وطوينا علي الجراح قلوبا دميت لوعة وذابت غراما

علوان مهدي الجيلاني
(اليمن)

ابراهيم الحضرانيإبراهيم الحضراني شاعر يمني له بصمة خاصة في المدونة الشعرية التقليدية في اليمن. شاعر مخضرم ولد في عهد الامام وعاش مرحلة الانتقال من النظام الإمامي الي النظام الجمهوري وما رافقه ذلك من صراعات وافكار محتدمة. عاش الحضراني طويلا، ورافق مفاصل مهمة في حياة اليمن والعالم العربي، ورحل عن دنيانا قبل ايام تاركا وراءه ارثا شعريا كبيرا وسيرة مفعمة اختصرت قرنا بأكمله. هنا صورة قلمية له:

ولد إبراهيم أحمد الحضراني في حضران من بلاد آنس لواء ( محافظة) ذمار سنة 1918م، أبوه الشاعر والراوية والعلامة الشجاع القاضي أحمد الحضراني.. ومنذ البداية وجد إبراهيم نفسه أمام مشكلة تشرخ قلبه وروحه وعقله فأبوه الذي سافر صغيراً إلي الحرم لطلب العلم وشارك مع الشريف حسين في الثورة العربية الكبري .. لم يعد إلي حضران ليتزوج أم إبراهيم وينجب منها أولاداً ويعيش معهم بعلمه الغزير وروايته الواسعة ومواهبه المتعددة وطموحه الكبير.. مجرد فقيه لجامع القرية يؤم أهلها ويخطب فيهم ويعلِّم صبيانهم.. لا فذلك الرجل كان يري أن أقل ما يليق به أن يكون محارباً يقارع العدو المحتل.. أو نديماً ومشيراً للإمام القائم إن لم يكن وزيراً لإمام محتمل... فتح إبراهيم عينيه علي الدنيا في واقع يشهد غيابات كثيرة للأب تتخللها فترات حضور قصيرة ولكنها تشعل خيال الولد الصغير... وترفع أباه في عينيه إلي مستوي الشخصيات الأسطورية.. من خلال تحلق الناس حوله وإعجابهم بما يرويه ويحكيه.. ناهيك عن تأكيد كل ذلك فعلياً علي مستوي الشجاعة والإقدام عندما استطاع ببندقيته التي أهداها له الشريف حسين أن يسقط طائرة بريطانية كانت تقصف ذمار في شمال اليمن سنة 1927م .. بيد أنه في مقابل ذلك كله كانت هناك أحزان أمه الباكية لفراق أبيه وما يمكن أن تؤسسه تلك الدموع النازفة في نفسه من استعدادات للحزن والتأمل ولكن هل بإمكان شيء ما أن يوقف مد الحياة .. وأن يتلافي ما تترصدنا به.. مجموعة انعطافات مهمة كونت أكثر سمات وملامح إبراهيم الحضراني الإنسان.. وشكلت الخصائص الجوهرية لتجربة إبراهيم الحضراني الشاعر.. الانعطافة الأولي كانت تلك التجربة المرة التي عاشها الشاعر وهو في التاسعة من عمره.. حين أخذه أبوه معه إلي بلاد المشرق بلاد السلطان (الرصاص) ليكون ـ ربما ـ شاهداً علي بلوغ أبيه ذروة طموحاته.. وزيراً لابن عبيد الله السقاف الطامح بدوره ليكون إماماً علي المحميات الجنوبية.. وعندما لم يتحقق المأمول دفع إبراهيم الثمن مستعبداً لمدة عامين عند الرصاص.. بعد أن تركه أبوه رهينة في حصان ومئة وعشرين ريالاً (فرانصي).. وقد تركت تلك التجربة أثراً بالغاً في نفس إبراهيم وشخصيته لم يفارقه إلي اليوم.. فقد أكدت فيه الميل إلي الــــــتأمل والحكمة كما أنها بذرت البذور الأولي لمواقفه من الظلم والتسلط والحرمان.. وانحيازاته إلي العدالة وشعوره بالمهضومين فقراء ونساء ومظلومين.. وفي تلك المرحلة تولدت عند الحضراني كل الأفكار والمرتكزات الأساسية في حياته، الحزن ـ التأمل ـ الحب ـ الإقبال علي الملذات.

كما أن تلك التجربة كانت دافعه الأقوي إلي التعلم والتفقه والتميز بالثقافة وقول الشعر.. وهو إلي اليوم لا يزال يقول: كنت إبَّان ذاك أستطيع أن أفك الخط قراءة، ولكنني لم أكن أجيد الكتابة، ولو كنت أجيد الكتابة لكان حظي من السلطان أفضل كثيراً مما كان عليه.. أما الانعطافة الثانية: فقد تمثلت في انضمامه إلي حاشية سيف الإسلام أحمد في تعز وكان ذلك في أوائل الأربعينيات.

