لسكان الساحل الجنوبي الإيراني

دراسة: غلام حسين ساعدي
ترجمة: عبدالقادر عقيل

غلام حسين ساعدي( تأتي أهمية ترجمة هذا البحث، في كونه يسلط الضوء، ربما للمرة الأولى، على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية لسكان الساحل الجنوبي الإيراني، ويعرفنا على الدوافع الحقيقية وراء هجرة سكان هذه المنطقة إلى دول الخليج العربية طوال الخمسين سنة الماضية.
والدكتور غلام حسين ساعدي، من الأصوات الأدبية المعروفة في إيران، وهو مسرحي، وكاتب قصة قصيرة بارز، ولد في عام 1933، وعمل كمحلل نفساني في طهران، تعرض للاعتقال في عام 1974 بتهمة معارضة النظام، ولكن قبل ذلك، وجد في أحد الشوارع مغمى عليه من شدة الضرب على يد رجال السافاك. أهم أعماله الأدبية: قصة حياة جلاد، الجنرال، الرعشة والخوف، وكتابه " الممسوسون الذي ترجمنا هذا البحث منه والمطبوع في عام 1967) - المترجم –

***

لسنوات طويلة جداً، استطاع سكان الساحل الجنوبي الإيراني، برحلاتهم المتكررة، أن يتعرفوا على الشعوب الأخرى القريبة، ويختلطوا بهم، ويقيموا علاقات تجارية معهم، وكانت الوسيلة لذلك هي البحر والسفن البسيطة التي كانوا يصنعونها بطرق بدائية، وينزلون بها إلى هذا البحر.

وإذا كانت الأوضاع مختلفة الآن، في حرية الدخول والخروج في أي بلد، فإنه في السابق، كانت كل مدينة ساحلية ميناءً ترسو فيها السفن الصغيرة والكبيرة الحجم، وتقرر بنفسها الطرق البعيدة أو القصيرة التي ستسلكها في رحلتها القادمة.

والأفواج البشرية التي كانت تركب الخطر، وتواجه المصاعب، لم تكن تؤمن بأي قانون، ولا تهاب قوة الأمواج، ولا رهبة البحر.

ويبدو جلياً أن الهدف الأول والأخير لهذه الرحلات، هو البحث عن القوت وكسب الرزق. لم يكونوا يوماً ما قراصنة، ولم تكن عندهم الجرأة للمجازفة بأعمال تتعدى هدفهم الأساسي، وهو الصراع من أجل البقاء، وكانت عيونهم متجهة صوب السواحل الأفريقية بالدرجة الأولى، ثم السواحل الهندية. وكانت السفن تقطع المسافات الطويلة من أجل إيجاد فرص للعمل، أو وسيلة لكسب الرزق، وكانوا يطوفون طويلاً على هذه السواحل، يتفقدونها، ويكتشفون أماكن جديدة لينزلوا فيها، ويعرضوا خدماتهم فيها.

تقطع السفن الإيرانية الطريق إلى السواحل الأفريقية عن طريق مسقط أولاً، واليمن، ثم تصل إلى الصومال، وفي مقديشو العاصمة، ينزل البحارة ثم يرتحلون إلى زنجبار، وصولاً إلى تنزانيا، وأحياناً يصلون إلى أقاصي الجزر الأفريقية الجنوبية. هذه الرحلة تستغرق ثلاث سنوات لسفينة واحدة صغيرة الحجم تبحر من جزيرة " هنجام " على النحو التالي: من جزيرة "هنجام" إلى "عبادان" دون أية حمولة عدا عمال البحر الذين معظمهم من جزر مضيق هرمز، ومن عبادان يأخذون التمر إلى عدن، ويفرغون حمولتهم هناك، ومن عدن يأخذون الملح إلى زنجبار، ويسلمون الملح إلى الزنجباريين، وهناك يتوقفون لمدة أربعين أو خمسين يوماً، ثم يذهبون بلا حمولة إلى جزيرة "بيجو" الأفريقية، ويأخذون منها الأخشاب لتباع بعد ذلك في البحرين، ويعودون بلا حمولة إلى جزيرة "هنجام" .

تمتد الرحلة أحياناً إلى عشرة شهور أو أكثر، ومن المؤكد أن كل السفن لا تقوم بمثل هذه الرحلة، فهي تسافر حسب وجهتها، وتسلك طرقاً مختلفة، وتصل إلى أماكن مختلفة أيضاً، ولكن المتفق عليه، أن معظم الرحلات تستغرق مدداً تتراوح ما بين 10-11 شهراً.

