بين  «ذهنية الوصاية» و «حراس القيم الميتة»

(مثقفون يرون أن ما يحصل هو نتيجة عدم وعي بتوجهات «الثقافة» الجديدة)

شمس علي
(السعودية)

طالب مثقفون سعوديون برفع ما أسموه بـ «الوصاية» عن فعاليات المؤسسات الثقافية، كما طالبوا بأن «يترك أمر تقويم الفعاليات للناس»، معبرين لـ «الحياة» عن استيائهم من «موجة المنع» التي طاولت أنشطة ثقافية في عدد من الأندية الأدبية في الأحساء وحائل والمدينة، إذ منع في الأول مناقشة رواية.

وتم إيقاف عرض فيلم بسبب احتوائه على موسيقى تصويرية، وما نجم من ذلك من «اضطرابات» داخل أروقة النادي، فيما شهد الثاني محاولة منع شبيهة طاولت فيلم «الظلام»، بيد أنها لم تنجح. وعد المثقفون مثل هذه المحاولات «نوعاً من الوصاية في غير أوانها»، و«قراءة مغلوطة للواقع».

الأصل هو الإباحة وليس المنع

اعتبر الشاعر محمد العلي ما حدث في بعض الأندية أخيراً «شيء مرتقب». وعزا ذلك إلى «وجود حراس القيم الميتة، من ذوي القنوات المتعددة والتمويل والدعم»، ووصفهم بأنهم «يستميتون في الدفاع عن مصالحهم المادية قبالة نخبة من المتطلعين إلى خلق وعي مجتمعي»، مؤكداً أن الصراع بين هذين التيارين «سيظل قائماً ومستمراً، ولن ينتهي إلا إذا عم الوعي كل أطراف المجتمع».

بدوره، اعتبر الناقد الدكتور سعد البازعي المسائل الرقابية «ليس مما يمكن حسمه بالسهولة الظاهرة». وأكد أن «هناك ما لا ينبغي طرحه من آراء أو أعمال». واستدرك بأن «المعايير التي بمقتضاها يحدد ما ينبغي وما لا ينبغي متغيرة ونسبية».

وأشار إلى أن «الأصل في الثقافة - كما هو الحال في الدين - هو الإباحة، وليس المنع». وافترض البازعي أن يكون «باب الإباحة أوسع بكثير من الباب الآخر». وطالب بأن «تعرض الأعمال، إذا حققت مستوى أدبياً مقبولاً، وليحكم الناس عليها». وتساءل «هل السماح بمناقشة رواية أو فيلم سينمائي يعني بالضرورة القبول بما فيه أو تبنيه؟». وأبدى استياءه من أن «كثيرين يخلطون على هذا المستوى، ويرون أن مجرد السماح يعني الإجازة، أو الموافقة».

ولفت إلى أن الأندية هي «مجمع أشخاص كثيرين، مختلفي الأذواق والآراء». متسائلاً «إذا انتفى التعارض الصريح الصارخ مع مبادئ دينية، أو خلقية أساسية، فلم التشدد فيما لم يخرج عن المألوف بنسبة لا تؤذي أحداً؟».
وأجاب «سيقال: ومن الذي يحدد التعارض المشار إليه؟»، منبهاً إلى أنه والحالة هذه «يمكن أن ندخل في نسبية مطلقة وعدمية، لأن لكل معاييره ورؤيته الخاصة». وأكد أنه «لا بد من أن يكون هناك مجلس إدارة وطريقة ديمقراطية في اتخاذ القرار تجاه هذه القضايا، وغيرها» وخلص إلى نتيجة أن «من يطالب بالديمقراطية عليه أن يرضى بنتائج التصويت، مهما كانت، حتى لو أدت إلى المنع، والمزيد من الرقابة المشددة».

