خليل صويلح
(سوريا)

مرام مصرياكتشف الجمهور صوتها المباغت أواسط الثمانينيات. إنّها «شاعرة الطرق الفرعية» التي اخترقت باكراً جدران اللغة، فإذا بقصيدتها مائدة من الثمار المحرّمة... وقفة مع سليلة سافو وولّادة بنت المستكفي في زحمة الإصدارات والجوائز

تقف تجربة مرام المصري على حدة. شاعرة مفردة تكتب ذاتها بأقصى حالات البوح والمكاشفة وهتك اللغة. لا تعبأ بالمحسّنات البديعية والبلاغة، والحشو والإطناب، بقدر ما ترغب في تقشير حياتها على الملأ. وإذا بقصيدتها مائدة من الثمار المحرّمة والأسى الشخصي والمرارة التي تنطوي على ذات قلقة، وخسارات وعزلة وأشواق. قصيدة حواس وغواية. وقبل ذلك كلّه، فإن كل ما تكتبة صاحبة «كرزة حمراء على بلاط أبيض» (1997) هو مرآة شخصية مثقلة بخبرة الجسد والحنين والشغف في التوق إلى الآخر من موقع الضد وليس الاستكانة والرضوخ. بمعنى أنّها تكتب قصيدة تجربة تدير ظهرها علناً إلى اللافتات التي تسعى إلى تأطير الكتابة النسوية تحت عناوين برّاقة على حساب الشعرية نفسها، تحت مسمّيات قصيدة الجسد أو المكاشفة أو الجرأة في كشف المستور.

لكن هل ما تكتبه مرام المصري هو قصيدة غواية أم أنّه هتك للمحجوب؟ «ليست قصيدة غواية صريحة»، توضح مرام «أظنّها قصيدة حياتية، بمعنى أنّها تتحدث عن الألم الشخصي والهجران والأمل والرغبة والحب. وإذا كانت هذه القصيدة مشحونة بالإيروسية إلى حدٍّ ما، فليست الإيروسية مقصودة بحد ذاتها، وفي المقابل لا أبرّئ نفسي من الانخراط في الغواية، فليس الإغواء ذنباً، ولكن هدف قصيدتي يمكث في مرمى آخر».

حين نشرت قصائدها الأولى في مجموعة مشتركة مع منذر مصري ومحمد سيدة، بعنوان «أنذرتك بحمامة بيضاء» (1984)، كانت مرام صوتاً مباغتاً لفرط بساطته ومباشرته وشفويته. فها هي شاعرة سورية تتخفّف مما يثقل القصيدة من إيقاع ومجاز وشكوى، تقف أمام مرآة ذاتها، وتنطق ببيانها الأول: «أتيتك، لا أتعطّر برائحة/ أتيتك على حقيقتي، دون إطار، دون زيف. أتيتك واحدة من سكان الأرض». هكذا، اقتحمت مرام الأسلاك الشائكة في حقل الألغام، وكتبت عريها وجحيمها الشخصي. هي التي نشأت على أغاني الـ«بيتلز» في السبعينيات، وتمرّدت باكراً على كل ما لا يشبهها: «سرقتني الأرض من البحر، لذا ترى شفتيّ من رمال وكلماتي صخوراً معشوشبة».

وتلفت مرام التي تُرجمت أعمالها إلى ثماني لغات عالمية، وتنتظر صدور «إشارات الجسد» في اللغة الإسبانية، إلى أنها تسعى إلى كتابة «الشعر الخام» من دون صقل أو بلاغة. «أشعر أحياناً بفشلي، حين لا تصل قصيدتي كما هي فعلاً بوصفها حياة حقيقية، فأنا لا أعرف أن أكتب قصيدة عمّا لا أعرفه تماماً، حتى إنني في أقصى حالات التخييل، لا بد من أن تكون قصيدتي مرتكزة إلى واقعة ما، لأنّني لا أستسيغ شعراً ليس منطلقه الذات، أو ما هو محسوس». وتوضح: «أكتب بحرّية المبتدئين، وبودي لو أنّ القصيدة هي التي تقودني أكثر مما أقودها. أن تخضع لي وأخضع لها».

وحين نسألها عن غياب القضايا الكبرى في شعرها، تسارع إلى الاحتجاج: «ما هي القضايا الكبرى، وما هي القضايا الصغرى؟ لا أريد أن أحجَّ إلى مكة الكُتاب، ولا أرغب في السير على الطرقات المعبّدة... فالطرق الفرعية تستهويني أكثر. هناك أكتشف عناصر قصيدتي ومعاييري لما هو شعر، وما ليس شعراً».

هكذا يحتشد معجم هذه الشاعرة الملعونة بكل أسباب الريبة والدهشة والمباغتة، في تجوالها على مفردات لم تكن مألوفة قبلاً في القصيدة النسوية العربية ــــ أو أنها بقيت في الظل، كأنّها سليلة الشاعرة الإغريقية سافو أو ولّادة بنت المستكفي في اقتحام جدران اللغة وحواجزها. تقتنص اللحظة المحرّمة، وتحلم برجل «يعيد النسغ إلى حلمها»، ويدثّرها بلحاف الرغبة، لترمح في سهول شاسعة بأحصنتها الشبقة.

