حسن داوود
(لبنان)

دوريس كلياسكان المدعوون كثيرين إلى مؤتمر الترجمة الذي انعقد في تلك البلدة الاسبانية الصغيرة. في حال كهذه يتفرق المجتمعون في أوقات الاستراحات، كل مع من زاملهم مرة، أو صادقهم، أو جاء من بلد يجمعه شيء أو أشياء ببلادهم. هي، دوريس كيلياس، كانت على طاولة من سميناهم المستشرقين، أولئك الذين لا يتوقف الناظر إليهم عن التساؤل: لماذا تعلّموا العربية؟ أين تعلموها؟ ومن هداهم اليها، هم الذين كان عليهم أن يتفردوا تفرّداً مغالياً يوم ان وقف واحدهم ليقول، في أميركا مثلاً، أو في السويد، أريد أن أدرس العربية. دوريس كيلياس كانت على طاولتهم في المقهى، وفي المطعم، وفي الفسحات الخارجية التي يُسمح فيها بالتدخين. أما مع الباقين فليس أكثر من صباح الخير جافة، وغريبة إذ كانت تحية لقطع الكلام لا لابتدائه. وكان يزيد في ذلك التنصل المتبادل شكلُها، أو قصة شعرها على الخصوص، تلك التي تبديها قادمة ليس من بلد في شهرة ألمانيا، بلدها، بل من ضيعة فيها، موغلة في عراقة محليتها وتاريخها.

وقلما يصادف أحدنا شكلاً يخالف سريرة صاحبه، أو صاحبته، قدر ما يفعل شكل دوريس وهيئتها. في المرة الثانية، بعد انقضاء نحو سنتين، رأيتها واقفة إلى الكونتوار تسجّل دخولها إلى الفندق."صباح الخير يا دوريس"، قلت لها ، فاستدار وجهها نحوي، متعباً وحزيناً. "تأخرت عن المجيء لأن زوجي مريض وهو سيموت"، قالت، هكذا بسرعة كأنها تلقي جملة كان عليها أن تلفظها لأحد، أي أحد. واذ سألتها عن مرضه أجابت إنه السرطان. "بات منتشراً قالت، والعلاج الذي يعطى له يؤلمه... أنا تركته يتألم... كان عليّ أن أبقى هناك، إلى جانبه".

ذلك الذي قالته في ثوان سريعة يكفي لوحده أن يزيل هيئة ويحل محلها هيئة أخرى. في الصالون الصغير، بانتظار أن يُعطى لها مفتاح غرفتها، قالت لي إنها تؤمن بأن الهمّ هو الذي أمرض زوجها. "تصور ان رجلاً في مثل سنه (كان في الستين وقتذاك) يُطلب منه أن يخضع لدورات تأهيل لكي يبقى في منصبه". كان مدرساً للعلوم الفيزيائية، بحسب ما أذكر، في إحدى جامعات إلمانيا الشرقية، وكان بارزاً بين أقرانه قبل توحيد الألمانيتين، ذاك التوحيد الذي أفهمه أنه أقل كفاءة مما يعتقد. هي أيضاً، دوريس، كان عليها أن تفعل شيئاً مماثلاً، ان تجدّد ما تعرفه، أو تصحّحه، كما لو أنه كان علماً خاطئاً.

لا أعرف إن كان زوجها المريض قد خضع لاعادة التأهيل تلك، لكنها، هي، تفرغت للترجمة. مرة في القطار، وكنا بين كتّاب آخرين، وكان قد تكشّف فيها ذلك الميل الى التسلي والمرح، سألتها إن كانت تفتخر بكونها ألمانية. "لماذا هذا السؤال؟"، قالت مستغربة ومستفهمة، أيضاً، بل ومرتبكة، كأن سؤالي أخذها الى ما لم تنته بعد من إجلائه أو وضعه في صيغة تامة. قلت لأنني رأيت رتلاً من سيارات BMW جديدة تنقلها قاطرة من المصنع. لم تفهم تلك الدعابة التي، في ما خصّني، لم تكن كذلك. إذ كنت أشعر بأن قوة ما تأتي إلى المرء الذي تصنّع سيارات كهذه في بلده. قالت لي، وما شأن هذا بذاك، لكي لا أفهم انا هذه المرة إهمالها لتلك الصلة بين انتساب شخص إلى بلد وأن يكون هذا البلد منيعاً ومبدعاً.

