كلاديس مطر

محمد مظلومتتبنى فكرة تقسيم الأجيال الشعرية في العراق في كتاب «حطب إبراهيم أو ـ الجيل البدوي ـ شعر الثمانينيات وأجيال الدولة العراقية» للشاعر والباحث محمد مظلوم، المفهوم العام لنظرية في علم اجتماع التاريخ عن الأجيال في الولايات المتحدة.
ولكي نتمكن من أن نفهم مقاربة الكاتب لشعر الثمانينيات وشعرائها، انطلاقاً من هذه النظرية، لربما كان من الحيوي أن ندرك أوَّلاً مفهوم الجيل، أو نظرية الأجيال التي حاول من خلالها كل من الباحثين الأميركيين وليام شتراوس ونيل هاو أن يدوِّنا التاريخ الأميركي عبـر تتابع أجياله منذ عام 1584 وحتى عام .2069
ودراسة التاريخ واستكشافه التي انطلقت من كتاب «الأجيال» الذي ظهر عام ,1991 أُكملت في كتب لاحقة للباحثين أنفسهم، كـ «الجيل الثالث عشر» و«المنعطف الرابع» وثلاثة كتب أخرى عن أجيال هذه الألفية.
وليام شتراوس نيل هاو
والجيل كما يراه شتراوس وهاو «يتألف من أفراد يضفي عليهم وجودهم المشترك في المكان نفسه تاريخياً نوعاً من الشخصية الجماعية أو الجمعية. أما الامتداد الزمني للجيل الواحد فبالكاد يساوي طول مرحلة حياة»، والمرحلة كما عرفها كاتبنا في مؤلفه الغني: «هي المحطة ذات العلامات الفارقة في سياق حقبة من التاريخ والتي تنطوي على تبدلات و تحولات ثقافية في الأمزجة، والتي هي تمثيل للانعطافات المرافقة لأنماط ( الأجيال الأربعة) خلال قرن من الزمن».
وفكرة الجيل ليست فكرة حديثة أو اعتباطية، ففي كل ثقافات العالم، كما يقول الباحثان، تعتمد الملاحم والأساطير القديمة على الأجيال، وليس على السنوات، باعتبار الجيل وحدة قياس لتقصي صعود وسقوط الإمبراطوريات والأديان. كما أنَّ بعضَ أهمّ الروّاد المعروفين بدراسة التاريخ كـ «بوليبيوس» و«ابن خلدون» قد ركَّزوا بشكل مُفرط على كيفية تأثير التغييرات «الجيلية» على حركة أحداث التاريخ.
ومن أرنولد توينبي إلى أسوالد شبنغلر مؤلف «تدهور الحضارة الغربية» اللذين اكتشفا أنَّ دورات التاريخ تدينُ في حركتها وصعودها وهبوطها إلى هذه التعاقبية الجيلية باعتبارها المحرك الرئيسي الخفيّ لها، وصولاً إلى محمد مظلوم الذي رأى ما كان يراه ابن خلدون دائماً في التاريخ، أي ليس مجرَّد «خبر وأخبار» وإنما «مستودع للعبـر والأفكار»، طريق طويل ومتشعِّب غير أنه في «حطب إبراهيم» يؤطَّرُ ضمن هدف محدد وهو أن يروي المؤلف ـ كما يقول هو في كتابه ـ ما لم يدون في وثائق إعلام التعبئة وصحف «الفترة » وأن يؤرخ «للمرحلة» بصوت شهادته الشخصية المحضة، عن جماعة هي الجيل الثمانيني تحديداً والذي أطلق عليه «الجيل البدوي»، كما سنرى مدلول هذه التسمية وميزاتها لاحقاً انطلاقاً من تصنيف أنماط الجيل الأربعة بحسب شتراوس وهاو.