وعندما انضم إبراهيم إلي تلك الحاشية التي ينضوي فيها نخبة من رجالات اليمن آنذاك من أمثال: محمد محمود الزبيري، وأحمد محمد نعمان، وزيد الموشكي.. وأحمد محمد الشامي، وعبد الوهاب الشامي، ومحمد عبد الله الفسيل، ووالد إبراهيم ـ أحمد الحضراني وغيرهم.. لم يكن طريق الوجاهة أمامه مفروشاً بالورود.
فعلي حظوة والده عند سيف الإسلام أحمد لاقي إبراهيم صعوبات كبيرة في البداية.. وهذا من أغرب ما يمكن أن يتصوره المرء.. لماذا الحضراني بالذات.!؟

ـ كان شاعراً موهوباً.. وهذه وحدها تكفي لولوج ذلك العالم.. القوي الصلة بالشعر..
ـ وكان راوية كأبيه يحفظ الشعر فصيحاً وحمينياً وشعبياً وهذه من شروط الحضور مساهماً ونديماً في تلك المجالس.
ـ وكان فقيهاً بالضرورة .. وهذه لازمة.. لازمة!
ـ وقبل ذلك كان ابن أحمد الحضراني أحد المقربين جداً من سيف الإسلام أحمد.. ثم هو زميل البدر أيضاً.
ـ فما هو السر إذن في تهميش إبراهيم آنذاك؟

أهو طغيان شخصية أبيه.. علي شخصيته واستئثاره بالاهتمام دونه..
أم هي شخصية إبراهيم .. المتأنية.. الحذرة؟
أم هي ترسبات معاناة الطفولة في نفسه؟
لقد كان الحضراني غالباً وبسبب مظهره أو تظاهره.. مُقدراً ممن يعرفونه.. ومُهملاً ممن لا يعرفونه.

كان زملاؤه الشعراء والمثقفون يعرفون قيمته مبدعاً ومثقفاً وإنساناً فكان بينهم مثلهم له ما لهم وعليه ما عليهم.

وكان الناس العاديون خصوصاً الموظفين عند سيف الإسلام أحمد والعسكر والحرس.. يجهلون قيمته ولا يقدرونه حق قدره لاعتيادهم علي ارتباط العلم والثقافة والمواهب المميزة للشخص بالمظهر المزخرف والتعالي اللذين يخلقان الهيبة.. ويضعان المرء في درجته من الإعلاء والتقدير.. وفي بداية حياته ـ في الأربعينيات ـ كان الحضراني يعرف علة نفسه ويعرف أن مزاجه وطبيعته وتأنيه في الأمور قد تحول دون وصوله إلي ما يريد خاصة حين تعلن عن نفسها في غير موضعها.. وكان يعرف جهل الآخرين به فيهجو جهلهم وسوء ذوقهم.. فيما هو يحاول إقناع نفسه ـ غاضباً ـ بتجاوز آلامها لما يحيق بها.

وكل ذلك يمكن فهمه من خلال وقائع وأحداث وملابسات طريفة منها علي سبيل المثال:

* أنه ذهب ذات يوم إلي العرضي ـ مقام سيف الإسلام أحمد ـ آنذاك، وكان من الذاهبين جماعة منهم زيد الموشكي والذاري وأحمد الحضراني والد إبراهيم.. وعند تقدمهم إلي الحاجب.. أذن الحاجب لهم جميعاً ورد إبراهيم ـ استهانة به لفقره ورثاثة ملبسه... وكان رد الحاجب له جديراً بخلق عواصف من السخط والغضب وجحيماً من الألم.. تتفجر وتتحرق بها نفسه وهو يدرك جيداً أنه يجب أن يقنع نفسه بأمرين إن أراد الوصول إلي مطامحه.

أولهما: أن يصبر ويثابر في طريقه غير مبال بما يمكن أن يعترضه من منغصات أو معوقات آنية.. وهذا الرأي من صميم طبيعة الحضراني وسمات شخصيته.

الثاني: أن يكون من جبابرة الحياة الذين تفزع منهم الشياطين ناهيك عن البشر.. ليفرض نفسه علي الحياة والناس ـ حتي لو لاقي حتفه في سبيل ذلك.. وهذا الرأي ليس من سمات شخصية الحضراني ولكنه من ثقافته ومن آنية غضبته وألمه.