ومن بين عشر سفن تسافر إلى أفريقيا، لا تسافر سفينة واحدة إلى الهند، ويبدو أن السبب الرئيسي في هذا هو التأثير الكبير الذي أحدثته العادات والتقاليد الأفريقية على السواحيليين.

ان التجاور مع بلدان الخليج، والرحلات الطويلة إلى البلدان البعيدة، أحدث تمازجاً ثقافياً بين الساحل الجنوبي الإيراني وبين ثقافات العرب وإفريقيا والهند، ويمكن لنا القول أن ثقافة الساحل الجنوبي هي مزيج من ثقافات عدة تواءمت، بفعل عامل التنقل والترحال الدائم.

لا يمكن إحصاء عدد السكان السود في الساحل الجنوبي الإيراني حتى على شكل تقريبي، فهم متناثرون على خط ميناء "جاسك" حتى أطراف "بوشهر" ، وفي كل منطقة ساحلية تجد عدداً منهم.

والسود في جنوب إيران قدموا إليها قبل ثلاثة عقود من الزمان، وإلى الآن يمكن مقابلة بعض السود المسنين، الذين يتذكرون تلك الأيام التي أجبروا فيها من البيض على النزول إلى السواحل الإيرانية، وكيف كان رعبهم وهلعهم لاعتقادهم بأن البيض سيأكلونهم، أو يفتكون بهم . ومعظم السود قدموا أصلاً من غابات أفريقيا: الصومال، زنجبار، تنزانيا، وأخذوا كعبيد ليباعوا في السواحل الإيرانية. أما الآن، وبعد اندثار الرق وزوال العبودية، فانهم –السود- ودون أي تمييز عنصري، يقاسون مع البيض الحياة الشاقة ويكافحون من أجل البقاء بالصيد والسفر.

ان حياة السود صارت لا تختلف البتة عن حياة البيض، والغالبية العظمى منهم يتحدثون اللهجة الفارسية الجنوبية، مع لجهة أخرى طبعاً، إما العربية أو السواحيلية. ولكن الشيء الذي لا ينساه السود، هي تلك الذكريات القديمة عن الوطن الأم، ففي كل بيت إيراني أسود تجد عدداً من الطبول الصغيرة والكبيرة التي يداومون الضرب عليها، حتى دون مناسبة، والمغنون والمطربون في المحافل والأعراس والمجالس هم أولئك السود، وطاردو وطاردات الأرواح الشريرة أيضاً أولئك السود. والليالي التي تعلو فيها أصوات الطبول من أكواخ السود، هي أرضاءً للروح الأفريقية السوداء.

والسود في جنوب إيران يجيدون الضرب على الطبول واستخدام الآلات الموسيقية والغناء. وهم بذلك لا يزيحون عن قلوبهم أوجاعهم وأحزانهم وحسب، بل أوجاع وأحزان البيض كذلك. فحياة البيض والسود في الجنوب واحدة، ولا توجد تمايزات مادية وعرقية. ولون الجلد لا يغني عن العمل في البحر ولا يزيد من الأجر. وعدا ذلك، ففي بعض القرى يزوج بعضهم بعضاً، أما في المناطق والموانئ الساحلة الكبيرة، فان السود دائماً يتوجسون خيفة من البيض، ففي "بندر عباس" مثلاً، أكثر السود يتجمعون في حي أو أكثر، وأوضاعهم الاجتماعية متدنية قياساً إلى البيض. ولكن في القرى السواحيلية التي تعتمد أساساً على صيد السمك، تنتفي الفوارق الاجتماعية بين البيض والسود، وإن كنت تسمع أحياناً أحد المسنين البيض وهو يومئ على مسن أسود بقوله: "هذا متوحش كالحيوان". فيضحك المسن الأسود ويقول: "نعم، أنا متوحش كالحيوان" .

في ميناء "طاحونه" حين يجلب المختن ليقوم بعملية ختان مجموعة من الصبية، يقف صيادو السمك السود بعيداً للتفرج، وعلامات الذهول والدهشة ترتسم على وجوههم.

الصيادون في السواحل الجنوبية يصطادون السمك بالوسائل البدائية، يجلسون على الساحل، وجوههم إلى البحر، يترقبون مجيء السمك، وحين يظهر السمك يقذفون بأنفسهم على القوارب البسيطة الصنع، والتي لا تستطيع الابتعاد عن اليابسة كثيراً، ثم بكل لهفة يمارسون الصيد.