الخروج على كل الوصايا

أما الشاعرة الدكتورة ثريا العريض، فرأت بأن الأمر «يحتاج إلى شجاعة وإيمان بأهمية الخروج من ظل كل الوصايات، تحت أي مبرر يخفي حقيقة الدافع لمحاولة فرض الوصاية، ورغبة التسلط والتحكم في أفعال وقرارات الآخرين»، معتبرة أن الوضع «لا يحتاج فقط إلى المواجهة الصارخة، بل إلى دراسة ووزن الموقف بوعي ونضج». وعزت ذلك إلى أن «الكثرة أحياناً تغلب الشجاعة».

وتابعت بأنه «في هذه الحال؛ فإن الشجاعة يمكن أن تكون في غير موضعها، وتنتهي بتهور يعود على صاحبه بالوبال»، مؤكدة أنه في مثل هذه الأمور «علينا أن نتعلم الحكمة من الطبيعة، والحكمة أهم من الشجاعة». وفصلت القول بأنه «لا يمكن أن تنجح في الزراعة، إذا غرست بذورك في غير وقتها، كما لا يمكن صيد الحيوانات المفترسة إذا خرجت وحيداً تواجه قطعانها الهائجة».

عدم القراءة الواعية للتوجهات الجديدة للثقافة

فيما رأى القاص والناقد أحمد بوقري بأن «مصادرة الرأي والإقصاء، سواءً جاءت من داخل المؤسسة الثقافية، كما جرى في نادي الأحساء، أم من خارجها كما حدث في نادي حائل، هو نتيجة لعدم القراءة الواعية والصحيحة للتوجهات الجديدة لوزارة الثقافة والإعلام، وكذلك للمناخ الجديد الذي يكتنف المشهد الثقافي» والذي هو في طور التجدد والتراكم»، معتبراً بأنه «على رغم أن المشهد الثقافي يعيش حالاً من التناقض مع التشدد، إلا ان الأخير ما زال يتمتع بقاعدة شعبية عريضة».

العيش بين الهاوية والمرتفعات الشاهقة

وقال الشاعر والناقد محمد الحرز إن «الذين لم يتحرروا من ذهنية الوصاية لا تجد في قواميسهم اللغوية سوى الكلمات، التي تحمل طابع العنف والتدمير وإلغاء الآخر.لا يتعايشون سوى مع أنفسهم وأوهامهم ومريديهم ممن لا يملك إرادة ولا رغبة في التحرر من قيودهم. هم أشبه بالريح التي تجلب معها الغبار، لا لتعمي الأبصار، ولكن لتعمي البصيرة التي لا يملك الناس سواها عندما يريدون الخروج إلى الفضاء الرحب للتفكير والتأمل».
وشبههم بـ «الفطر» عندما «يتناسلون في مشهدنا الثقافي، لهم في كل موقعة أو حادثة أثر تسير به الركبان. وجهاد بارز في لجم الآخرين الذين يختلفون معهم مجرد اختلاف في الرأي لا أقل ولا أكثر.

هم بالتأكيد لا يــدركون ماذا يجـــري في العالم من حولهم، وماذا يحدث فيه من تحولات على جميع الأصعدة والمســتويات والعــلاقات.همهم الأكبر أن يحافظوا على جهلهم، وعلى قداسته من التدنيس والرذيلة، وكأنهم يحافظون على كنز فقد قيمته من تقادم الزمن عليه. هكذا يعيش هؤلاء في الحد الفاصل بين الهاوية والمرتفعات الشاهقة. لذلك ليس غريباً عليهم أن يبذلوا ما في وسعهم من جهد في منع كتاب هنا، أو أمسية هناك. وياليتهم وفروا جهدهم لما هو أنفع في الإنتاج المعرفي الذي يتفاخرون بحمله من خلال الألقاب والشهادات الجامعية العليا التي يدبجون بها أسماءهم في كل إطلالة وحديث».

ويرى الحرز أنهم «بعيدون كل البعد عن هموم المعرفة وطرقها الملتوية والصعبة. نحن نقول هذا الكلام لا لكي نمارس عنفاً كلامياً مضاداً، لإلغاء الآخرين وحقهم المشروع في معتقداتهم والدفاع عنها. لكن أليس من جهة أخرى يحق لكل فرد في هذا الوطن أن يتساءل بماذا يختلف هو عن غيره من أبناء وطنه؟ وذلك في حدود التواصل والحوار. لكن للأسف تعلمنا من تاريخ الثقافة أن من يملك سلطة الخطاب هو الذي يفرض رأيه، ليس في تدجين الفكر فقط، وإنما في تأويل الحياة لصالحها ومكاسبها.