الأمر الأول: عبر عنه بقوله:
ليكن همك العلو إذا ما
رمت شأواً من الفخار بعيدا
ثم لا تحتفل أسرت سريعاً
للمعالي أم سرت سيراً وئيدا
ستؤدي ما بين جنبيك للمجد
وتمضي مكرماً محمودا

لاحظ فحوي البيت الأخير ومقدار انسجامه مع تاريخ الحضراني فهو بحق أدي ما بين جنبيه للمجد وكان وسيبقي مكرماً محموداً.
أما الأمر الثاني: فقد عبر عنه بقوله:

دع كل قاص في العباد وداني
لا يثنينك عن مرامك ثان
واقدم علي الدنيا وخض غمراتها
بفؤاد جبار ولطف جبان
واحمله قلباً كالجحيم إذا سطا
تهتز منه فرائص الشيطان
ما لانت الدنيا ولا حدثانها
إلا أمام عزائم الشجعان
هي مضغة بين الضلوع خفوقها
ترتاع منه طوارق الحدثان
ما الرعد إن نبضت، وإن هاجت فما
وقع الحديد وضجة النيران
تقع الخطوب علي جوانبها كما
يقع التراب بصفحة الصوان

وبإمكاننا أن نسمع أصواتاً كثيرة ـ تتردد في هذه الأبيات منذ الجاهلية حتي اليوم الذي قالها فيه الحضراني.. إنها حضور ثقافي تمثلته غضبة الرجل.. واستعان بها ألمه
ألسنا نسمع إذن مثل قول عنترة:

فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

وقول المتنبي:
ردي حياض الردي يا نفس واتركي
حياض خوف الردي للشاء والنعم
إذ لم أذرك علي الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم

مثل هذه النفثات الغاضبة كانت تعاود إبراهيم الحضراني فيعانقها مرغماً لأنها لم تكن طبعاً أصيلاً فيه.. وهي ليست طبعاً أصيلاً فيه عندما يتعلق الأمر به شخصياً، أما عندما يتعلق الأمر بالوطن والثوابت الكبري فإن الحال يختلف تماماً.. والأمثلة كثيرة علي ما كان يعانيه الحضراني من طبيعته ومحاولاته التخلص منها بوصفه واحداً من حاشية سيف الإسلام أحمد الشجاع الجبار الجريء ..الـ?.. الـ?.. الخ تلك الصفات.

وهي أمثلة تكشف إلي أي مدي كان الحضراني يشعر بطبيعته الخاصة كمشكلة.. إلي درجة أن يجعلها موضع مثاقفة وتفكير مع أحد أصدقائه.. وكان الحضراني كما يبدو من سياق الحكاية متلقياً وطالباً للمساعدة علي نفسه.. أما الخلاصة التي انتهي إليها رأي صديقه فهي: أن الجرأة والشجاعة والإقدام قوة طباع يمكن أن تكتسب، وأنه يمكن للمرء أن يعود نفسه عليها ـ فيصبح من أهل السطوة والحضور والهيبة واليد الطولي.. (سياق الحكاية يمكن أن يفهمنا أن ما كان يريد الحضراني أن يكسبه هو ما يمكن أن يعبر عنه شعبياً بـ) حاذق (فهلوي ـ أحمر عين ـ فحْ ـ مفحوس ـ مدردح.(

ولكن طباع إبراهيم كانت تبتعد به دائماً عما يحاول التطبع به.. فتطبيقه لنصيحة زميله تحول إلي نكتة ما زال الحضراني يرويها ويضحك منها إلي اليوم.
فبعد حديثه مع صديقه ذهبا معاً في اليوم الثاني إلي مجلس سيف الإسلام أحمد.. وفي المجلس كان شخص يطوف علي الحاضرين بإناء مليء بالحلوي وكان الحاضرون حسب العادة المتبعة يأخذ الواحد منهم قطعة أو قطعتين وحين خرج الحضراني وصديقه ذاك من المجلس دس الحضراني يده في جيبه وأخرجها مليئة بقطع الحلوي فسأله صديقه.. باستغراب!!:

ـ من أين لك هذا؟
فرد الحضراني.. باعتداد..
ـ أخذتها من الإناء الذي كان يطاف به في مجلس الأمير..
فتعجب صاحبه أكثر وقال له:
ـ وكيف فعلت ذلك؟
فأجاب الحضراني وقد ازداد اعتداده بنفسه..

ـ جرأة وقوة طباع..!
فقال له صاحبه.. ساخراً:
ـ هذه ليست قوة طباع.. هذه قوة بطن..!

