدي يسعيان الي هذه الوظيفة الاجتماعية نفسها ولو بشكل متفاوت وكل على طريقته ، سعدي في وطنه الصغير بضواحي لندن وضعه يختلف لكنه يغذٌي هذه الفكرة عن بعد، أما أدونيس فيبدو بلا وطن أصلا.

الشاعر مخرٌب لغة الجماعة و بانيها في نفس الآن. و صعب أن نصدٌق أنه يقوم بوظيفة اجتماعية نمطيٌة و يمثٌل صورة الأمة. شاعر مثل أنسي قد لا يمثٌل حتى نفسه وقد يهرب منها و يتركها لمصير مجهول. ما أريد قوله أن الجماعة قد تنسى الفرد الهدٌام أو تتناساه.و هذا شكل من الاقتصاص منه لأنه نكٌل بلغتها . أدونيس ربٌما نكٌل بثقافة الجماعة نظريٌا و فكريا لكنه لغويٌا أنتج لاهوته الخاص.

****

شعراء المحافل والرحلات المكوكية كثيرون. وهم كبار في بلدانهم لأنهم ينسجون خيوطا رفيعة المستوى. نسمع كثيرا في الصحافة عن تصريح لمسؤول رفيع المستوى. لست أدري ما نوع هذه الرفعة التي يتمتٌع بها هذا الشخص عن العالمين؟

هؤلاء الشعراء رفيعو المستوى يهبطون بمناطيد الى كل بلد يستضيفهم . تجدهم محاطين في البلد المضيف بمثقٌفيه الذين يشكٌلون وجهه الرسمي. تجدهم يتبرٌمون من شعراء الطرف الآخر، شعراء الهامش، لأنهم سيفسدون عليهم ما ستتغمٌس به أيديهم في المأدبة. مع الآخرين لا كأس ولا دسم ولا جشاء. شاعر من الهامش سينصت الى أمسية شعرية و سينصرف لأنه لا جديد. أو سيهتم ببذلة الشاعر الداكنة أو حذائه الايطالي. أو سيُبرٌق في قدمي الشاعر لأنها أكبر مما تصوٌر. الشاعر الرفيع المستوى يبحث عن حوار صحافي مع القناة الأولى الوطنية للبلد ليتوٌج به رواج رحلته. شاعرالهامش لن يحقٌق له مبتغاه لأنه أصلا مقطوع من شجرة في بلده.

الشاعر رفيع المستوى قد يكون حقٌا شاعرا كبيرا. لكن للأسف الشاعر الكبير لقب ملتبس في العالم العربي. قد يكون صفة من صفات الوجاهة والانتماء الى ثقافة علٌية القوم . لانه بانتمائه ذاك تفتح له الأبواب الموصدة. ينزل من غرفته بالفندق لأن لديه موعد عشاء مع سفراء ودبلوماسيين ومسؤولين حكوميين وأباطرة مافيات ثقافية. هذا لا يزعج الشاعر الرفيع المستوى. لأن هؤلاء بيدهم سلطة تكريسه في البلد رغم أنهم أميون ثقافيا و ووحدهن زوجاتهم تهتمٌ بالشعر لأنه قريب من طلاسم السحر.

جابرعصفور يعتبر الشاعر الكبير هو الذي يبدع ويتجدٌد ويستمرٌ. هذه مفاهيم فضفاضة عن الشاعر الtop الذي يعنيه. أصلا لا وجود لشعر كبير وآخر أصغر ، فلتنته خرافة تعظيم الذات الالهية .

الأرجنتيني أنطونيو بورشيا ترك كتابا واحدا اسمه النداءات و هو علامة فارقة في الشعر الارجنتيني والعالمي وفي شعرية الشذرة . بعده جاء شاعر آخر أرجنتيني الأصل أيضا وهو روبرطو خواروث، نهل من نصوص الأول و أعطى لكل أعماله الشذرية اسما واحدا هو "شعر عمودي".

النصوص العظيمة نجدها في الكتب و المخطوطات و نادرا ما تكون ضيفة محافل مزيٌفة. أتخيٌل سليم بركات يتلو شعوذاته الشعرية أمام جمهرة من المسئولين رفيعي المستوى. سيصابون بتآكل في آذانهم التي ستختفي بعد اتمام نصه المعجز. هنا يجب أن نتنبٌه الى النص الذي يتواطأ مع المتلقي ليعيش. أو يحاول التكٌيف مع ذائقة لها ثقافة السٌماع. لماذا لم يذكر جابرعصفور سليم بركات على سبيل المثال؟ أمر محيٌر حقٌا.

****

شعراء كثيرون نسيناهم لكن نصوصهم تستيقظ في كوابيسنا . تعود لتقضٌ انجرارنا للسائد. نصوص تطلب منا جهدا في البحث عنها . نحن الكسالى. وأصحابها لا يروٌجون لها بالشكل الكافي .انهم فاشلون في كل شيء عدا ما يصنعونه من روائع غامضة. هؤلاء الشعراء المنسيٌون أو المغيٌبون هم عضل الشعر الحيٌ ونصوصهم تتسلٌل الى نصوص كثيرة لمعاصريهم . انهم النواة المشتعلة في زمنهم الجاحد. منزوون أمام كتبهم وينظرون الى ما يحدث. لا يشبهون أبدا عصرهم . غرباء و ملاعين هم . كيف يوصف شاعر باللعين و هو يلعن عصره؟ من يلعن من؟ ومن أين تأتي اللعنة؟ هل النصوص الكبيرة هي التي تجلب اللعنة و النحس عليه؟

شاعر آخر لم ننتبه اليه لكنه يتلو نصوصه على نفسه. يكتفي تماما بما ينجز ولا يهمٌه الاستعراض. نقرأه فنصاب بدوٌار. تبٌا لك أين كنت كل هذا الوقت . انه يظهر لك في الوقت المناسب ليمنحك طاقة غريبة. يستيقظ في قبره ليكتب: بريشة من العظام/ وحبر من الطمي/ يكتب على جدران قبره/ قصائد وروايات و قصصا/ قصائد عن الحب/ و روايات عن القرى و المدن/ وقصصا عن الأرانب و العجول/ إنه يكتب منذ أن مات/ يكتب رغم أن أحدا لا يقرأ ما يكتبه/ يكتب دونما توقف/ يكتب برغبة، باندفاع/ لا يفعل شيئا سوى الكتابة/ يكتب/ ربما/ لأن الكتابة فعل حياة.

أين كان الشاعر رياض الصالح الحسين الذي كتب هذه المصائب الكحلاء؟ كان ميْتا؟ أحيانا الموتى ينصتون للأحياء. من الميْت أنا أم أنت ؟ يموت الموتى فتستيقظ الحياة بعدهم. لن نجد تفسيرا لما يحدث . هذا له شبيه في كل الثقافات. لا أحد يرى أحدا.لا أحد ينصت لأحد. قتل في الشارع . قتل في الأدب. النص يتمنطق بحزام ناسف ليخترق السٌائد.
ما يحدث الآن هو نوع من خراب الدورة الشعرية مستعيرين أحد عناوين رياض الصالح الحسين الرائعة. الدم الشعري لا يصل رأس تاريخ الأدب بقدميه انه يأخذ مجرى آخر أو يتكبٌد . شعراء و كتٌاب يغيّبون ليصعد آخرون يسدٌون الشريان. الحقيقيون والعميقون يموتون لكنهم يعيشون أكثر منٌا . هم الأحياء و نحن الجيف.
اننا فعلا قتلة لحم حيٌ و مجرمو أدب.

Hicham_fahmi@hotmail.com

أخبار الأدب