عبدالعزيز المقالح
(اليمن)

-1-

عبدالعزيز المقالحفي البدء، وقبل الحديث عن شاعر لا تخضع حداثته لأدنى شك، لا مناص من الإشارة إلى أن أصواتاً كثيرة في الساحة الأدبية العربية عادت وبإصرار عجيب إلى إدانة الحداثة الشعرية، بوصفها خطراً لا على الشعر نفسه - كما كان يقال من بعض - بل على اللغة والتاريخ الأدبي - كذلك... إلخ. والمثير للتساؤل أن هذه الأصوات لا تنهض - كما كان يحدث في الماضي - من الكهوف والمقابر، وإنما باشرت حضورها في هذه المرة من واقع الحياة الجديدة، ومن أحدث الشوارع في المدن التي تشهد أحدث العمارات، وأرقى السيارات وموديلات بيوت الأزياء بخطوطها وخيوطها السوريالية الرشيقة، والمنقطة والمرقطة بأحدث الألوان والتصاميم، وأكثرها خروجاً على تقاليد فنون التطريز الملابسية الموروثة والمستحدثة.

ولا حاجة بي هنا إلى نقل بعض ما تقوله وتردده هذه الأصوات، وبعضها انتكاسية سبق لها أن تعاملت مع مبادئ الحداثة الشعرية، ولما لم تقدر على استيعاب تعابيرها وأساليبها وإيقاعها تراجعت، في وضع يشبه كثيراً وضع ذلك الثعلب الذي لم يستطع الدخول إلى حديقة العنب فأوهم نفسه أن عنبها حامض! وعاد أدراجه وكأنه بشتيمته تلك قد انتقم من ذلك الشأو البعيد.

والباعث على القلق من هذه الأصوات أنها لا تشكل عائقاً في الكتابة الإبداعية المتجددة بأشكالها المختلفة، بقدر ما هي إعاقة لمواصلة تحديث الحياة، والخروج من نفق الصراعات الجانبية، تلك التي لا تخدم سوى الظواهر السلبية، وما ينتج منها من محاولات تأخير زمن الارتقاء الصحيح لأمة عاشت قروناً طويلة في قبضة أبشع أشكال التخلف.

ولأن موضوع الحداثة - كما هو معلوم - لا يتعلق بالرؤية الجديدة للعالم والموقف منه فحسب، وإنما يختص بالاندماج مع التحولات التي فرضتها الظروف الموضوعية للتغيير، الذي ساعد على إنتاج نص شعري مغاير من حيث بناؤه وتركيبه وصوره وموسيقاه، نص مرتبط بزمنه وليس بأي زمن سابق عليه. إن إنتاج النص الحديث أو الأحدث لا بد أن يأتي وفق شروط زمنية من حيث الشكل والإيقاع لكي يتحدد وجوده في الحداثة الشعرية، وفقاً لشروط حضورها اللافت، ولا ينبغي على هذا النحو أن تغفل أن هناك شعراء رائعين يمثلون رؤية جديدة للعالم، ويحسنون التعبير عن رؤيتهم هذه في بنى تتماشى ولا تتناقض مع البحور التقليدية، إلاَّ أن ذلك لا يجعل منها حداثية لأن الحداثة باختصار شديد معادلة تضمن اندماج الشكل بمضمونه، وهو ما يضع التجربة الشعرية في مسارها التاريخي والنقدي.

وحديثنا اليوم عن الشاعر الحداثي عبدالمنعم رمضان ينصب في هذا المفهوم، وإن كان هذا الشاعر - منذ بداياته الشعرية الأولى - يبدو عصياً نوعاً ما على التصنيف، تأسرك تجربته الإبداعية المتنوعة شعراً ونثراً، ويشدك رنين لغته التي تتفتق عن صور هي الأعذب، وعن جرأة تحديثية هي الإضافة الجميلة إلى الشعرية العربية الحديثة.

وبين مجموعته الأولى «الحلم ظل الوقت، الحلم ظل المسافة» 1981، ومجموعته التي بين يدي في أثناء كتابة هذا المقال «الصعود إلى المنزل»، الصادر عن دار الهلال 2007»، مسافة شاسعة ليس في الزمن، وإنما في امتلاك اللغة والوعي بالحداثة وتحدياتها، وبالواقع وما جرى في نهره الراكض من مياه، وما شهدته ضفتاه من تحولات ومتغيرات، استطاع بموهبته العالية وحسه الفني أن يلتقطها ويستوعب فاعليتها غير المباشرة في شعر لا يقول الأشياء، وإنما يجعلها هي التي تفصح عن نفسها إذا جاز التعبير:

أخيراً على طرف دبّابة
يجلس والت وايتمان
أخيراً يتأمل شوارع بغداد
ويرى الطيور الورقية
ويفكر كيف أقام البناؤون قصر الخلافة
وكيف هدمته الطائرات
والت وايتمان لا يخاف الأنهار
لأنه سبق أن غرق فيها
والت وايتمان لا يخاف النخيل

لأنه سبق أن ترك نخلة تقترب وتكسوه. (الصعود إلى المنزل: ص54) هذا مدخل أول في المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر عبدالمنعم رمضان، عنوان النص «جنازة والت وايتمان»، وهو بتلقائيته وانفلاته من الغنائية يتوخى الاستعانة بهذا الشاعر الأميركي النبيل في مواقفه وإنسانيته؛ للتذكير بما حدث ولا يزال يحدث في بغداد على يد «هولاكو» ابن تكساس الأميركية، وهو يستضيف إلى جوار «والت وايتمان» الشاعر الأسباني القتيل «لوركا»، وجبران خليل جبران، والحسين بن علي، والمهدية بنت المهدي، ومريم العذراء، والسيد المسيح، والبابا، والمتنبي، وأبا نواس، والرصافي، والجواهري، ونازك الملائكة، والسياب ليكونوا شهوداً على الجنازة التي أقامها عبدالمنعم رمضان لوالت وايتمان الجندي الذي دخل بغداد بعد أن مسخه «هولاكو» الأميركي، الذي نجح في مسخ كل شيء جميل ونقي في الولايات المتحدة، ووضع على رأسه خوذة ليغطي بها شعره الأبيض، وفي يده المسدس ليقتل به الأبرياء في شوارع بغداد:

الجنود هتفوا في وجهه:

أيها الشاعر
أيها الوحش
زوجة الآمر ابتسمت وأخرجت فمها من الصورة
وزير الدفاع أخبره أن الأرض واسعة سوداء. (58)

-2-

في أحدث مقابلة معه نشرتها صحيفة «السفير» اللبنانية في (5/9/2007)، يتحدث الشاعر عبدالمنعم رمضان عن أثر الطفولة والبيئة في تكوين الشاعر، وعن دور العائلة القروية الصغيرة في هذا التكوين: «العزلة المبكرة التي عشتها في طفولتي وصباي جعلتني أقوم بالأفعال التي يصلح لك أن تقوم بها بمفردك، ومنها الكتابة، ولأن البيئة كانت دينية كان الهاجس الأول في كتابتي دينياً، شرعت وأنا في مرحلة الإعدادي في كتابة دائرة معارف إسلامية، ألف: أبو بكر الصديق، عين: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، خاء: خالد بن الوليد... إلى آخره، ثم ومع الحب الأول لبنت الجيران التي في كل قدم من قدمها ستة أصابع، كان اسمها «هانم» شرعت في كتابة رواية. في المرحلة الثانوية دخلت مكتبة المدرسة للمرة الأولى، استعرت ديوانين، ديوان ابن خفاجة الأندلسي الذي لم أفهمه أبداً أيامها، وديوان المازني صديقي الحميم الآن، وفي الفترة إياها اشتريت للمرة الأولى رواية لمحمد عبدالحليم عبدالله الكاتب الرومانسي أظنها كانت رواية (لقيطة) وبعدها قرأت أعماله كلها. قبل أن أصل إلى نجيب محفوظ، اكتشفت أن الشعر هوايتي الأقرب إلي وهاأناذا».

كم كانت بدايات الشعراء في الماضي متشابهة مع اختلافات طفيفة، وعلى العكس من ذلك الآن حيث لا تكاد تبصر اليوم عند شعراء الجيل الجديد نقطة التشابه تلك التي انطلق منها شعراء الأمس، ولا تلك البدايات الرومانسية التي تسبق الاصطدام بالواقع، والولوج إلى عالمه غير الأثير، ومواجهة اختباراته واختياراته قبل أن تتبلور لديه ملامح الهوية والانتماء، وتلك البدايات وهي التي تظل عالقة بالوجدان، ومحفورة في القصيدة:

تحيط بي غلالة صامتة
أكاد أن أرى الأحزان في مكانها
ورغوة الأحزان في مكانها
يسقط عني سائل الجنين لا أريده
يسقط عني العائدون من أوقاتهم
يسقط بعض الخوف
مرةً
أقبس خفتي بذلك الوقت الذي أقضيه
فوق الدرج المغسول
مرةً
أقيسها ببشرة الزجاج
هل تدلني على أم على وجوه الناس؟ ص78

لا بد أن يكون القارئ قد لحظ مراوحة الشاعر في كتابة نصوصه بين الغنائية الهادئة، والاكتفاء بالموسيقى الداخلية للنص. وهو في هذه المجموعة يبرهن عن براعة فائقة في استخدام نظام التدوير في مطولات بديعة كالنص الذي يحمل عنوان «الحظيرة مكسوة بالرخام»، والذي تبدأ مقاطعه الثمانية بالعبارة الاستفهامية الآتية: هل صحيح:

«هل صحيح سأهبط حتى أرى جسدي غائماً في حُبيباته، وأصيح إذا غابت الروح عنه، وظلت ترفرف فوق فهارسها، وغزارة أعشابها، وأصيح إذا اندثرت: أيها السيد الموت، يا أيها الموت، يا الموت، يا أيها السيد الموت، يا أيها المتكبر والمستعان، وياذا المرؤة، ياذا الأظافر، ياذا الجلال، وياذا العزيمة والكبرياء». ص206

إن تقنية التدوير - كما هو واضح - تعطي للجملة الشعرية امتداداً ومرونة كبيرين، كما يتسع النص مع هذه التقنية لتنامي الصورة واندياحها بدلاً من اختزالها أو تفتيتها. والتدوير - كما نرى - انعطافة في مسار تطور القصيدة العربية، واشتباكها - في الشكل - مع النصوص الأخرى؛ فضلاً عما يضطلع به هذا التشكل ذو الطابع الغنائي من إفساح الفضاء الشعري للبنى المولدة في انهمارها العذب المديد وإتاحته لإمكان التداعي وبروز السرد:

«سأرسم طفلاً يجلس تحت الشمس، ويرجو أن ينتبه الرجل إلى الغرباء، فيصنع بجناحيه سماءً عالية وخياماً، بعد قليل يرتفعان وينخفضان، يصيران البستان المحض، فترحل نحو الغابة كل الأزهار الحمراء، وكل الجاموس البري، وتنكسر الآنية، وتمضي صوب مصائرها آهات الاستعجال، ويبقى الرجل وحيداً، وعلى مهلٍ يمشي الطفل إلى أطراف حديقته، يتسلق أسوار الأيام، فيسقط في الصحراء. ويكبر، يأكل عشب الرمل، وتهرب منه الريح». ص111

الحياة
13/01/2008