***

ثمة قصيدة للحضراني كتبها في تعز عام 1944م.. وهي من أكثر قصائده تعبيراً عن طبعه وفطرته وعما مازجهما من طباع مكتسبة بالثقافة والمثاقفة والتجارب..
والقصيدة تدل علي أن الحضراني كان يعيش أزمة جراء إحساسه بكل ذلك أو جراء اصطراع كل ذلك في نفسه.. وهمه المقيم بالتفكير والانشغال الدائم به.. والقصيدة التي تتكون من خمسة أبيات تأخذ اسمها من الكلمات الأولي في أربعة أبيات منها.. والتسمية وتكرارها في أوائل الأبيات تعطي دلالة واضحة ومباشرة أيضاً.
أنا ثورة كبري تلوح وتختفي
أنا من أنا؟ أنا جذوة لا تنطفي

أنا روح جبار تئن حزينة
تحت الإسار وما لها من مسعف

أنا أنة المسكين تأخذ حقه
كف الغني وما له من منصف
أنا خطرة الصوفي في محرابه
عظمت ففاضت عن نطاق الأحرف

لا الدهر يسعفني بما أهوي ولا
هذي الحياة بها فؤادي يكتفي

***

ثلاثة أحداث تعاقبت، لا شك انها أشعرت الحضراني بنفسه وأخرجته من أزمته.
الحدث الأول: فرار زملائه وأصدقائه الزبيري والموشكي ونعمان والشامي والفسيل وسواهم إلي عدن بعد الحادثة الشهيرة التي غضب فيها ولي العهد علي العصريين ـ منهم الحضراني ـ وهدد بانه سيلقي الله متقرباً بدمائهم فقد وجد الحضراني نفسه بعد فرارهم وحيداً يتوجس من تهمته ولكنه في نفس الوقت يستحوذ علي كل اهتمام السيف أحمد وحاشيته.. فهو الآن الصوت الشعري الذي لا ينافس وعليه أن يغطي كل المناسبات وأن يرد شعرياً علي رفاقه تلميحاً أو تصريحاً.. وأن يتغني بالأمير والإمام.. معبراً في سياق ذلك عن مواجيده ومفهومه للشعر.. ورؤيته للوجود والحب والحياة.. ورأيه في السياسة والأوضاع.. وما يحدث في العالم هكذا نقرأه في قصائد كبيرة.. لمقامات كبيرة ـ كان يتصدي لتغطيتها أكثر من شاعر ـ الزبيري علي وجه الخصوص ـ ومن تلك القصائد قصيدة (في عالم الشعر) التي أنشدها في عيد الفطر سنة 1363هـ 1994م وقصيدة (عواطف) التي أنشدها في ذي الحجة 1363هـ 1944م، وقصيدة ـ حسان أو سلمان ـ التي أنشدها في عيد الفطر سنة 1364هـ 1945م.

وعندما عاد بعض أصدقائه إلي تعز كان الحضراني قد رسخ حضوره في المكان والأذهان.. ولم يعد ذلك الذي يمكن تجاوزه بسهولة، مع ذلك فقد أضاف إلي إنجازه إنجازاً آخر.. وهو الاشتراك مع زملائه في المعارضة السرية للإمام وولي عهده سيف الإسلام أحمد.. وهو ما انتهي بالجميع إلي أحداث 1948م التي جرت الحضراني مع كوكبة من ألمع رجال اليمن إلي غياهب السجون.

وشهدت فترة السجن .. أن وراء طباع الحضراني الهادئة المتأملة.. طباعاً أخري.. فهذا الحزن يخفي جلداً أصيلاً.. وقدرة علي مواجهة مشاكل ومعضلات الوجود عاماً وخاصاً في أكثر مظاهرها حسماً وأهمية وهي مشكلة الموت الذي بدأ يحصد رؤوس زملائه.. وصار هو يتوقعه كل يوم.. في البداية حاول البحث عن مناص يفرُقُ له... من خلال قصائد ضراعة واستغفار وجهها إلي الإمام الناقم الغاضب.. ولم يكن ذلك معيباً في حق الشاعر.. فتلك مواضعات وبوادر حكم بها الأمر الواقع.. وفرضتها ثقافة موروثة وحية.. وفعلها أغلب زملائه إن لم نقل كلهم..

أما حين كشَّرَ الموت عن أنيابه وشعر الحضراني بأن المواجهة لا بد منها ـ فقد أسفرت شجاعته عن نفسها.. وقررت قبل أن يترك هو الحياة أن تبقي هي: أنشودة الشعوب الحية والنفوس الأبية إلي يوم الدين.