و«حطب إبراهيم» هو «حساب شخصي أوّلاً بين الكاتب ونفسه» الذي ينتمي هو إلى هذا الجيل». إنه أيضاً كشف المستور بأكثر الطرق جمعاً بين التراث وآخر نظريات استكشاف التاريخ حداثة، الأمر الذي يعتبر الأول من نوعه مقاربة وطرحاً في العربية. إنه إعادة تمثيل ما «ارتكب» في تلك الحقبة حدثاً حدثاً وشاعراً شاعراً، ربما بدافع تطهيري كما يقول المؤلف، وربما حتى أبعد من ذلك، بغرض الدمج بين المتفرج والمسرح في جيشان عاطفي ليخرج الكلّ منه لا غالب ولا مغلوب، أو بكلمات أخرى أقلّ احتقاناً وأكثر تفهماً. إنه ليس مراجعة ثقافية بحتة لحقبة بعينها تهم الكاتب، وإنما هو حاجة ملحّة الآن خصوصاً بعد عام ,2003 عام «الاجتياح الاميركي لبلاد الرافدين » حيث بدا حيوياً تماماً أن نفهمَ نحن أيضاً كيف تتعاقب الأجيال في الدولة العراقية، ليس باعتبارها حالات ثقافية تعيش منعطفاتها الخاصة الإقليمية والعالمية، وإنما من زاوية لم تخطر حتماً على بال واضعيها «شتراوس وهاو» ألا وهي الشعر!

أجيال الدولة العراقية
لقد تبنى «حطب ابراهيم» خاصة في فصله الأول الخاص إشكالية التجييل نظرية «الأجيال» الواردة في كتاب للباحثين يحمل الاسم نفسه كما أسلفنا، والنظرية ليست سوى تاريخ اميركا يُسرد بحسب قصص حياة الأجيال المتعاقبة. لكن في جوهر البحث عن تفاعلات الأجيال مع التاريخ فإن «حطب ابراهيم» مبني بشكل أقوى وأكثر رسوخاً على الطروحات الواردة في كتاب «المنعطف الرابع» للباحثين نفسيهما والذي هو دراسة لإيقاع التاريخ عبر منعطفاته، وثنائيتي «اليقظة/الأزمة» و«النهضة/التدهور» التي تقوم عليها.
فالتاريخ ـ كما يقول الباحثان ـ يخلق الأجيال، والأجيال تخلق التاريخ. وهذه الدورة تسحب المزيد من الطاقة من حاجة كلِّ جيل لإعادة تعريف الدور الاجتماعي لكلِّ مرحلة حياة يدخلها. كما إنه يسحب طاقة دورية أخرى من ميل كل جيل لكي يملأ الفجوات التي يراها أمامه، ولكي يصحّح (المرة تلو الأخرى حقاً) تجاوزات وإفراطات من أتى قبله.

لقد اعتبر محمد مظلوم أن «الشعر هو الميراث الثقافي الأساسي، ومستودع التجارب الشخصية والجماعية في تاريخ العراق.. وهو النموذج الأنسب لمقاربة «أجيال الثقافة العراقية» خلال ثمانية عقود، هي تماماً فترة تجييل الثقافة العراقية سياسياً؛ أي منذ قيام الدولة العراقية في العام 1921 وحتى نهاية نموذجها القديم في عام ,.2003 وهي كما يقول «حقبة تامة من الناحية اللغوية والاصطلاحية، وحائزة على شروطها الزمنية».

وهكذا انطلق من هذه القاعدة، ليقيس نوعيات الأجيال الثقافية ـ الشعرية تحديداً ـ العراقية خلال حقبة الدولة القديمة.
وكما قسم الباحثان «شتراوس وهاو» الأجيال الى أربعة تسميات (البطل، الفنان، النبي والبدوي) كذلك فعل محمد مظلوم مفنداً الأجيال الأربعة لهذه الحقبة، مبتدئاً مع نهوض فكرة الوطن خلال ثورة ,1920 وقيام نموذج الدولة العراقية في الـ .21

والثمانيني هو الجيل البدوي عراقياً، وهو جيل الـ«x» أو الجيل الثالث عشر الأميركي، وجيل «البوب» عالمياً. وبالرغم من السمات المشتركة لهذا الجيل على صعيد ثقافات العالم ككل، من حيث كونه عاصر نهاية الحقبة الاستعمارية القديمة، وانتهاء الحروب الباردة وسقوط جدار برلين ودخول ثقافة العولمة إثر انتشار الشبكة العنكبوتية أولاً والقانون الدولي ثانياً .. إلا أن سمات الجيل البدوي العراقي قد حددت طابعه أحداث إقليمة عربية أخرى ابتداءً من حربي الخليج الاولى والثانية وانتهاءً بالحرب اللبنانية لاحقاً. ومن الثقافة التعبوية العراقية القاسية وانتهاءً بسقوط بغداد الفعلي الذي مهد أو ربما كان عمق المنعطف الأخير أو الرابع ـ الأزمة.
البدوي الأميركي والبدوي العراقي
البدوي كما يصفه «شتراوس وهاو» يحل محل الانبياء في طفولته خلال فترة الصحوة، أو النهضة. انه يُترك من دون حماية خلال فترة الاضطراب الاجتماعي وخلال فترة الرشد، أي فترة اكتشاف الذات.
والبدوي ثلاثة بحسب هذين الباحثين: اللا منتمي الذي يصبح عاملاً حراً فجاً يعزو ذرائعيته واستقلاليته إلى حقبة من الهيجان الاجتماعي المتصاعد، والبدوي البرغماتي الذي يظهر قوة وثباتاً للدفاع عن المجتمع في الوقت الذي يحمي فيه ويدافع عن مصالح الشباب، ثم هناك البدوي المستنفذ الذي يبطئ من سرعة التغيير الاجتماعي نائياً بنفسه عن الصراعات العنيفة بحجة ادعائه البساطة والرغبة في البقاء على قيد الحياة.

