عبدالعزيز المقالح
(اليمن)

في كتابه الصغير جداً «النزيل وأمله» يوجز الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا نظرته الى الحياة والى الشعر ايضاً في كلمات معدودات تقول: «انظر الى الحياة بمنظار دراماتيكي، الشيء الذي لا يمس عاطفتي لا يعنيني» ولا أدري لماذا جالت هذه العبارة في ذهني وأنا أعيد للمرة الثالثة قراءة المجموعة الشعرية الجديدة للشاعرة الكويتية سعدية مفرح التي اثبتت وتثبت ان الشعر الحقيقي لا ينتمي الى عالم الخيال كما لا ينتمي الى عالم الواقع، وانه عالم قائم بذاته يقف بين عالمي الخيال والواقع. ومن هذا الموقع يؤسس الشعر نفسه ويحض الروح على ان ترتقي الى اقصى علو تستطيع الصعود اليه، وهو في الوقت ذاته يرثي الذات والآخر ويقاوم الشعور بالعزلة والامحاء، وينطلق من منظور يمس العاطفة دائماً.

المجموعة الجديدة للشاعرة سعدية مفرح «تواضعت احلامي كثيراً»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1906) لا تعكس تجليات الفقدان والخسارة كما قد يوحي بذلك العنوان وأنما تعكس حالة من النضج، نضج الفكرة، ونضج الاسلوب، ونضج الرمز الحاضر في الكتابة الشعرية حضور معادلة بين الخيال والواقع. لقد اتسعت آفاق الذات المبدعة وتجاوزت مرحلة التخييل الشعري المجرد ليبدأ التناغم ولا أقول التلاحم بين اللاواقعي والواقع في صورة شفافة مغايرة للمألوف تناجي القارئ حين تصل به الى آفاق فريدة وقريبة من وجدانه: «اريد كُرة أرضية أخرى/ أضعها في صدري/ كلما أردت الخروج من البيت/ دون عباءة/ أريد شجرة تغني/ وعصفورة تهادن الريح/ وبحراً يكتب مذكراته كل فجر/ وجواء سفر صالحاً في كل المطارات».

وفي نص شعري آخر بعنوان «البطل يلهو وحيداً» تقترب الشاعرة أكثر فأكثر من محاولة عبثية او لاهية كما تقول هي، وجدية واقعية كما نقول نحن، وتلك المحاولة تسعى الى إيجاد حالة يتماهى فيها اللاواقع بالواقع، او بعبارة اخرى يتم التماهي بين الفكرة والمادة في معادلة تعطي اللغة ظلالاً تكسر الضدية القائمة بينهما: «كما يحدث دائماً.../ أغرق في لجة الكتابة/ فأنساها.../ أتوارى من الأوراق/ فتبيضُّ مفرداتي/ أحاول أن أتذكر حلم ليلة البارحة/ لأكتبه بتفاصيله الملونة/ فتفاجئني أحلام اليقظة بلونها الوحيد/ كما يحدث دائماً».
من العنوان وهو عتبة المجموعة يشكل الحلم دلالة سلبية تستوي في ذلك أحلام المنام أو أحلام اليقظة، وليست أحلام المنام هي المستحيلة فحسب وإنما أحلام اليقظة ايضاً، ومن هنا فإن الوهم الذي يصنعنا لا يبقي هناك من فارق بين الاثنين، الوهم والحلم: «نصنع الوهم/ ويصنعنا الحلم/ وبينهما تتكون أيامنا المقبلة/ على مهل يليق بمن يؤدون مهماتهم/ في الحياة برصانة وجدية ووحشية أيضاً».

يرى عدد من النقاد أن أكبر إنجاز حققه شعراء الجيل الجديد وشاعراته يتجلى عبر القدرة الفائقة في التعبير عن الذات بعدما ظلت ذات الشاعر ممحوه ومعزولة عن النص ومحكومة بالتعبير عن غيرها. وهو رأي سديد ونابع من متابعة مستوعبة لغالب الكتابات الشعرية لدى هذا الجيل. والشاعرة سعدية مفرح واحدة من أبرز هذا الجيل الذي يعكس في شعره تجربته الذاتية مع الحياة والناس والاشياء. فقد جاء شعرها في لغته وبنائه النسقي مستوعباً هذه الخصائص استيعاباً جمالياً خالياً من الإبهام والتبسيط، وقادراً على رسم التفاصيل الدقيقة من دون إسراف او تكرار في التداعي المجاني للصور كما يفعل كثيرون من الشعراء والشاعرات المجايلين لها ممن يكتبون من خارج التجربة وتستهويهم لعبة الإكثار من الصور وتوليد بعضها من بعض دونما حاجة جمالية او تعبيرية.

وسعدية مفرح شاعرة مقتصدة في الكلام غير مسرفة في التصوير تختار الجوهري من المفردات لتصل بها او معها الى الجوهري من الصور، وتبدو مجموعتها الجديدة شديدة الاحتفاء بكل ما هو جوهري وشعري وانساني. واذا كان الإبداع النسوي متهماً لدى البعض بالثرثرة، فإن الإبداع الشعري لسعدية مفرح يمكن رفعه شاهداً على إبداع شعري يقوم على اختزال الدلالات في اقل عدد من الكلمات: «رسم نخلة على جدار قلبي/ ومضى يهزها/ لعل قصيدي يتساقط رطباً شهياً/ فتساقطتُ/ وبقي قصيدي معلقاً على جدار القلب».

ينبهنا هذا المقطع وهو من نص طويل الى كيفية تعامل الشاعر مع الكلمات برهافة تنم عن إدراك عميق لدور اللغة في الكتابة الشعرية، ومتى يكون التعامل معها واقعياً حيناً واعتباطياً حيناً آخر. وهذا ما جعل سعدية مفرح تحظى بمزيد من الإطراء الحقيقي الخالي من المبالغة والمجاملة من جانب كل من قرأ أعمالها الشعرية السابقة قراءة نقدية مستبصرة. إضافة الى كونها تُعبّر عن واقع اغتراب ايجابي، اذا جاز الوصف، تصور من خلاله حالة نادرة من الثقة بالنفس، حتى وهي تعترف بما عجزت عنه من تحقيق لأحلامها المتواضعة التي صارت تبدو لها اكثر من مستحيلة، ومع ذلك لا نجد صورة هذا العجز في نصوصها، بل على العكس من ذلك نجد كثيراً من الصور المبثوثة في أكثر من نص تؤكد مقاومة العجز والانتصار عليه: «أزهو بكلمتي يقيناً/ أزهو بوجودي اضطراراً/ أزهو بفيض محبتي/ خياراً أبدياً/ وأزهو بهذا المنظر/ وجداً مستحيلاً».

هذه هي المجموعة الجديدة للشاعرة سعدية مفرح، بساطة آسرة، ولغة بعيدة تماماً من الألفاظ الفخمة، واقتراب من المفردات العادية التي تجعل النص في لغته العميقة قريباً الى الشعر وقريباً الى القلب: «كل يوم أرسم شارعاً جديداً/ أظلل امتداده بالنخيل/ ألوّن رصيفه حجراً حجراً/ أسوي إسفلته بحنين اصابعي/ وأروي حشائشه بفيض قصيدي/ أتممه خلواً من أي إشارة للمرور».

الحياة 27/01/2007