وابن الناصرية والحلم القومي

محمد الحمامصي
(مصر)

رحيل رجاء النقاش أبرز الصحافيين المصريين العروبيين وراعي أجيال من الأدباء

كانت الاحتفالية الثقافية الكبرى التي أقامتها اللجنة الثقافية بحزب التجمع بالتعاون مع نقابة الصحافيين المصريين آخر لقاءات الراحل الجميل والعظيم رجاء النقاش (74 عاماً) حيث أصر على الحضور وتحية الجمع الذي جاء للاحتفاء به وتكريمه رغم معاناته وألمه، هذه الاحتفالية شارك فيها نخبة من المثقفين المصريين والعرب إما بالحضور أو المراسلة وكأن الجميع يعرف أن هذا اللقاء هو آخر لقاء لهم بهذا المثقف والناقد الذي أعطى الكثير للحركة الثقافية والنقدية العربية والمصرية ، أعطاها ما يزيد على خمسين عاما من عمره قدم خلالها نخبة الشعراء والكتاب من أجيال مختلفة، كما تولى خلالها في ستينيات القرن الماضي رئاسة تحرير مجلة (الهلال) الثقافية العريقة، قبل أن يتولى في العام 1971 رئاسة تحرير مجلة (الإذاعة والتلفزيون) الصادرة عن وزارة الإعلام المصرية، ليجعل منها مطبوعة ذات توجه ثقافي، حيث نشر رواية (المرايا) لنجيب محفوظ مسلسلة قبل صدورها في كتاب. وأنتج عشرات الكتب المهمة من بينها (في أزمة الثقافة المصرية) وهو كتابه الأول الذي صدر في يناير عام 1958 عن دار الآداب في بيروت ، و(نجيب محفوظ) و(محمود درويش .. شاعر الأرض المحتلة) و(ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء)، و(أبو القاسم الشابي.. شاعر الحب والثورة)، و(عباقرة ومجانين)، و(نساء شكسبير)، فضلا عن كتابه الأخير (قصة روايتين).
وفي السطور القادمة يكشف نقاد وشعراء وروائيون عن الذخيرة العظيمة من العطاء التي منحها النقاش للحركة الثقافية المصرية والعربية

جابــر عصفـور:
الحلم القومي

رحمه الله كان قيمة مصرية نادرة وأستاذا كبيرا ، أدين له وأبناء جيلي، فقد تعلمنا منه الكثير الذي ملأ حياتنا معرفة متجددة وإحساسا نقديا مرهفا وخبرة أدبية من طراز رفيع ، لم يتوقف رجاء حتى رحيله عن مواصلة عطائه وإيمانه بحلمه القومي ورؤيته السياسية التي تنبني على مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والوحدة ورؤيته الإبداعية، التي ظلت ترعى إبداع الأجيال الجديدة، حانية عليها مبرزة الأصوات الغاضبة والمتمردة .

أحمد عبد المعطي حجازي:
لم نفترق

لقد فقدت صديقا عزيزا تمتد صداقتنا إلى ما يزيد على نصف قرن، وفقدنا ناقدا كبيرا يحب ويكتب بكل كيانه، ينتصر للخير والعدل والجمال والحرية، مقدمته الطويلة والمتحمسة لمجموعتي الأولى (مدينة بلا قلب) أسهمت بقوة في تقديمي للقراء وشكلت صورتي عندهم، بل أقول بكل ثقة في تقديم حركة الشعر الجديد، والدفاع عنها، وبيان مشروعيتها، ومساعدة جمهور الشعر على الاقتراب منها، وتذوق إنجازاتها الفنية والفكرية.
لقد كانت علاقتنا في يوم ما شرطا من شروط حياتي وربما كانت كذلك بالنسبة إليه، كأني صرت فردا من أفراد أسرته الذين ربطتني بهم العلاقة التي ربطتني به، أتيح لنا أن نعمل معا في صحيفة الجماهير في دمشق عام 1959 ثم عدنا إلى القاهرة لنعمل معا في «روزاليوسف» ثم نفترق ثم نلتقي لنكتشف أننا لم نفترق، إنني أدين بالكثير لرجاء النقاش، فقد وضع يده على ما لم أكن أعرفه في نفسي، وما لم يكن القارئ يعرفه وحده عني، ففتح لي طريقا نحو الشعر ونحو الناس ونحو نفسي .