كم تحملت في سبيل بلادي
وتعرضت للمنون مرارا

وأنا اليوم في سبيل بلادي
أبذل الروح راضياً مختارا

بعد هذا الموقف الذاتي جداً والداخلي جداً.. تخلص الحضراني تماماً من عقدة الجرأة وقوة الطباع..
وحين خرج من السجن مشهوراً ومقرباً من ولي العهد الجديد كان قد تخلص تماماً من هم التهميش.

وعندها كان في استطاعته أن لا يبالي بما يمكن ان يحدث إذا هُمِّش مرة أخري.. فذلك أدعي لمزيد من الانسجام مع النفس مزاجاً وطبعاً.. ثم إنه أدعي لمزيد من التفكير في الحياة والوجود والناس.. وفلسفة كل ذلك علي نحو يريح النفس.. شعرياً وسلوكياً..

فبعد الثورة كان الحضراني يراقب باندهاش سنوات الحرب والعقم ـ كان الانحراف عما تمنوه جارحاً إلي حد الصدمة ـ وعندما انتهت الحرب بمفارقة عجيبة بالنسبة للحضراني شخصياً، فالشاعر الكبير والمناضل الذي يحفل سجله بكل تلك السوابق الإبداعية والنضالية يجد نفسه مغترباً في الكويت ـ مجرد مصحح لغوي في مجلة ـ أما ما جعل وجع ذلك أكثر مما يحتمل فهو أن يعيش هذا الوضع بالذات في الفترة التي تولي الحكم فيها رفاق الصبا والشباب وزملاء الحرف والفكر ورفاق النضال والسجن.

كان ثلاثة من أصدقاء الحضراني أعضاء في المجلس الجمهوري بعد عام 1967م.. القاضي عبد الرحمن الإرياني ـ الرئيس ـ وأحمد محمد نعمان وأحمد محمد الشامي..
وكان آخرون وزراء في ذلك العهد منهم: أحمد جابر عفيف.
لقد وجد الحضراني نفسه هناك في غربة قاسية متعددة الوجوه ـ غربة عن الأهل والوطن، وغربة أو (غرابة) الوضع غير المناسب الذي وجد نفسه فيه..
وغربة الأسي لأن أحداً من أصدقائه الذين طالما تقاسم معهم السراء والضراء لم يتذكره..
وقد جاء شعره في تلك الفترة معبراً عن كونه قد وقع ضحية لأشياء كثيرة ـ ولذلك أصبح أكثر حزناً وأكثر تأملاً ولكنه لم يكن ساخطاً... ولا واقعاً تحت وطأة الشعور بدونية التهميش والخذلان.

وكان منحي التأمل عنده في تلك الفترة لا يقتصر علي باعث معين.. كان يتأمل داخله وخارجه.. يتأمل الثوابت الكبري والصغائر العابرة.. بمعني آخر صار الحضراني في تلك الفترة متأملاً عاماً.

وكانت أعراض التأمل تتبدي هدوءاً وتسامحاً إلي درجة تَلَمُّس الأعذار.. ناهيك عن تلمُّس الحكمة من كل حال.. واتخاذ العبرة من كل وضع.. وهذا ما جعل قصيدته الشهيرة ـ الندامي ـ تتخذ هذا المنحي الذي يطل بأحزانه من علٍ شفيفاً ونفاذاً بعتابه وحزنه وألمه وابتسامته الساخرة ـ بدلاً من الهجاء القاسي وكيل اللعنات..

الندامي، وأين مني الندامي
ذهبوا يمنة، وصرت شآما

يا أحباءنا تنكر دهرٌ
كان بالأمس ثغره بسَّاما

ما عليكم في هجرنا من ملام
قد حملنا عن الليالي الملاما

وطوينا علي الجراح قلوباً
دميت لوعة وذابت غراما

سوف يدري من ضيع العهد أنا
منه أسمي نفساً وأوفي ذماما

نحن من لقَّن الحمام فغنَّي
ومن الشوق عطَّر الأنساما

والندي في الرياض فيض دموع
من جفون لنا أبت أن تناما

كم سجا الليل والجوانح هيمي
بتباريحها تناجي الظلاما

الندامي، وأين مني الندامي؟
ذهبوا يمنة وصرت شآما!!

الرمال العطشي وتلك نفوس
تتلظي صبابة وهياما
هومي يا رمال ما دامت النعماء
يوماً كلا ولا البؤس داما
قد بذلنا النفيس من كل شيء
فجنينا الأحلام والأوهاما

يا ليالي الأحلام عودي فإنا
قد عشقنا برغمنا الأحلاما

نبتدي حيث ننتهي ما بلغنا
من مرام، ولا شفينا أواما.

القدس العربي
6-12-2007