نادراً جداً ما تجد سفينة ذات آلة بخارية تستطيع أن تنأى عن الشاطئ، وتصل إلى أماكن يكثر فيها الصيد، ومعظم الصيادين يملكون قوارب كبيرة الحجم ليس باستطاعتها الابتعاد عن الشاطئ، يقومون بالجدف في أطراف هذا الشاطئ، ويرمون شباك الصيد، ثم يجمعون ما يتعلق بها من سمك، عدا هذه الوسائل، فانهم لا يستخدمون إلا الصنارات البسيطة.

البحار ليست كلها معطاء سخية، ففي بعض المناطق يندر السمك فيها، وأحياناً يستحيل الصيد فيها نتيجة تواجد الصخور الكثيرة على الشاطئ، والتي تعوق سحب القوارب إلى اليابسة، ولهذا فمناطق الصيد في الجنوب تتغير باستمرار، وأنواع الصيد أيضاً تختلف باختلاف هذه المناطق، ففي "كورزه" يصطادون سمك "العوم" فقط. وسمك "العوم" طوله 10-15 سنتيمتراً، وهو السمك المشهور بالسردين، يجفف على الشاطئ ثم يباع كسماد جيد للأراضي الزراعية.

وفي ميناء "طاحونه" يصطادون الأسماك الكبيرة مثل سياف البحر والأسقمري (يفصل "كورزه" عن "طاحونه" 32 كيلومترا فقط). وفي ميناء "لنجه" لا يصطادون إلا الأسماك الكبيرة أيضاً، أما في "كورزين" (من جزر قشم) فانهم يصطادون السمك الصغير جداً المسمى بــ "المتوت" (طوله 5-6 سنتيمتر) ويباع هذا السمك بعد تجفيفه كسماد أيضا.

أما في المناطق التي تقل فيها حتى الوسائل البدائية للصيد، فانهم، وبكل مشقة، يصطادون أي نوع من السمك يشبع بطونهم.

يبدأ موسم الصيد في الجنوب من أواخر فصل الخريف، وينتهي مع أول الربيع، حين يبدأ السواحيليون في التخطيط للهجرة إلى البلاد الأخرى القريبة أو البعيدة، والبحر لا يخلو كعادته من السمك سواء في الصيف أو في الشتاء، ولكن في أيام القيظ الملتهبة يبدأ السمك في الابتعاد عن الشاطئ للبحث عن الأماكن العميقة والباردة، والصياد الإيراني الذي تنقصه الوسائل للوصول إلى هذه الأماكن يجلس متوسلاً إحسان البحر، ومترقباً الأيام التي ينتعش فيها الهواء، ويعود السمك فيه إلى أطراف الشاطئ.

منذ سنة أو سنتين عرف الصيادون أن البحر صار بخيلاً، وما عادت الأسماك تعيش فيه بتلك الوفرة التي تكفي الجميع، فأخذوا سفنهم الكبيرة وارتحلوا إلى الخارج، ولكنهم فوجئوا أن السفن التابعة لصيادي دولة الإمارات العربية المتحدة، والمجهزة بالوسائل الحديثة، تقوم بالصيد في معظم الأماكن العميقة من البحر. وواجهتهم مشكلة أخرى أيضاً، وهي أن البحارة الباكستانيين، بسفنهم الكبيرة والمجهزة بوسائل حديثة، أخذوا يجوبون مياه الساحل الجنوبي الإيراني بدءاً من "جاه بهار" حتى أطراف "بوشهر" وكل سفينة باكستانية محملة بمئات البحارة الأشداء، وهي عادة ما تظهر فجأة على إحدى السواحل ويكون من الصعب جداً مقاومتها، أو اعتراضها من قبل القوارب الإيرانية الصغيرة المحملة بعدة أشخاص فقط، ويقوم الباكستانيون بإزالة المصائد، وقطع شباك الصيد، ونشر شباكهم على طول 2000 متر في البحر لجمع كميات هائلة جداً من السمك، ولا يتوانون أيضاً عن الاقتراب من المناطق الساحلية، وحين يشعرون بالأمان لعدم وجود رجال الدرك في تلك المناطق، فانهم ينزلون على الشاطئ، ويأخذون لوازم الصيد والقوارب الصغيرة معهم. في الشتاء الماضي نزلوا على جزيرة "لارك" واجتثوا أشجار الصفصاف الضخمة وحملوها معهم دون أية مقاومة.