وبينما يعتقد «شتراوس وهاو» أننا على أبواب الدخول في المنعطف الرابع، يعتقد محمد مظلوم أن المنعطف العراقي الرابع بدأ فعلاً مع الحرب العراقية الإيرانية، ولاحقاً حرب الخليج الثانية وحرب الصحراء الأميركية وصولاً إلى سنوات الحصار.. ثم انتهاءً بانهيار الدولة القديمة بالاحتلال الاميركي للعراق، وهو زمن يستغرق ـ كما يقول 22 عاماً بالتمام والكمال. وهي المدة التي يعتقد علماء الأجيال أنها كافية لنشوء المزاج العاطفي والعقلي وارتقائهما. والحق لم يذهب المؤلف في تفنيد أنماط البدوي كما فعل «شتراوس وهاو» وإنما عمد إلى أبعد من ذلك حين جمع تعددية ـ مع تنويهه بالاستثناءات ـ هذا الجيل تحت عنوان واحد بقوله: «إنه جيل الانهيارات الدراماتيكية والصدمات النفسية والتشتت في التزام المواقف وبناء الأفكار والاضطراب في تحديد الاختيارات، وبذلك فهو يعدُّ جيلاً انقلابياً سريع التأثر غرائزي الاندفاع».

مع ذلك وبعيداً عن توصيفه للبنية النموذجية للجيل البدوي الشعري، يعترف أن دراسة مواقف عدد من شعراء هذا الجيل إنما تنم عن كثير من التناقض حيال الديكتاتورية واحتلال العراق مثلاً، وبالتالي فإن نموذج البدوي ملتبس حقاً ثقافياً، الأمر الذي لم يشر اليه «شتراوس وهاو» في أدبهما عنه.. بل أن مظلوم أوجد نسقه الخاص في تصنيف البدوي العراقي فظهر البدوي المتمدن، والبدوي البربري والبدوي المحلي والبدوي الوثني أي غير القادر على استيعاب النظم الدينية التقليدية وهلم جرَّا.

ولسنا هنا في وارد إيجاد تطابق بين طروحات واضعي النظرية الأصلية وما يطرحه محمد مظلوم في مؤلفه، بل ليس هذا حقاً بذي شأن. إذ يكفي أن يملك الأرضية والأساس ليقيم بناءه الخاص، فالعراق ليس أميركا، وكيف يكون، لكن الآلية التي تتحرك بها دورة التاريخين هي حتماً واحدة، كما أنها واحدة بالنسبة لكل الثقافات الأخرى في العالم وتاريخها.

وفي لفتة أدبية من الكاتب شديدة الواقعية والفنتازية في آن ـ واللفتات الأدبية المؤثرة كثيرة في الكتاب ـ يرسم حدود ظلال هذا البدوي العراقي الثمانيني بقوله: «إنه المغترب المزدوج داخلياً وخارجياً، لا أرض الميلاد، ولا أرض الميعاد ولا مبعث.. إنهم بدوٌ لأنَّ تخوم حياتهم تقع بين الحرب والمنفى، بين جوقة الحطابين الذين يعدون ناراً لإحراق المستقبل وبين المدن التي يصلونها ولا يجدون حياتهم فيها.. إنهم ـ أي شعراء الجيل البدوي ـ المحاربون في فترة الأخطار، والمطاردون المطلوبون في زمن تثبيت الولاء للسلطة وترسيخ النصر، والمنفيون في ساعات تقييم المحاصيل والاستحقاقات، لهذا لم يكونوا مواطنين في الوطن إلا داخل هذه التغييرات المتعددة لصورة البدوي».