ذاك اني ما زلت أذكر أمنية عبّر لي عنها صديق من سنوات كثيرة سبقت: تصوّر أن نُطرب لسماع أم كلثوم، قال، فيما مصانع لنا تنتج سيارات وطائرات. وقد نقل لي ذلك الصديق أمنيه تلك، أو عدواه، ليجعلني أحس بأنني أطير بجناح واحد وقديم. دوريس كانت ذات جناحين، لكن متعبين كليهما. حتى انها لم تتمكن من القفز، حتى القفز، وليس الطيران، متخطية موت زوجها الذي أبلغتني به ناشرة دار لينوس آنذاك، هايدي سوميرير. قالت لي، على الهاتف، إن ذلك الموت يكاد يعطلّها وانها ذاهبة إلى العزلة بقدمين مخدرتين.

حتى من قبل أن يموت زوجها كانت قليلة الحماسة في إنجازها ما كان عليها أن تنجزه. لم تقل لي مرة أي الكتب لنجيب محفوظ نَقَلَتْ إلى الإلمانية، كما لم تذكر أياً من الكتّاب الآخرين الذين أتيح لهم، بترجمتها، أن يُقرأوا بتلك اللغة. كان ذلك بالنسبة لها مهنة لا أكثر. لكنها أدتها بتلك الدقة وذلك الدأب اللذين لا نحسبهما ملازمين لمن هم قليلو الحماسة.
حين أتت إلى بيروت مرة كانت حاملة مخطوط ترجمة "غناء البطريق" وهي جاءت من أجل ذلك كما قالت. في الجلسات التي عقدناها معاً، كانت المقارنة بين النصين شغلاً حقيقياً. هذه ينبغي أن تكون فاصلة لا نقطة، كانت تقول، وهنا كان ينبغي الرجوع إلى أول السطر، ثم هذه، لم أفهمها... أعد قراءتها أنت.

وأنا القاعد إلى جانبها، ساعة بعد ساعة بعد ساعة، كنت أجد ذلك مرهقاً فأقول لها، فيما أنا أقوم عن كرسيي: لقد تعبنا يا دوريس، دخّني سيجارة، الآن وقت السيجارة. كنت أقول ذلك بالانكليزية، اللغة الوسيطة بين من يشتغلان على ترجمة بين لغتين أخريين. ذاك أنها، هي المختصة بلغتنا، لم تكن تتكلمها نطقاً. لم تلفظ منها جملة واحدة، أو كلمة واحدة، لأعرف إن كان إحجامها ذاك يعود إلى صعوبة نطقها الحروف أو انها كانت تستغرب نطقها بتلك اللغة وتتردد في أن تُسمعه إلى آخرين. "صباح الخير"، كنت أقول لها لتجيب "غود مورنينغ حسن". انها الخاء، أقول، الخاء والحاء أيضاً اللذان شهدت مرة كيف كان يتعلثم في نطقهما ذلك الكاتب المجري الذي، لغاية غير مفهومة، بدأ يتلقى دروساً باللغة العربية.

في السنوات الأخيرة ازدادت دوريس ابتعاداً واختفاء. لا أعرف إن كانت، في تلك السنوات الأربع، أو الخمس، قد توقفت عن ترجمة الكتب، حيث أن أخبارها قليلاً ما "تُذاع". في يوم اتصلت بي لتسألني عن مقال كلفتها بترجمته إحدى الصحف السويسرية. قالت ان المقال أتى في وقته لأنها في حاجة إلى عائده. ولم يكن ذلك إلا مقالاً لا يتجاوز عدد كلماته الستمائة. قالت لي في أثناء تلك المكالمة انها مقيمة في بيتها ولا تخرج منه إلا لشراء الأغراض. تخيلتها، في حينه، كما في الأيام بل وفي السنوات التي أعقبت ذلك، جالسة إلى مكتبها، مع إنها، بحسب ما أدركت، لم يكن هناك كتب أو أوراق على الطاولة.