الطريف في الأمر، أن معظم العمال في السفن الباكستانية، هم من الإيرانيين المقيمين في " جوادر" و " جاه بهار " وأنهم من أجل لقمة العيش، والصراع على البقاء، يغيرون على أخوانهم وأوطانهم.

كل سفينة تنزل إلى البحر للصيد تحمل معها 10-20 بحاراً، وصيد السمك له تقليد خاص في كل مكان، وقد حافظت أجيال وراء أجيال على هذا التقليد.

ففي " رمجاه " يكون الصيد بالتناوب، يقسم البحر إلى عدة أقسام، وكل يأخذ قسماً من هذه الأقسام، والقارب الذي يعود بدون صيد فان نوبته تنتهي. في ميناء " طاحونه " يتبع نظام التناوب أيضاً، إنما تكون النوبة أولاً على شبكة الصيد التي تصل إلى الشاطئ أولاً من بين الشباك الأخرى المتسابقة.

في " شناص " كل قارب له حق الصيد ليوم كامل فقط، ومثل هذه التقاليد لا تتبع في جميع المناطق، فالبحر في جزر " هرمز " ملك للجميع، وكذلك في جزر " قشم " .

توزيع الثروة بين العمال يتم عادة بأخذ " النوخذا " الثلث والبقية يتم تقسيمها بين البحارة بنسب متساوية. ولكن إذا عادت السفينة خالية الوفاض إلى الشاطئ، فلا أحد يطلب شيئاً، واستهلاك النفط أو تمزق الشباك يتحملها " النوخذا " وحده.

الزراعة في السواحل الجنوبية شحيحة جداً، فندرة المياه وعدم صلاحية الأرض للزراعة، والعمل الدائم في البحر، كلها موانع تقف حائلاً أمام الزراعة هناك، والاهتمام بالزراعة لا يكون إلا في المناطق البعيدة عن الشواطئ البحرية.

ويمكن رؤية المئات من النخيل منتشرة في أغلب المناطق.. وهذه النخيل تعطي ثمراً متدني الجودة. والتمر سواء أكان عالياً أو متدنيا فانه الغذاء الرئيسي لسكان الساحل الجنوبي. وإضافة إلى التمر فانهم يستفيدون من أخشاب هذه النخيل لعمل مرافئ للقوارب، ومن سعفها يستفيدون في صنع بعض وسائل الصيد، ومن عثاكيلها للاستفادة منها بدلاً من الحبل.

السواحل عادة لا تهتم بالرعي، وكل أسرة يمكن أن يكون عندها عدداً من العنزات أو قد لا يكون. ويكثر الاهتمام بالأبقار في المناطق التي يكثر فيها الزرع. وإذا كانت العنزات طليقة ودون رعاية، فان الأبقار على عكسها، تحصل على رعاية فائقة وتوضع تحت المراقبة الدقيقة، تحسباً لإصابتها بالأمراض أو الأوبئة. ان أهمية الأبقار تصل إلى الحد الذي يعدون لها طعاماً خاصاً يدعى " الفخارة " وهذا النوع من الطعام هو عبارة عن سمك " العوم " معجوناً مع التمر أو نواة التمر، تغلي وتضرب حتى تصبح ناعمة ثم تبرد وتعطي للأبقار. وفي اعتقاد السواحيليين فهذا النوع من الطعام يكثر من إدرار الحليب عند الأبقار.

قليلاً ما توجد الخراف في الساحل الجنوبي. والسواحيليون عادة ما يطلقون على الماعز اسم خروف. أما الماعز فهي طليقة في كل ساحل، مشردة دون عناية، كطوائف الغجر والبلوش التي تجوب كل المناطق الساحلية بحثاً عن المأوى والمأكل.

الثروة الرئيسية لجزيرة " لارك " هي هذه الماعز الطليقة التي عادة ما تستقر في الجبال العالية والقلاع البرتغالية القديمة. وسكان هذه الجزيرة يقضون يوماً كاملاً من التعب من أجل الحصول على قدح من الحليب.

لا أرقام ثابتة عن عدد سكان جنوب إيران، ولا يمكن بأية حال إحصاؤهم. ان تغير الفصول، وتغير طبيعة العمل، وحياة الصيد، والعوامل الأخرى الكثيرة، تجعل الجنوبيين في وضع تنقل دائم، إضافة إلى هذا، فهناك مسألة أخرى تجعل من الساحل الجنوبي يخلو يوماً بعد يوم من السكان، وهي مشكلة العمل وكسب الرزق التي تضطرهم للنزوح إلى مناطق أخرى.