لم يصدر «بدو» الثمانينيات بيانهم الشعري الخاص كما فعل شعراء الستينيات والسبعينيات، على الرغم من اعتبار «شتراوس وهاو» تميز هذه الفترة بالحروب الثقافية والجيشان الروحي، إذ لم يكترثوا لها كما يقول مظلوم كثيراً وبقوا منشغلين بالكتابة والقراءة والتنظير والنشر القليل؛ سمة أخرى لهذا الجيل الذي عرف بتنوعه وتكتلاته وجماعاته وتياراته (حدّد مظلوم 3 تيارات في كتابه تميز توجهات القصيدة الجديدة في العراق من ناحية الفنية والرؤية) والصراع فيما بينها.

المنعطف الرابع
يضع محمد مظلوم روح الشاعر الثمانيني العراقي على المحكّ تماماً، ضمن سياق الانقلابات الروحية والعولمية الشاملة، التي صبغت المرحلة.. بل أن الداخل إلى كتابه «حطب ابراهيم» سوف يذهل كيف أمكن له أن يوثق بمثل هذا التشعُّب المهول، وهذه التحليلات، لأدق تفاصيل سمات هذا الجيل البدوي، سواء أكان منفياً خارج الوطن، أم داخله، أم كان ضائعاً بين جيلين، أم شاعراً من شعراء المحافظات الذين «لم يتح لهم ابتعادهم عن المركز التماس المستمر مع مركزية الثقافة في العاصمة أن تتبلور فيها سمات الجيل الشعري»، أو شاعراً بدوياً مسلحاً في خنادق القتال «حيث تدور أحاديث الشعر تحت فوهات مدافع الدبابات وعلى ناقلات الجنود»، ولاحقاً شاعراً معاقاً تركته الحروب الطويلة «مفتوح العينين على شريط مستمر لأيام تدوي فيها المدافع».

لقد انعكست الحرب على شعر الثمانينيات، وهي هنا تهيئ للمنعطف الرابع مجازياً كما هيأت له مادياً. والمنعطف الشعري الرابع، أي الأزمة يكمن، كما يقول مظلوم، في كون شعراء هذا الجيل هم ثمانينيون فقط من الناحية التزامنية، لكنهم لا يندرجون بالعمق في النسق التكويني «للجيل البدوي» اذ أن أغلبهم ينتمي إلى ثقافات أخرى كما يقولون. وهكذا فإن بداية هذا الانعطاف يكمن في اختلال الأرضية العقائدية التي ينتمي اليها هذا الجيل الذي استفاض جداً الكتاب في شرح أزمته الروحية ودواعي كينونته. بل إن المنعطف ـ الأزمة حقاً هو في طبيعة الشعراء الثمانينيين تحديداً، والأمثلة الشعرية الكثيرة التي سيقت في الكتاب بليغة جداً أذكر منها مقطعاً للمؤلف نفسه باعتباره ابن هذا الجيل من ديوانه (غير المنصوص عليه : (
«بكيتُ حينَ انتبهتُ إلى وجودِ نافذةٍ ثالثةٍ في البيتِ، تطلُّ على مقبرةٍ مُسيَّجةٍ بخيْلٍ مَيِّتةٍ، بكيتُ حينَ انتبهتُ إلى وُجودِ كرسيٍّ بثلاثِ أرجلٍ فوقَ السَّطح، فتذكَّرتُ أني لَمْ اغفُ على كُرسيٍّ منذُ سنوات».
إن هذا حقاً أدب معركة أينَ منهُ (أدب المعركة) المزيف الذي رسم البطولة بأقلام احتفالية؟ بينما «لم يقترب من أبسط مكابدات الجندي على الجبهة».

إن الانعطاف الرابع في نص أو قصيدة نثر الثمانينيات لم يكن يشكل قطيعة للتصور الشعري السائد وانما ـ بحسب تقدير مظلوم ـ «انبثقتا كاحتمالات تالية لمشروع قصيدة التفعيلة». لقد كان المنعطف المجازي هو فقدان القصيدة «لوزنها» تماماً كما كان فاقداً هذا الجيل الشعري الثمانيني «لتوازنه». الاثنان معاً ادخلهما جَيَشان المرحلة في برزخ انعدام الوزن تماماً. ولقد عبر الكاتب في مقطع أخاذ حقاً عن ذلك بقوله:
«مع (الموجة الجديدة) ترسخ شعر (السيرة): سيرة الأشخاص والأمكنة والأشياء وأتيح لمكنون اعترافي كبير أن يتفصد تحت شمس لغة تقول وتتخيل معاً.. اتحدت مرجعية الحياة بوصفها خبرة بمرجعية الموت بوصفه تخيلاً، وتكهربت المسافة بين الكتابة والمحو، صار الاختزال والحذف معنى شاقاً وعميقاً، مثلما صار السرد والإسهاب محاولة لتصوير صمت صائت بإشعاعه وشاخص دائماً».

