أديب حسن محمد

سعدية مفرّحليس سراً القول إن أصعب مساحات الشعرية هي مساحات السهل الممتنع، يستطيع الشاعر أن يكون ساذجاً يقدّم صوراً مُلغّزة لا تعني حتى القواميس التي أخرجت منها، ويستطيع كذلك أن يكتب نصوصاً مسطحة لا تفترق عن الكلام العادي، اللهم إلا بالوزن والإيقاع، لكن الخيار الثالث الأصعب هو الخيار الفنيّ العالي الذي يمكّن الشاعر من طرح مقولات القصيدة دون أن يقع في المباشرة، ودون أن يفقد الشعر إيحاءه، وسحر تعدد قراءاته.

سعدية مفرّح من القامات الشعرية الكويتية التي استطاعت تجربتها الوقوف على قدمين راسختين، وذلك لوعيها بجوهر الشعر البعيد عن طرفي المعادلة الخاسرة: التلغيز، والتسطيح.

تجاوز الذات

تستطيع سعدية مفرح تجاوز ذاتها باستمرار، وهذه خصيصة تلازم الحياة المترقية، غير الساكنة، وغير الراضية بحال من الأحوال.

وبحسها الأنثوي العالي، وبحساسيتها الخاصة تجاه اللغة التي تتعامل معها، استطاعت أن تبني علاقة شديدة الخصوصية مع مفرداتها، وبحيث استقطرت اللغة استقطاراً، وصولاً إلى قمة الكثافة التي تتيح للقصيدة التقاط موضوعها بأقل عدد من المفردات، ودون الإخلال بالشروط الفنية للقصيدة، باعتبارها دفقة شعرية، تسعى لامتلاك لحظات شعورية عميقة بأسلوب مميز ومبتكر، وبكلمات معبرة، يتم تسخيرها في سياق نصّ كثيف يستفز اللحظة الشعرية، ويحيط بها.

نصها المعنون «مثل حصاة معتمة» المنشور في العدد الأخير من مجلة دبي الثقافية، يؤكد ما ذهبنا إليه من الترقي، والتجاوز في تجربة هذه الشاعرة، التي تحرك بشعرها الأشياء الصامتة المتحجرة، وتفكر بدلاً عنها، فتخلق لنا عالماً نكاد نتلمسه لبراعة الوصف، وجماليات التصوير الشعري، تقول:

«مثل حصاة معتمة
أُهملت في طريق الرمل
وهو ينبثق من تعب الجبال الهرمة
مثل خيمة في أقصى حدود الريح
تغني من أجل أن يعود الغائبون
في غياهب الأسئلة السافرة».

هذا المقطع يقترب من الفن التشكيلي كثيراً، حتى نكاد نقول، إن سعدية ترسم بالكلمات مشهداً ألوانه مستمدة من خيال جامح وبارع وخلاّق.

ولو حوّلنا بجهد بسيط الكلمات إلى لوحة لاكتشفنا عمق التصوير، وروعة الكلمات، فالحصاة محصّلة شيخوخة الجبال، والخيمة والريح المتشاكستان أبداً يوحّدهما داء الوحشة في انتظار الغائبين، والغائبون مفقودون في غياهب أسئلة سافرة!.

اختراق المألوف

ثمة في هذه القصيدة النثرية ما هو مغاير للنمطية السائدة، إنها جهد تأمليّ يخترق الصور المألوفة للأشياء ويحاول توليد (المغاير) من رحم (المألوف)، مستعملاً الإحساس الشعري العالي بالكوني، ذلك الإحساس الذي يسجل للنماذج الجيدة من القصائد النثرية، حيث يتم حشد كثافة دلالية وشكلية عالية، وتبحث عن الشعر في ثنايا الحياة اليومية بكل تفاصيلها الصغيرة، هذه التفاصيل المهمّشة التي تنتظر ذهناً متوقّداً، وخيالاً مخترقاً، ومستبصراً، وحدْساً رهيفاً ومؤهّلاً لاستخراج أنفس الصور من الخامات المختزنة في ثنايا الحياة.

تقول في مقطع آخر:

«فلا تأبهين بالضوء
إذ يتشظى منكسراً
في لمعة عينيك الدامعتين
ولا بالرخام مرآة لخطواتك المتئدة
ولا بما يتكوّن في ثنايا اللمعة
روحاً أخرى لكائنات أخرى
تحفر قبورها ضاحكة
من بلاغة الموت الموجز
وتكتملين في دائرة المعنى
فتبدو الألفاظ مثل أشجار هرمة».

تستطيع الشاعرة أن تكتب القصيدة اللوحة إذاً، وهي بصدق كل متكامل، وإن كان الاجتزاء هنا للضرورة، فإن قراءة النص كاملاً تثبت تعلق كل جملة بمجاوراتها ضمن سياق كليّ متماسك، لا تسهو فيه الشاعرة، ولا تشطط بمفرداتها خارج الطقس التأمليّ الذي توقعه بامتياز، وتثبت فيه أنها حقاً شاعرة التفاصيل والهوامش.

اوان
24 مارس 2008