ففصل الصيد يبدأ من ديسمبر، ووقتها يكون الناس حاضرين، كل في منطقته، أما حينما يبدأ اشتداد حرارة الجو، فإن الساحل الجنوبي يخلو تماماً من سكانه، وينزحون إلى مناطق أخرى بحثاً عن العمل، وخصوصاً إلى دول الخليج بالدرجة الأولى.

ومن الأمور الطريقة في الهجرة إلى الخليج ( دبي، قطر، الشارقة) ان السواحيليين من أجل العمل وكسب الرزق، يرتحلون إلى الخليج، وهم لا يملكون شيئاً تماماً، وحينها لا يبقى في السواحل إلا العجائز وكبار السن، وبعض رجال الدرك، والكثير من الكلاب الضالة، وبعد ستة أشهر يعودون إلى بيوتهم محملين بهدايا وأنواع كثيرة من الطعام.

على هذا المنوال، فإن الساحل الجنوبي يمتلئ بالسكان في ستة أشهر، ويخلو في ستة أشهر أخرى، كأنما هي ساعة رملية.

المناطق والموانئ الساحلية منذ مدة وهي كالخرائب. ميناء " لنجه "، الذي كان يسكن فيه قرابة 000ر70 ألف، لا يتجاوز عدد سكانه الآن 6000 فقط، واللنجاوييون – في فترة قصيرة جداً – أخلوا هذا الميناء ونزحوا إلى أماكن أخرى أكثر أمناً. والكثير من اللنجاويين القدماء صاروا الآن تجاراً في الإمارات والبحرين وبومباي.

كل شيء دمر، المحلات والبيوت مهدمة، ونادراً ما ترى في الحي الواحد ثلاثة أو أربعة بيوت مسكونة، أما البقية فمقفلة أبوابها، وعلى الأبواب كتبت لجنة مكافحة الملاريا (مقفول). السقوف مثقوبة وجدران بيوت الأعيان العالية مهدمة. البرك خربة أو مهدم سقفها أو دون ماء، في المدينة عدة نعوش لم تدفن بعد، والكثير من الجثث المتعفنة.

أهالي جزيرة " هنجام " نزحوا في ليلة واحدة إلى " باطنية " ، وهذه الجزيرة صارت كما لو أن زلزالاً مدمراً أصابها. قرية " كلات " (تقع بين ميناء " لنجه " وميناء " بوشهر " ) مهجورة تماماً، والمناطق الأخرى لم يكن حظها أوفر من هذا.

بدأ نزوح سكان السواحل منذ أربعين عاماً. ويعزى السبب الرئيسي إلى مشكلة كشف الحجاب التي كانت بمثابة الضربة الموجعة للمسلمين المتعصبين في تلك المناطق. فرجال الأمن حملوا المقاص وبدون أي احترام لمشاعر أولئك الناس قاموا بنزع البراقع والحجب من على وجوه النساء بالقوة، وقصوا أسفل أثوابهن لتبدو أقصر مما عليه. أما الرجال الذين قضوا جل حياتهم يرتدون قمصان قطنية بيضاء على أجسادهم، اضطروهم إلى لبس المعطف والسروال. ولكن المرأة الجنوبية التي حتى الآن لا تؤمن بإزاحة الحجاب عن وجهها، لم تستطع قبول هذا التحول الجديد. فاضطر السكان إلى ركوب السفن في جنح الليل، والبحث عن مكان آمن يلوذون إليه. ومن المعروف ان جزيرة "هنجام" خلت من سكانها في ليلة واحدة، ونصف سكان ميناء " لنجه " هربوا في مدة لا تتجاوز 72 ساعة فقط، وهكذا كان نصيب المناطق الأخرى.

ومن أسباب النزوح الأخرى مسألة الجمارك، فالصياد الإيراني الذي كان يتنقل بين السواحل بحرية مطلقة، والبائعون المتجولون الذين كانوا يطوفون الخليج لغرض التبادل التجاري وكسب الرزق دون أية شروط أو قيود، روعت قلوبهم قوانين الجمارك التي صادرت حرياتهم في التنقل. وعلى هذا توقف البائعون المتجولون عن الترحال، وبائعو الصدف واللؤلؤ بارت تجارتهم. فكل رحلة تعني الحصول على جواز سفر، ودفع الضرائب والرسوم الجمركية، إضافة إلى التفتيش الجمركي، وعلى هذا، ودون أن يفهم الجنوبيون معنى الجمارك، اظهروا حقداً عارماً لكل شيء يتعلق بالجمارك، وحتى موظفي الجمارك لم يسلموا من هذا الحقد فأسموهم " أولاد البلجيك " نسبة إلى البلجيكيين الذين بنوا أول جمرك في الجنوب، والجنوبي المرعوب من ضغوط الجمارك، اضطر في أحيان كثيرة إلى اللجوء إلى قتل مدراء الجمارك، مما أدى بدوره إلى زيادة الضغط عليهم، واضطرارهم لهجر أوطانهم.

