مقاربة نقدية حول ثلاث تجارب «شابة»

مليحة الشهاب
(السعودية)

الحياة نثر فاتن تُشَكِلّ إغواء لشاعر يتقدم كمرآة لفتنة الأشياء، وأمام هذه الوفرة المرتبكة من التجريب نتيجة لفقدان أو ضعف الوعي الشعري لدى مجترحي قصيدة النثر على وجه الخصوص، نجد أن شعراء جازان عبر نماذج مضيئة يتشكلون نسقاً استثنائياً يعيد ثقتنا بقدرة الشعر التعبيرية، فالشعر زلة لسان مهيبة كما يصفه غاستون باشلار، هذه الزلة تنبهنا إلى جمال الحياة الغائب عن مداركنا الحسية، وتمنحنا الفرصة لقراءة الأشياء من حولنا بطريقة مختلفة، وتضعنا في مواجهة لتأمل ذواتنا المتوارية خلف ضباب من الغياب.

حبيبي... تشظيات جوهر الشعر

الحداثة ليست شكلاً ثابتاً أو قيمة مستقرة، ومن يجترحها سيدخل في متوالية لا نهاية لها، لذا يمكننا القول بأنه بناء على هذا المعيار فإن محمد حبيبي شاعر حداثي، حيث تعددت تمظهرات شعرية حبيبي، فله ثلاثة دواوين مطبوعة، وتجربتان فريدتان من الشعر المصور.

يندر أن تجد شاعراً يمنحك ذاته وشاعريته بروح مختلفة وصياغة مغايرة في كل ديوان كحبيبي، فهو، نموذج للشاعر القلق المخلص لشاعريته، وصورة عن الشاعر الذي لا ينام مطمئناً على ما أنجزه أو على ما امتلكه من ناصية الشعر، لذا جاءت تجاربه طيفاً من التباين، فكل ديوان تجربة قائمة ومنفصلة عن التي سبقتها، وكأن حبيبي بتجاربه المتباينة يريد أن يؤكد النظرية القائلة بأن الشاعر المعاصر يؤمن بأن لا وجود لفكرة خارج حدود الشعر.

يدعو الشاعر الألماني شليغل إلى تحطيم الحواجز بين الأجناس الأدبية، لكن حبيبي في حدقة تسرد وغواية المكان تجاوز هذه الدعوة، وذهب بعيداً ليقدم نموذجاً إبداعياً عن تجانس وتكامل الأجناس الفنية، عامداً إلى توريط المتلقي في تواشج سمعي وبصري مع النص الشعري لتصعيد الحس الجمالي، فتتوالد منه جملة من العلاقات الشعورية والحسية المتنامية، لندرك تحولاً ابستملوجياً في العلاقة بين الفنون الإبداعية، لتعلن عن تدشين مرحلة جديدة في حداثتنا الشعرية.

حبيبي في أيقونته الشعرية يقدم التجاوز على الساكن والممكن على الكائن، لذا تتبدى تجربة غنية ملغومة بقدر ما هي جريئة ومتجاوزة، وحبيبي يستعرض متناً شعرياً متجاوزاً يصوغه على منوال الداخل والخارج، الذاتي والمكاني، فالذات تحضر في تشكيلات مفردات القصيدة كائناً يصوغه الحنين والإحساس بالاغتراب، والمكان يتجلى عبر لغة ذات زخم جمالي جنة غائبة.

«أن اللا مفهوم في القصيدة هو الشعر» هذا ما يقرره الفيلسوف الفرنسي ميشل دوغي، وحبيبي في دواوينه يقدم التباساً للملتبس أصلاً، ربما ليأخذنا إلى الجوهر، أعني جوهر الشعر في كينونته الإبداعية وانزياحاته الذهنية بمرجعية قائمة على وعي شعري عميق، لذا جاءت مغامرته الشعرية حاسمة الموقف التاريخي لمصلحتها.