الثقافة لا تزال مستهدفة

الناقدة لمياء باعشن تعتبر إن هذه المعارضات والاعتراضات «متوقعة وعادية، فمن الذي توقع أن تقوم الأندية بعرض أفلام، ولو كانت أفلام كرتون، وأن يمر الأمر بسلام؟ الثقافة بمجملها كانت وما زالت مستهدفة ولن نتخلص من هذه الأزمة إلا بعدم الرضوخ، فكل خطوة تراجع استســلامية ســتقوي شوكة المعارضين».

وتذكر أن هناك مشكلة «في القيام بأية حركة ثقافية على مستوى جماهيري، وكأن المهم هو عدم الاعتراف بقيمة الثقافة على هذه الأرض، فالغرض لا يمكن أن يكون وصائي أو حراسة للفضيلة، لأن الكل يعلم جيداً ما يشاهده الفرد السعودي على الفضائيات، وقبل ذلك على أشرطة الفيديو، وقبل ذلك على شاشات السينما المنزلية، ثم إن الفرد السعودي يسافر طوال العام، ويقرأ ما يقرأه الناس ويشاهد ما يشاهده العالم من أفلام ومسرحيات ومهرجانات موسيقية، أي أن المنع الداخلي لا ينفع في تحصين الفرد السعودي من التعرض لما يعتقد أنه مفسد لدينه وخلقه».
وأضافت: «إذا كانت المسألة شخصية والإنسان من حقه أن يمارس حرياته في منزله أو خلال رحلاته خارج البلاد، فلماذا يسلب حرية الاختيار في الساحة العامة المحلية؟ وأمام هذا التناقض نكتشف أن المسألة لا تتعدى حدود حب السيطرة والرغبة المتزايدة في التحكم وفرض الرأي الشخصي على الآخرين ولو بالقوة».

ممارسات إقصائية لأطراف ثقافية

وتعتقد الشاعرة بديعة كشغري أن ما يحدث «مرده إلى أن الغالبية من مثقفينا في الأندية الأدبية، مثقلون بإرث لا يعرف معنى التثاقف أو الانفتاح على منتج الآخر الإبداعي.

وهم يتعاملون مع منابر الأندية وكأنها أسوار، يحجر وراءها كل ما يتعاطى مع الواقع الثقافي المعاصر! هم - ولردح طويل من الزمن - قد ادمنوا خطاب «الوصاية الثقافية»، والتي هي في رأيي جزء لا يتجزأ من «الوصاية المجتمعية الكبرى» في إطارها الوعظي والارشادي! وإلا كيف نفسر اساليب المنع لعرض فيلم ثقافي اوقراءة رواية، واللجوء للتهديد وما إلى ذلك في حين اننا - كمجتمع - نعيش عصر منظومة العولمة، التي تجتاح مناحي حياتنا شئنا ام ابينا...؟».

وتقول إن الثقافة بمعناها الأشمل «هي شبكة من المعارف والفنون، التي تغتني بتلاقحها مع الآخر، ونحن حين نمارس أساليب إقصاء الآخر فإننا لا نقصي سوى أنفسنا».

وتتعجب كشغري من هذه الممارسات الاقصائية لبعض الأطراف الثقافية «في الوقت الذي تنحو فيه بلادنا نحو الانفتاح، ويتبنى خادم الحرمين الشريفين حوار الأديان ويدعو لنبذ الانغلاق وضيق الأفق». وترى أن «مجرد فكرة رفض الموسيقى التصويرية لفيلم تخيفني، إذ إن مدلولاتها أعمق من ذلك بكثير، وذلك يدل على هشاشة البنية الثقافية لدى بعضهم».

الحياة
10/06/0820