في الوقت الذي يبدأ فيه الجنوبيون التحدث عن التجنيد الإجباري يبدأ الشباب الذين بلغت أعمارهم سن التجنيد الإجباري في الرحيل إلى الخليج، ففي ربيع عام 1966 من بين ستين شاباً من " جارك " وصلوا إلى سن التجنيد، لم يتقدم أحداً للخدمة، فقد فروا جميعاً إلى الكويت.

وفي نفس العام لم يتقدم في ميناء " كنج " إلا شخصاً واحداً للخدمة العسكرية، وكان ضريراً. معظم سكان الساحل الجنوبي الإيراني لا يحملون بطاقات هوية، وأسماؤهم وأعمارهم غير مثبتة في أية وثائق رسمية. وكثيراً ما ترى مسئولي الإحصاء يجوبون بحقائبهم المناطق لإصدار بطاقات الهوية. وعلى هذا فليست هناك إحصائية دقيقة عن عدد المولودين والمتوفين في الجنوب.

قبل عام ونصف ظهر وباء الإسهال الدموي الحاد في منطقة " ديرستان " (قرية وسط جزيرة قشم ) وتعرض أكثر من سبعين شخصاً للموت الفجائي، بعد ذلك صارت القرية كالمقبرة.

ولم يتم حتى الآن التخلص من الأوبئة التي تصيب المناطق الحارة في الجنوب. وأكثر الأوبئة انتشاراً على طول الساحل الجنوبي هو وباء الملاريا والإسهال الدموي. والأسباب معروفة بالطبع، فشرب الماء الملوث يعجل بإصابة هذه الأمراض، وموتى الإسهال أكثر بكثير من موتى أي مرض آخر.

أمور الزواج والعلاقات العاطفية في الجنوب تتبع أيضاً – مثل الطعام والمأوى- العوامل الاقتصادية، فالعام الذي يكثر فيه الصيد والرزق يتزوج فيه الصيادون، أما إذا شح البحر، فإنهم لا يتزوجون ويطلقون نساءهم أو يهجروهن.

الغذاء الرئيسي لسكان الجنوب هو التمر والسمك طول العام، أما الأرز والسمن فهما للأعيان فقط، فالأرز يستورد من الخارج، أما السمن المحلي فأسعاره مرعبة جداً، قياساً إلى السمن المستورد، ولأن شروط الجمارك تنص على أن لكل شخص الحق في استيراد 5 كيلو من السمن فقط، يضطر السكان إلى شراء السمن المحلي بأسعار باهظة جداً.

أما في الأوقات التي لا يحصل فيها الجنوبي على السمك، فإنه يكتفي بأكل بيض السلاحف البحرية.

من المشاكل الرئيسية في الساحل الجنوبي الإيراني ندرة المياه، ومع أن الماء يحيط بهم من كل جهة، إلا أنهم يحترقون عطشاً لقلة الماء الصالح للشرب، فأكثر الآبار مياهها آسنة لا تصلح للشرب أو الزراعة، وإن وجد الماء الصالح للشرب، فتواجههم مشكلة كيفية استخراجه، فحتى الوسائل البدائية لاستخراج الماء – الثور والحصان والساقية – غير متوفرة.

والساحل الجنوبي يخلو تماماً من الأنهار والشلالات الطبيعية، فالسكان هناك لم يعرفوا إلا البحر والأمواج وملوحة الماء. وإذا كان البحر يشفق على الناس ويهبهم الطعام، فإن السماء لا تبخل عليهم بالماء. ومرات عديدة في العام تزمجر السماء، وتغسل الأراضي العطشى، وتملاً البر، ومخازن المياه.. وكذلك تجلب الدمار.