"أنا ابنتها، إبنة دوريس كيلياس"، قال لي الصوت البعيد المتشوش على التلفون. "دوريس ماتت"، قالت لي فيما أنا أستذكر مسرعاً إن كانت دوريس قد أخبرتني مرة عن أن لها إبنة. "لم تمرض، لم تكن تشكو من شيء... انها سكتة دماغية بحسب ما قال الأطباء". وأنا، على التلفون، لم أستطع أن أبلّغ عزاء كاملاً. ذلك يحتاج إلى تضلّع في الكلام وفي لغة الكلام لا أمتلكه. "فقط إعرفْ أنها ماتت"، قالت، "وأنا شعرت بأنها ربما كانت تريدني أن أخبرك".

المستقبل
الاحد 15 حزيران 2008

******************

رحلة مترجمة

لماذا أحب الحياة مع نجيب محفوظ؟

ترجمة : سمير جريس

منذ شهور وأنا أعيش في حضرة الملك حورمحب، والحكيم آي، وكبير كهنة الإله آمون، باختصار: لقد عدت الى عهد الأسرة الثامنة عشرة من أسر ملوك مصر الفرعونية.

إنني أصارع مع الراوي، أي مع المؤلف، لإصدار حكم دقيق على إنسان ، يلعنه البعض باعتباره مارقاً، ويحتفي به آخرون مصلحاً فريداً في تاريخ البشرية، بل وقائد ثورة غيرت مجرى التاريخ. هذا الإنسان هو إخناتون.

حتى مطلع هذا العام كنت لا أزال أعيش مع شهريار وشهرزاد، وكان يتملكني الذهول مثل معروف الإسكافي الذي ادعى أنه يملك خاتم سليمان، ثم انقلبت أكذوبته حقيقة، ورأى نفسه قادراً على الارتفاع إلى السماء . كما شعرت بالمعاناة مع دنيا زاد في محنتها وعارها بعد فض بكارتها . وقبل ذلك . . . يا الله، كم هو مجهد نجيب محفوظ ! إنه ينتزعني من عصر إلى عصر، ويحول

"الآن" و"الماضي" و"الماضي السحيق" لى "حاضر" أعيشه في هذه اللحظة. ليس هناك قارئ يتتبع كاتباً عبر كل ما كتب، إلا فيما ندر، كما أن الفرصة لا تتاح أمام كل مترجم كي يقتحم عالم أديب وينقل أعماله كلها إلى لغة أخرى، كتاباًًًً بعد الآخر.


إنني أعيش مع نجيب محفوظ : هذا ما أستطيع قوله بعد كل هذه السنين، وبعد اثنتي عشرة رواية مترجمة وقصص عديدة لا تحصى.
ذات أربعاء في شهر أغسطس/آب. إختانون يتغنى بأحد أناشيده. على صدر برلين تجثم حرارة خانقة. الصحافة الصفراء تكتب بعناوين كبيرة : " برلين أشد حرارة من القاهرة" .

المنزل يهتز، فأعمال الحفر والبناء التي غزت برلين كلها وصلت إلى شارعنا أيضا. الضجيج لا يحتمل. أحاول ترجمة بيت من النشيد:

تضيء الأرض بنورك        فتتجلى عنها الظلمات

لا بد أن أحترس حرساً شديداً. لا بد أن تبتعد لغة النشيد، وكذلك اللعنات والبركات وكافة الصور البلاغية، ابتعاداً واضحاً عن لغة الكتاب المقدس، فنحن مازلنا في عام 1350 قبل ميلاد المسيح. إذاً عليّ الحذر من كلمات مثل "الجحيم" و "النبي" أو من نداءات مثل "إلهي" التي كان يستخدمها يسوع المسيح.
فوق كلمة "نور" تحط ذبابة. أرحب بها، وأنهمك في الفرجة عليها. آنذاك، عندما بدأت دراسة اللغة العربية وآدابها، كنت فخورة بمحاولاتي الأولى في الكتابة. لكن كل من يراها