بهاء طاهر:
موسوعي النظرة

علاقتي برجاء النقاش هذا الناقد والصديق الجميل، الذي فقدت برحيله الثقافة العربية مثقفا عظيما، مختلفة فقد زاملته منذ السنة الأولى في الجامعة عام ,1952 وتخرجنا معا عام ,1956 وخلال هذه الفترة الصاخبة بالأحداث ربطتنا علاقة فريدة بدأت بالاحتكاك الثقافي، فقد كانت كلية الآداب بجامعة القاهرة التي كنا ندرس فيها تضم مجموعة من القصاصين والشعراء وكان نجمها الأول هو رجاء النقاش، والذي كان يكتب وهو في هذه السن الصغيرة ـ وقتها ـ في أكبر المجلات الأدبية في العالم العربي ـ وقتها ـ وهي مجلة «الآداب البيروتية» لم يكن يتجاوز عمره الثامنة عشرة. وكنت أحبه وأتقرب إليه، لكنني لاحظت أنه بدأ يبتعد عني، فسألته، فقال ظننتك من الأثرياء وكان مدعاة هذا الظن أنني في فترة كنت أدخن «البايب»، ولم يكن صديقي الشاب يعلم أنني كنت فقيرا وكنت أشتري «السجائر الفرط» فاقترح علي بائع السجائر وسيلة أرخص للتدخين وهي «البايب»، الذي كاد يفتك بصدري وحياتي ولم ينقذني منه سوى ضياعه.
لم يكن رجاء يتردد في أي فترة من الفترات عن أن يمتشق الحسام ـ رغم رقته الشديدة ـ وكلنا يذكر المعركة الشهيرة التي خاضها ضد «ادونيس»، فقد هاجم «أدونيس» وهو في عز مجده ولم يخف رأيه، أيا كانت النتائج لهذا الصدام.. كذلك تميز «النقاش» من بين كتاب جيلنا بأنه موسوعي النظرة فنراه يكتب عن شعراء عالميين أمثال «حمزاتوف» مثلما كتب عن نجيب محفوظ وكتب عن «شعراء المقاومة» محمود درويش وسميح القاسم، وأصدر عددا خاصا من «الهلال» عن روائيي الستينيات، ولعب هذا الدور أيضا في مجلة «الدوحة». بالإضافة إلى ذلك ظل مؤمنا بالفكر العروبي، فلم ينفصل عن نزعته العروبية.

خيري شلبي:
واكب حركة الشعر الحديث

رحمه الله لعب حتى رحيله دورا عظيما في الثقافة المصرية والعربية بمتابعته الصادقة لكل الكتابات الجيدة ، له فضل كبير على حركة الشعر العربي الحديث ليس لأنه قدم لديواني «عن القمر» و«الطين» لصلاح جاهين و«مدينة بلا قلب» لأحمد عبد المعطي حجازي فحسب، وإنما لأنه واكب الحركة بالنقد والإسهام النظري والتشجيع والترشيد ويشهد على ذلك كتابه ثلاثون عاما مع الشعراء، أما بقية كتبه الكثيرة فتشهد له بأفضال جمة.

حلمي سالم:
يحول الرماد تبراً

خسارتنا برحيله كبيرة ، إنه الرجل الذي قدم للحياة الثقافية المصرية والعربية أجيالا وراء أجيال من المبدعين والمفكرين المصريين والعرب. لقد كان من ذلك النوع الذي إذا لمس الرماد حوله تبرا كما في الأسطورة اليونانية، تميز بأنه لا يخشى الآخر بل يحترمه لإيمانه بفكرة التنوع والاختلاف. لقد دعم مبكرا تجربة شعراء الحداثة المصرية من جيل السبعينيات وقد ذكرت من قبل في غير موضع تعضيده المعنوي والمادي أثناء نشوء جماعتنا ومجلتنا الشعرية إضاءة 77 ولاسيما في أعدادها الأولى وعطفه على شعرائها حيث تجلى ذلك في كتابته مقدمة ديوان حسن طلب (وشم على نهدي فتاة) وكتابته مقالة إضافية عن العدد الأول من مجلة إضاءة 77 بعنوان (ماذا تريدون أيها الشعراء) في مجلة المصور عام 1977 ، ثم قدم بعد ذلك ملفا شعريا في مجلة الهلال عن عشرة شعراء جدد معظمهم من جيل السبعينيات. رحمه الله ساند ودعم مختلف أجيال الحركة الشعرية الحديثة في مصر والعالم العربي .

السفير
11 فبراير 2008