في أكثر المناطق بنى الجنوبيون سدوداً صغيرة وكبيرة أمام مجرى السيل. ولكن ما أن يبدأ السيل في الانحدار، حتى يجرف أمامه كل السدود، ولا يترك وراءه سوى ذكريات صغيرة عن سد كان موجودا. ان الكثير من هذه السدود سببت في قتل العديد من الشبان في بعض المناطق. على أية حال، البرك ومخازن المياه كثيرة، وهي كالبثور المنتشرة على الجسد المريض. ففي كل منطقة توجد أربع منها، ومعظم البرك قديمة، وهي كثيراً ما تتهدم فتتوقف عن تجميع الماء. أما البرك السليمة، فلا سقف لها، وهي وعاء للأوساخ الكثيرة. وفي كل بركة من هذه البرك، تجد العديد من جثث الحيوانات الطافحة، والمئات من العصافير الميتة، والملايين من الحشرات.

يشرب سكان جزيرة " لارك " الماء من البرك التي بناها البرتغاليون منذ مئات السنين. وفي هذه البرك، تجد طبقة غليظة من الحشائش الخضراء اللاصقة. وعلى هذا فموسم العطش في " لارك " يبدأ من شهر مارس، إلا أذا وصل الماء إليهم من مكان ما، أو تقوم سفينة ما بإحضار الماء كهدية ثمينة، وإلا فإنهم مضطرون إلى شرب ماء البحر.

سكان جزيرة " هرمز " أوفر حظاً، فالسفن الكبيرة تأتي من " بندر عباس " كل يوم، وتجلب الماء إلى عمال المعادن الذين يشتغلون على تلك الجزيرة، ويوزع الماء بمقدار سطل مجاني لسكان الجزيرة، الذين يتضرعون من أجل الحصول على كميات أكبر من الماء. ان الشخص الغريب الذي تطأ قدماه جزيرة " هرمز " يواجه بأسئلة الناس اللجوجة، وطلبهم زيادة حصتهم من الماء.

والمناطق الكبيرة إلى حد ما لا تواجه مشكلة الماء بهذه الصعوبة، وإن كانت البرك هناك لا سقف لها، ولكن في المناطق الصغيرة تجف البرك، ويبدأ الناس في استخدام البرك الأخرى، أو يقوم عدة رجال من راكبي البغال، بالخروج في الصباح الباكر للبحث عن الماء في الآبار الصحراوية البعيدة، وفي العصر يعودون بعدة صفائح من الماء. وحين تجف مياه جميع الآبار يضطرون إلى الإغارة على آبار المناطق الأخرى فتشتعل نار الصراعات الدامية بينهم.

سكان الساحل الجنوبي، أينما كانوا، وسواء أكانوا في عام قحط أو خير، فانهم يقدسون الماء ويعرفون قدره. وإذا كانت جرعة واحدة تسد العطش، فانهم لا يتوانون عن خزن الجرعة الثانية لوقت العطش. كل جنوبي لا يهدر الماء دون سبب.

سكان الساحل الجنوبي تأقلموا منذ القدم مع جميع أنواع العطش: عطش الماء، عطش الحب، وعطش الحياة.

من الأشياء الملفتة للنظر في الساحل الجنوبي الإيراني الأنواع العديدة والعجيبة من الرقص ذي الأصول العربية والأفريقية، والتي انتقلت إليهم بفعل العوامل السابق ذكرها، ومن بين أنواع الرقص المعروفة (الرزيف، الشابوري، الفجري، والذاكري). ومراسم العزاء والوفاة كلها مزيج غريب من عادات وتقاليد مختلفة وغير معروفة الأصل. مثلها مثل المعتقدات والخرافات وطقوس إبعاد المصائب والحوادث الخطيرة، وطقوس تحقيق الأمنيات ومكنونات الأنفس.

في كل منطقة من الساحل الجنوبي، يمكن أن ترى ضارباً للرمل، أو كاتباً للأدعية، أو ساحراً، وتجد بوفرة أماكن بيع هذه الأدعية التي تجلب الخير وتدفع الشر أو العكس.

ان الساحل الجنوبي الإيراني مرتع خصب للخرافات والمعتقدات البالية، فالحياة في السواحل مخيفة ومرعبة، والتعامل مع البحر، والخوف من الموت جوعاً أو عطشاً، والأوبئة الفتاكة، والتعب من الحياة الشاقة، كلها أسباب دفعت الجنوبيين إلى التوحد معاً في شمل واحد درءاً للخطر، وهكذا سرعان ما تتفشى بينهم أوهام دخول الروح الشيطانية الشريرة إلى جسد أي رجل، فتتسلط عليه، وتتلبسه، فيصبح هذا الرجل ممسوساً.