كان يسخر من الخط العربي. كانوا يتهكمون قائلين : يبدو مثل خراء الذباب. النشيد، ولأعد للنشيد. أعثر على ترجمة قام بها مؤرخ في أحد مراجع تاريخ مصر القديمة. ولكن، ما هذا؟ لقد أضاف محفوظ إلى النشيد، وغيّر فيه، ونظم أبياتاً جديدة. هل كان لديه مصادر أخرى؟ أم أنه نسج من لغة المؤرخين فناً روائياً؟ أجادله، أسب وألعن بصوت عال - ثم أخضع لمشيته. الحياة مع محفوظ لا تعرف الملل. كثيراً ما يكون الحديث معه أثناء النهار، لا بل في أغلب الأحيان، هو الحديث الوحيد الذي أجريه بصوت مسموع. إن الوحدة التي يعيشها المترجم شبيهة بما يشعر به عدّاء المسافات الطويلة.

أحب الحياة في عالم نجيب محفوظ، ذلك العالم الذي يطلق عليه بعض النقاد وصف "صغير". لهذا أعشقه. إنه يرفض السفر، وينثل مما قدمه إليه ثقافته، سواء في الماضي أو في الحاضر. أعماله العديدة المتنوعة تدل على أن النبع لا ينضب. لقد التزم نمطاً معيناً من الحياة ولم يغيره، التزم رؤية معينة للعالم، واختار طريقا محددا في الإبداع، دون أن يغويه إبداعه كي يبشّر بإيديولوجيا ثابتة، ويجبر الآخرين على اعتناقها باعتبارها السبيل الوحيد في الفن والأخلاق والعقل. هذا الموقف ينم عن عظمة جديرة بالإعجاب.

ما يؤكد أستاذية محفوظ وثقته بنفسه أنه - وبالرغم من اطلاعه الشامل على مختلف التيارات الفنية في الداخل والخارج - لا يهتم كثيراً عندما يسخر هذا الناقد أو ذاك من أساليب معينة في الكتابة، واصفاً إياها بأنها عتيقة قد تجاوزها الزمن. يقول محفوظ أنه كتب بأسلوب واقعي في وقت كان يُقرأ نعي الواقعية في الأدب. وأن الأدب العالمي الحديث لم ينصرف إلى تيار الوعي
واللاوعي والسوريالية إلا بعد أن أبدع مئات الأعمال التي تصور الواقع. ما يصوره في رواياته - يقول محفوظ - لم يلق قبله تسجيلاً واقعياً، لذا لم ير مفراً من اعتماد الواقعية أسلوباً. ليس دائماً، ولكن في معظم الأحيان، يحصر محفوظ اختياره للمكان في أعماله على جزء صغير من مدينة القاهرة الواسعة الأرجاء. وهو اختيار أراه صائباً وذكياً، لأن ما يحدث في العالم الكبير يتلل في وقت ما لى المدن الكبرى والصغرى، بل إلى ككل قرية وكل حي سكني. لا شيء يظل بمعزل عن التغيرات، ولا إنسان يبقى بمأمن منها. لعل منكم من شاهد فيلم "دخان Smoke ". إحدى شخصيات الفيلم الرئيسية تعمل بائع دخان.

طول سنوات يقوم كل صباح، في تمام الثامنة، بالتقاط الصور الفوتوغرافية للجانب المقابل من الشارع. ذات يوم يقلّب صديقه، الكاتب، في تلك الصور وقد استولى عليه السأم. " الصور هي هي، لا تتغير"، يقول مستاءًً. فيجيبه البائع: " عليك أن تمعن النظر، الناس مختلفون، أو يبدون على هيئة مختلفة، ولكل منهم حكايته".

إن محفوظ يجلب "الخارج" إلى داخل رواياته، وبهذا يخاطب شعور ملايين الناس الذين لا يشاركون في الأحداث إلا بطريقة غير مباشرة، إلا أن لكل منهم تاريخه وحكايته. لقد اقترب محفوظ منهم وتناول حياتهم بأشكال لا تحصى، وهو في ذلك يبوح بالكثير عن نفسه وحياته هو كما يفعل كل أديب مجيد.