وفي الوقت الذي يعتقد فيه محمد مظلوم أننا دخلنا ضمن المنعطف الرابع حقاً، مستنداً على ثقافة الثمانينيات المنكفئة على ذاتها و«المحجبة بفعل انصاتها الداخلي»، ثقافة الرعب والموت والتعبئة والقصائد المدججة ومنابر المؤسسات الإعلامية الرسمية التي برعت في مديح البنادق ومعسكرات التصفية وحفلات الإعدام وهذه الحروب بين العرب والفرس أو بين الإسلام والمجوس، كما أسماها ذلك الإعلام.. أقول تحت «سقف هذه الفوبيا» رأى الكاتب المنعطف في نصوص الثمانينيات التي انتظرت المخلص وعودة الغائب وأخذت تحشد ترميزات الأسطورة والصوفية في جسد القصائد وتنتظر الفرج.

بيان تحذيري
إن «شتراوس وهاو» اللذين لم تخطر لهما مقاربة مظلوم لمنعطفهما على بال، قد أصدرا «بيانهما التحذيري» الى قارئ كتابهما، حيث التاريخ تحول الى نبوءة حقاً. لقد أعلنا أن رحلتهما الاستكشافية في قلب التاريخ الاميركي قد أوصلتهما الى نتيجة مروعة: أن أميركا، بعد عشر سنوات من الآن سوف تدخل مرحلة الأزمة ـ مرحلة من الهيجان السياسي والاجتماعي ـ والتي سوف تستمر حتى عام .2020 وهذه المرحلة هي ما نطلق عليها المنعطف الرابع. وهذا المنعطف سوف يشكل عتبة اساسية في تاريخ الامة الاميركية تصل ذروتها مع حوادث مشابهة للثورة الاميركية (1773-1794) والحرب الأهلية الاميركية (1860-1865) والانهيار الكبير في السوق المالي والحرب العالمية الثانية (1929-1946)) والتي كانت كلها منعطفات رابعة في وقتها. دورة التاريخ هي ذاتها، الفرق يكمن في التفاصيل فقط.. عبارة قيلت دائماً وهي اليوم مثبتة بالدليل والبرهان القاطع.

ولكن إذا كانت الحروب والديكتاتورية المحلية هي مَن صنعَ المنعطف الرابع الشعري العراقي، إذاً من يصنع منعطف اميركا الخاص بها..؟ وكيف يقرأ «شتراوس وهاو» ذلك؟! الحق لقد تنبأ الباحثان، وبالرغم من كل هذه الضجَّة التي أحدثها عصر المعلوماتية والنظام العالمي الجديد، أن الأنماط الفصلية التي لاحظها الأقدمون، لربما تتصل وتصل إلى قلب طبيعة مجتمعنا المعاصر، كما تنبآ بان أميركا خلال فترة التسعينيات سوف تنقسم الى معسكرات من الحروب الثقافية المتنافسة فيما بينها (وهي المنعطف الثالث حتى عام 2005) وأن السياسة سوف تغدو متشحة بوشاح الأخلاق المدعية والخبث، وأن «قيم العائلة» سوف تغدو موضة المرحلة، وأن ظهور جيل قاس ومنفر من الشباب سوف يثير حفيظة الاعلام بشكل ساخر.

إن منعطف اميركا الرابع كما تنبأ له «شتراوس وهاو» قد يسفر عن انقسامها اذا لم يتمكن سياسيوها من الاستفادة من دورة أجيال التاريخ...! أما المنعطف الرابع الثقافي العراقي الذي رأى محمد مظلوم أننا دخلنا به، فقد بانت ذروته بشكل غريب منذ فترة قصيرة: ترى ألم يتحدثوا اليوم عن انقسام العراق؟!

حقاً إننا أمام حدي القاتل والقتيل، اميركا والعراق الذي يواجه كل منهما منعطفه المخملي الأخرق.. أميركا تداويه بالمزيد من الجنوح السياسي والعراق بالمزيد من اللجوء الى الخرق المقدسة.. ومحمد مظلوم يرى الخروج من النفق في أفق آخر تماماً.. لعله الشعر.

السفير
30-11-2007