لعل هذا الاحتفاء بالحواس ومصابيح الرغبة المشتعلة على الدوام، بات من سمات شعر مرام المصري. وإذا بسلالة من الشاعرات يقتفين أثرها إلى درجة التطابق، من دون فحص للمعنى المستتر في النص. لكن صاحبة «أنظرُ إليك» (1998)، ظلت على مسافة من الجميع، لجهة القلق والرغبة والحلم والتمرّد والجرأة، تنشر آلامها ورغباتها وانتظاراتها ووحدتها على حبل سرّي رفيع لا يكاد يُرى، لتعلن فرادة نظرتها وقوة مجازها الشعري المرهف.
تقول: «أظنني ولدت متمردة بطبيعتي. واليوم عندما أنظر إلى شريط حياتي بكل مآسيها، لا أجد غير التمرّد، حتى في لحظات الرضوخ العابرة، أستجمع قواي مرة أخرى وأتمرّد على كل ما يهدد وجودي وذاتي». ثم تستدرك: «لا بد من أنّني خسرت طمأنينتي، وأشياء أخرى لا تُعد، ثمناً لهذه الانتفاضات المتكررة. وعموماً لست نادمة، فالمسألة بالنسبة إليّ حياة أو موت».
تعيش مرام في باريس منذ ربع قرن «هاربة بحقيبة واحدة، ملأتها بأحلام من دون ذاكرة». وتصف حياتها في مدينة الأنوار بأنّها صعبة وقاسية، تفتقر إلى الاستقرار... كأنها لكثرة ترحالها وأسفارها «جسد في حقيبة». وتوضح أسباب قلقها: «ليس لديَ عمل، ورغم ذلك لا أجد وقتاً للكتابة أحياناً. لكنني أختزن تجاربي ريثما تختمر، ففي باريس بكل غناها وتنوعها، أحس أنني وحيدة، وأحاول أن أتعلّم معنى العزلة والغربة بعيداً عن مكاني الأول المفتقد. هكذا أتأمل وجوه نساء في الشارع، أو المقهى، أو في محطة المترو... وأرسم في ذاكرتي بورتريهات للكتابة عنها لاحقاً».

خلال إقامتها في غرناطة، كتبت مرام قصيدة طويلة بعنوان «العودة»، صدرت بالإسبانية عن جامعة غرناطة. في الكتاب، استعادت حياة الشاعرة الأندلسية ولّادة بنت المستكفي، من موقع مغاير، باعتبارها رمزاً لحرية مفتقدة، وصورة لأنثى عاكست التيار وكتبت شهواتها من دون مواربة. تعلّق ضاحكة:ً «لعلني أشبهها إلى حدٍّ ما».

****

هي الآخر... والآخر هي

انقطاعها الطويل عن نشر شعرها بالعربية، لا يعني غيابها عن الساحة العالمية. لدى مرام أجندة مزدحمة بالمشاريع والجوائز الأدبية. أنجزت أخيراً مجموعة شعرية بعنوان «أرواح حافية الأقدام» تقارب فيها قصصاً عن نساء تقابلهن في تسكّعها اليومي في شوارع باريس، فتسجّل يومياتهن وشهاداتهن على شكل بورتريهات صامتة. كما تنتظر صدور مختارات شعرية بالإسبانية بعنوان «إشارات الجسد» (دار كوماريس) في الخريف المقبل، وترجمة إسبانية لحصتها من المجموعة المشتركة «أنذرتك بحمامة بيضاء». كذلك أنهت ترجمة قصائد للشاعر الإيطالي دافيد روندوني و«أنطولوجيا الشعر الإيطالي» بمشاركة محمد المزيودي.

هكذا، وصل شعر مرام المصري إلى واجهات المكتبات العالمية عبر ثماني لغات، بينها الفرنسية والإسبانية والإنكليزية والإيطالية وحتى ...الأمازيغية، بالإضافة إلى حفنة جوائز مهمة: جائزة «أدونيس للمنتدى الثقافي اللبناني»، وجائزة «أدب المتوسط» الإيطالية، وجائزة Prix de la Société des Gens de Lettres الفرنسية. تقول: «لا أنكر دهشتي، فأنا لا أملك أي سلطة، وليس لدي علاقات عامة مع جهات مرموقة. لدي فقط قصيدتي البسيطة ومشاعري الصادقة التي ربما لامست ثقافة الآخر على نحوٍ ما».

«ألم يقل رامبو مرّة أنا الآخر والآخر أنا». بهذه البساطة تعلّل مرام سبب إبحار سفينتها الشعرية إلى ضفاف العالم من دون أن تطيحها العواصف، مذ غادرت مدينتها اللاذقية على الساحل السوري ذات يومٍ بعيد.

الاخبار
يونيو 2008