كلما قرأت وترجمت أعمال محفوظ، ترسخ لدي الانطباع بأنه من ناحية مصري حتى النخاع، ومن ناحية أخرى ليس مصرياً على الإطلاق. نعم، إن أسماء شخوصه تبدو غريبة على الأذن غير العربية ، لكن الناس الذين يحكي محفوظ حكاياتهم موجودون في كل مكان. إن الأشواق والشكوك والأسئلة التي تمزق كمال عبد الجواد في الثلاثية ، وتزلزل كيانه، هي نفسها التي ترمي بالناس في برلين إلى هوة اليأس. في "السكرية" يقول نجيب محفوظ على لسان إحدى شخصياته ن الفن هو ما يمنح الكيان الإنساني إمكانية للتعبير. ومن مقومات الكيان الإنساني التي يتناولها محفوظ في أعماله : الظمأ إلى المعرفة، والبحث عن الحقيقة، والتحرق إلى الشعور بالأمان، والتوتر الناجم عن الرغبة في الحياة والخوف منها.

من الجدير بالإعجاب أن نكتشف لدى محفوظ كيف أنه ـ في بحثه المستمر عن معنى الحياة ـ يسير ببراعة متوازناً فوق حبل يؤرجحه بين البهجة والكآبة. إن من يبدع شخصية تعب من الملذات عباِّ ، مثل السيد عبدالجواد في الثلاثية ، لا بد أن يكون كاتباً عاشقاً للحياة. إلا أننا نصادف في أعماله أيضا الشكوك التي ترتاب المرء أثناء الحياة ، وما يصيبه من تعب وإنهاك وسأم . هذا الخط هو ما يربط أعمال محفوظ جميعها . في الجزء الثاني من الثلاثية ، "قصر الشوق" ، وقبل أن يتم كمال عبدالجواد التاسعة عشرة ، تلح عليه الهواجس المعذّبة عن الصيرورة والماضي:
"وفكر فيما قبل الولادة ، بل فيما قبل الحبل ، في المجهول الذي ينبثق منه الحياة ... عرف له بداية قريبة دعاها بالنطفة ، فهو لم يكن قبل تسعة عشر عاماً وتسعة أشهر إلا نطفة ، نطفة قذفت بها رغبة بريئة في اللذة ،أو حاجة ملحة إلى العزاء ، أو صولة هياج بعثتها سكرة غاب فيها الرشاد ، أو حتى مجرد أحساس بالواجب نحو الزوجة القابعة في البيت ، فأبن أي حال من تلك الأحوال كان؟
.... ومن النطفة مرق حيوان فالتقى ببويضة في البوق وثقبها ، ثم انزلقا إلى الرحم معاً ، فتحولا إلى علقة ، فكسبت العلقة لحماً وعظماً ، ثم خرجت إلى النور والألم بين يديها يسير ، ثم بكت قبل أن تستبين معالمها ، ومضت الغرائز المودعة بها تنمو وتتبلور ، مستجدة على مر الأيام عقائد وآراء حتى اتخمت ، وعشقت عشقاً زعمت لنفسها به نوعاً من الألوهية ، ثم زلزلت فتهاوت عقائدها ، وانقلبت أفكارها ، وخاب قلبها، فردت إلى مكانة أذل من التي جاءت منها أول مرة !"

عندما كتب محفوظ هذه السطور كان في السادسة والأربعين من عمره ، أي أنه كان في طور الشباب . وبعد حوالي ثلاثين عاما كتب قصة بعنوان " السيد س " في مجموعة "التنظيم السري"(1984)، وفيها تحدث عن رجل يحاول عبثاً أن يوقظ داخله ذكرى الحياة المترعة التي سبقت ميلاده. بعد الرحم الذي لجأ إليه جاء ما أطلق عليه الراوي خيانةً وسلسلةً من الإغراءات الخادعة - أي الحياة. إذاً ، الأمل الوحيد المتبقي هو الموت . وبالفعل يهرب بطل القصة من بدنه ، متطلعاً إلى الحقيقة الحرة الطليقة . وبعد مرور عشر سنوات يتحدث الكاتب في " أصداء السيرة الذاتية"(19994) بلا مواربة عن الخوف من الانطلاق نحو عالم آخر ، عن المجهول الذي يكتنف تلك الرحلة المسماة بالحياة .

سحابة رقيقة من الكآبة ، أو على الأقل من الأسى الشفيف ، تظلل رجل أعمال محفوظ . ليس محفوظ بالمحارب العنيد الذي يعرف تماماً ماهو عدل وماهو ظلم .