والممسوس هو الشخص الذي تتلبسه روح شريرة، والأرواح الشريرة هي كل القوى الخفية والسحرية التي يقال عنها بأنها موجودة في كل مكان، وتستطيع أن تتلبس جميع البشر. ولا يستطيع أحد، مهما أوتى من القوة، أن يزيحها أو يطردها، والكائن البشري لا يملك أمامها إلا الانصياع وتنفيذ الأوامر.

والأرواح الشريرة موجودة في كل مكان، في البحار، وعلى اليابسة، ودائماً تتلبس الأجساد المنهكة والمريضة، وكلما ازداد خوف الإنسان منها كلما سكنته، وكلما كثر الفقر والجهل وشاعت البطالة، كلما كان تأثيرها نافذاً.

يقوم الممسوس بدور حصان عربة للروح الشريرة، والروح بدورها تقوم دائماً بركوب هذا الشخص وتأمره بالقيام بأعمال مختلفة، ومعظم الناس يعتقدون أن الأرواح الشريرة إنما جاءت من السواحل الأفريقية السوداء.. وهذه عادة ما تكون أخطر بكثير من الأرواح الشريرة القادمة من الهند والمناطق الأخرى.

والإنسان الإيراني الفقير، يعتقد ويؤمن بقدرة هذه الأرواح الشريرة، ويخاف منها دوماً. ان العلاج المستخدم للشخص الممسوس، هو نفس العلاج الذي كان يستخدم قبل مئات السنين، في السواحل الأفريقية، ولكن الكثير من الطقوس اختلفت باختلاف الزمان وتغيراته. فالأرواح الشريرة التي قطعت السواحل الأفريقية إلى السواحل الإيرانية كان لا بد من إضفاء الصبغة المحلية عليها، وحتى الحكايات التي تسرد حول هذه الأرواح اختلفت وأخذت طابعاً إسلامياً. وقصائد السحر الأفريقية تحولت إلى قصائد مديح في نبي الإسلام، وحتى المحرمات والمطهرات التي يمارسها الممسوسون اقتربت وتشابهت مع المحرمات أو المطهرات الإسلامية، وصارت القصص والأساطير شبيهة بالقصص والأساطير التي اختلقها الصوفيون الإسلاميون.

ولكن التأثير الأفريقي لا يزال قوياً جداً، فجميع طاردي الأرواح الشريرة من أجساد الممسوسين هم سود اللون، والمعروف عند الناس، ان كل إيراني أسود، يحمل روحاً شريرة في جسده، وكل أنواع الضرب على الطبول الكبيرة هي من أصل أفريقي، وجميع أغاني وأصوات الممسوسين هي نفس الأغاني والأصوات الأفريقية.

وفي الجنوب الإيراني نادراً ما تجد أسود لا تعرف أصابعه الضرب على الطبل، ولم يفتتن به، ونادراً ما تجد شخصاً يحضّر طقوس الممسوسين ولا ترتعش أطرافه خوفاً، أو لا يقوم بتأدية الرقصات والحركات الإيمائية المختلفة.

معظم الممسوسين موزعين على سكان " ميناب " و " تبن " و " قابندي " وكذلك سكان ميناء " بوشهر " و جزر " هرمز "، والملاحظ أن اغلب السود موزعين في هذه المناطق.

ان كل ما يتضمنه هذا البحث عن طقوس الممسوسين ليست كاملة، ففرصة البحث كانت قصيرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قلة وسائل تجميع المصادر والمعلومات.

ولا زالت هناك أشياء كثيرة باقية، ولا بد من الإسراع في تجميعها وتدوينها. فإذا كانت الخرافات والمعتقدات الشعبية تحارب من قبل السلطات في المدن الكبيرة، فان مسئولي الدرك في جنوب إيران يمارسون نفس المهمة، ويقتحمون مجالس الممسوسين، ويقبضون عليهم.

والممسوسون، من أجل أداء طقوسهم، وطرد الأرواح الشريرة من أجسادهم، يذهبون إلى الكهوف البعيدة، ويختبئون فيها، ويقيمون طقوسهم في الخفاء دون أية جلبة.

والملاحظ أن هذه الطقوس بدأت تقل يوماً بعد يوم، لخوفهم المتزايد من مسئولي الدرك. ومن المحتمل جداً أن تندثر هذه الطقوس ولا يبقى منها شيئاً، لذا فالاستقصاء والتدوين هما مطلبان عاجلان وملحان.