الحازمي... مرايا شعرية للطبيعة

أن تقرأ لعلي الحازمي يعني أنك دخلت منطقة خضراء بتدرجات عميقة في تماسها مع الطبيعة، فقصيدته نبتة من المروج، وشجرة في برية تعبق برائحة المطر، وهو بذلك يؤسس للقصيدة قيمة جمالية جديدة تحمل سمات الطبيعة بمكوناتها المختلفة، فالطبيعة عنده ليست فقط مصدراً للإلهام ومساحة للبوح وفضاء للتجلي بل هي لبنة أساسية في تشكيل القصيدة. والشعر عند الحازمي حالة استثنائية من التوهج خارجاً من نار التكوين الأرضي، ففي قصائده ذلك الشيء الذي تحسه نابتاً من الأرض، لذا تأتي القصيدة وكأنها تلويحة السعف عند مصافحة النسيم، أو همهمة الشجرة حينما يقبلها الندى.

وأمام طغيان الطبيعة بمفرداتها على قصائد الحازمي، بدت وكأنها نافذة نتأمل من خلالها وجوه الطبيعة والوجود في مناخ شعري وعمق جمالي، وذلك نتيجة لشغف الشاعر بتعدد الألوان والأصداء من حوله، متزامناً مع عمق وعيه بالأرض ومكوناتها كرموز لها خصوصيتها الجمالية وأبعادها المعرفية وعمقها الدلالي، فعمل على توظيفها بكثافة لتمنح القصيدة بعداً جمالياً وعمقاً دلالياً.

وإذا كانت الطبيعة مادة تكوين القصيدة عند الحازمي، فإن المرأة هي روحها وغاياتها.. وإذا كانت للحازمي عين حساسة تحتفي بالجمال الساكن في الطبيعة، فإن له إصغاء مرهفاً لتفاصيل الأنثى، لذا فالحازمي ينسج قصيدته على منوالين، المرأة والطبيعة، وعنده تتداخل عناصرهما وتتشابك فتغدو الواحدة تعبّر عن الأخرى.

الحازمي يفتح أمام القارئ مقترحاً شعرياً ناجزاً يصب في مصلحة القصيدة، حيث القصيدة لم تعد في الأساس والمقام الأول انجازاً لغوياً بوصف اللغة اللاعب الأساسي في تكوين النص الشعري، بل إن اللغة معه تبدو حيادية في عدم تطرفها في الامتدادات الغريبة والصادمة، وليست أيضا أداة لصورة الشاعر، هي بين حركة الطقوس الشخصية لذات الشاعر وانسيابية البوح وغناء وغنى الصورة، إضافة إلى استفادة الحازمي من الطاقاتالكامنة في السرد، بوصفه الأقرب لتداعيات عذرية البوح، من دون أن يشعرك بوجود ذلك الانشطار التام الذي تجابه به بعض القصائد قارئها.

يحيى خواجي... ظل له جاذبية الضوء

يبدو خواجي في تجربته الأولى عبر ديوانه «حتى انكسار الماء»، يحاول الخلاص أو التخلص من تركيبته التفعيلية، وإعادة برمجة قدراته الشعرية، فعلى رغم وعيه بجمالية التكثيف البنائي كرهان حداثي، وقدرته على اجتراحه كخيار حديث غني ومتجاوز، إلا أنه يقارب قصيدة النثر باسترابة وتردد، وهذا القلق الفني لا يقدم لنا صيغة نهائية لتشكلات الوعي الشعري عند الشاعر خواجي، لكنها تنبئ عن ذات جديرة بمغامرة الشعر تصوغ نصوصها اشتغالاً ضمن مقاربة لفن الحداثة؛ نتنبأ أن ينتج منها نسق خاص يحمل بصمة فريدة.

وما يميز خواجي أن عدسته الشعرية تلتقط المشهد من زاوية لا يدركها غيره، فتُشَكّلْ عند اللحظة الأولى إرباكاً للمتلقي، لكنه يبقى أسيراً لها ترغمه على إعادة مراودتها حتى يقبض على جماليتها الفنية، والقصيدة عند خواجي ليس لها عنوان بل عناوين عدة، وكأن القصيدة تتمرد على القصيدة، وكأن القصيدة تضيق ذرعاً بالعنوان فتشطر ذاتها إلى تشظيات عدة.
خواجي تجربة شعرية ليس فقط لم تنجز مشروعها الإبداعي، بل لم يكشف لنا بعد عن كل ملامحها، لكنها إشارات وعد كامن في الظل.

الحياة
22/01/2008