محفوظ لم يحتكر الحقيقة يوما ، ولم يكن أبدا من أنصار التنوير الدوغمائي ، كما أنه لا يرسم صوره بالأبيض والأسود . إنه يمتلك - ولله الحمد - قدراً محترماً من السخرية تجاه الذات ، وقدراً من المرح ، بل ومن التهكم. يستمتع المترجم ، ولا شك ، بترجمة عمل مثل "حضرة المحترم " يستمتع وهو يحاول إيجاد مقابل للسخرية اللاذعة أو الخفيفة التي يرسم بها محفوظ شخصية عثمان بيومي. لكن تهكم محفوظ لا يتجاوز الحدود أبدا، ولا يتسم إطلاقاً بالخبث، ولهذا لا تتحول شخوصه في رواية ما إلى كاريكاتير. كم من مرة ابتسمت، واستمتعت - بلذة سارق - وأنا أعيد كتابة هذا الهوس البيروقراطي الذي تحكّم في "بطل" الرواية أثناء سنوات خدمته. ولكني كنت أتفهم دوماً طموح هذا الرجل وسعيه إلى ارتقاء السلم الوظيفي. ليس هذا فحسب، بل إنني كن أتعاطف مع هذه الشخصية المحزنة. كلا، ليس من عادة نجيب محفوظ أبداً أن يسخر من شخوصه. إن تعاطفه مع الآخرين وتسامحه لا يسمحان له أن يجرح إنساناً . محفوظ لا يدعي لنفسه العصمة من الخطأ، كما أنه يتمتع بنصيب كبير من السخرية تجاه الذات: هذا ما يجعلني أحب الحياة مع نجيب محفوظ.

هناك سبب آخر أود أن أضيفه . خلال السنوات العديدة التي قضيتها مع أعماله علمني محفوظ تدريجياً ألا أخشى استخدام الكلمات الخطابية الكبيرة.لكل مترجم تكوينه وطبعه اللغوي، وأنا أنزع إلى التهوين والتقليل، لا إلى التضخيم والمبالغة. لذلك كانت ترجمة الجزء الثاني من الثلاثية، "قصر الشوق" اختباراً طويلاً ومضنياً لي. وكان طريفا أن ألاحظ كيف أثارت غضبي الفقرات التأملية الطويلة التي لا تنتهي، ثم كيف وجدت نفسي استمتع بترجمتها. لقد أجبرني محفوظ على أن أطلق العنان لقلمي، وأن أتسلل إلى قلب وعقل كمال عبد الجواد وعقل. وفي لحظة ما يندهش المرء لكل هذه الأشياء التي يختزنها في أعماق لا وعيه. بل إن المرء ليشعر بالسعادة، لأنه يغدو لوق ما إنساناً آخر.

لكن الحياة مع محفوظ تثير في بعض الأحيان المتاعب أيضاً. لا أريد لا التحدث عن الاجتهاد الواجب التحلي به، ولا عن الحصة اللازم ترجمتها يوميا، ما يتعارض في بعض الأحيان مع حياتي العائلية. أود أن أحكي في الختام واقعة أنظر إليها اليوم باعتبارها نادرة من النوادر. عندما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب، واجهتني بعض المتاعب. آنذاك كانت ألمانيا الديمقراطية لا تزال على قيد الحياة، وكان من الحظور علينا، نحن الألمان الشرقيين ، أن نعطي وسائل الإعلام الألمانية الغربية أية أحاديث صحفية، ناهيك أن يتجرأ أحد وييفعل ذلك دون تصريح. ومع ذلك فقد فعلت المحظور ، انطلاقاً من فرحتي العارمة لحصول محفوظ على هذه الجائزة، واحتجاجاً على هذه الوصاية الفكرية المهنية. وواجهتني متاعب كثيرة. ولكني أتجنبها، أدعيت المرض لأربعة أسابيع.
على أية حال، لقد انقضى الأمر . والآن أعيش في عصر آخر، عصر إخناتون. إنني مستمتعة بالعيش في تلك الفترة.

شبكة ليل الاعلامية
15-6-2008