عبد المنعم رمضان
(مصر)

عبدالمنعم رمضانأعرف أنني أخاف من الموت، أعرف أنني أشم رائحة أقدام ملاك الموت، واسمع خطواته، ما دام الميت لم يقم من قبره أربعين يوماً بعد، لذا سأحتال على نفسي، ماذا يمنع أن أفكر في رسم لوحة، ربما أستطيع أن أواجه موت عزيز مصر، موت رجاء النقاش، ربما أستطيع أن أنشغل وأغفل عن الموت نفسه، منذ زمن قريب آلمني الموت في أسامة الدناصوري وفي سهير جابر عصفور، ماذا يمنع أن أفكر في رسم لوحة، ماذا يمنع أن أدوِّن بعض الوصايا خشية أن أنساها:

  1. أن تكون اللوحة كثيرة الصراحة قليلة الاحتشام.
  2. أن أفرد اللوحة على قلبي ولو تهرَّأ.
  3. أن تكون كلاسيكية بالأبيض والأسود.
  4. أن تمتلئ بالاغيار كأنها ليست عن رجاء، كأنها ليست مرثية.
  5. أن تكون بغير دموع.
  6. أن تحاول التهكم لا الضغينة لعلها تقاوم.
  7. أن تدرك أن من بنى عائلة بنى وطناً.
  8. أن تعمد الى الضحك، أن تضحك...

بقيت وصيتان من الوصايا العشر، يطمئنني ألا أفصح عنهما، حسناً ها أنذا أمام مهمة أكثر صعوبة مما كنت أعتقد، إنني أفكر في رسم لوحة، يمكن أن تكون لوحة العائلة، مباشرة كالفوتوغرافيا، وليست مباشرة كالخوف من الفوتوغرافيا، خصوصاً أن عائلة النقاش اشتهرت بفضله كعائلة ثقافة، كعائلة بنّائين، مات المؤسس الأول عبدالمؤمن النقاش، المدرس الإلزامي والشاعر العمودي كما رووا عنه، أخبر خيري شلبي في مسارّة من مساراته أن آل النقاش شاميو الأصول، تمتد قرابتهم الى رائد المسرح سليم النقاش، وأن الفن والجمال يسريان فيهم بالوراثة، بعد موت عبدالمؤمن أصبح رجاء الأب الثاني لإخوته، غمسهم في الثقافة فانغمسوا، وكلهم تركوا أثراً أو بعض أثر، سأرسم رجاء بحسب صورته في قلبي، عن يمينه تجلس سيدة المقام، سيدتنا التي قاسمته حياته وبيته وذريته، لا بد من أن تكون هادئة، في رداء أبيض، ووشاح أبيض، وحذاء أبيض، وفي صميم اللوحة، وفي فضائها أيضاً كأنها الملاك الحارس، هكذا يكونان رجاء وهانية، وهكذا يلتف حولهما إخوته، أولهم وحيد، سأحاول أن أرسمه شاباً وجودياً بعض الشيء، ماركسياً بعض الشيء، فناناً كل الشيء، فوق ركبته اليمنى حصيلة عمره القصير، مسرحية «يرما» للوركا، «وردة لكل عام» لتنس وليامز، «أيها الرجل كم انت جميل» لجيرودو، «تاج على ميتة» لمونترلان، «نساء طروادة» لسارتر، «ثورة ماو الثقافية» لألبرتو مورافيا، الخ... بكف يده اليمنى يسند كتبه، يخشى عليها من السقوط، وباليسرى يمسك يد ابنته سها، فيما تتبعثر تحت قدميه صفحات كتاب يضم بعض مترجماته المتاحة جمعتها المحررة الناقدة وكتبت مقدمة غير ضرورية، وصنعت لنفسها مؤلفاً وهمياً ومكافأة فعلية، هي ذي مصر، الأكيد أن المجلس الأعلى للثقافة طبعه من دون أن يتحرى الكمال والدقة اللازمين، والمصادفة أن هذا بعض ما جرى لصلاح عبدالصبور شريك وحيد في ترجمة «يرما»، عندما عهدت الهيئة المصرية العامة للكتاب الى أحدهم أن يشرف على تحرير أعمال صلاح الكاملة، فجاءت خالية من أعمال أساسية، منها ترجمته لمسرحية إليوت «جريمة قتل في الكاتدرائية»، هي ذي مصر، سأرسم أُختَيْ رجاء، السيدتين فريدة وأمينة، اشتركتا مع زوجيهما في إصدار جريدة الأهالي في عصرها الذهبي، كنا نسميهم تحبباً عصابة الأربعة، تعرّفت على أولاهما أوائل الثمانينات من القرن الماضي، بسبب جدل حول ظاهرة الشيخ إمام ورفيقه، مثلت في هذا الجدال دور التحريفي المجّدف، لعله دور سيلازمني، وعلى مر الأزمنة التالية كانت فريدة تخايلني في صورة امرأة رصينة لا تترخَّص ولا تتخلى، امرأة مؤمنة، أما أمينة فقد لقيتها مرة واحدة، وحفظت ملامحها، لم نتعارف ساعدتني في استلام مكافأتي عن قصيدة نشرتها الطليعة الأدبية العراقية، وبعدها انصرفت لتظل حاضرة في ذاكرتي كأخت لرجاء، في اللوحة سأرسم فكري جاري الطيب الذي أراه فأفرح لأنه يذكرني برجاء، ولأنه هو نفسه يستحق أن يكون باعثاً على الفرح، سأستعين بمن يعرف أخوة رجاء الآخرين، عطاء وعاصم، وبمن عرف بهاء، سأرسم في زاوية من اللوحة الابن والابنة، سميح ولميس، رأيت سميحاً ليلة العزاء، أشهد أنه أجمل من سمية سميح القاسم، ربما لشبابه، ربما لأنه لا يكتب الشعر المناضل، أشهد انني تحاشيت النظر إليه طويلاً، تحاشيت انهياري، سلَّمت عليه وقبلته بسرعة، وعبرت، سأرسم لميس وكأنها المحبة التي كانت تجري في عروق رجاء، والتي ستدوم بيننا، اللوحة ما زالت تتسع لآخرين، الأصهار الأعلام، زعماء اليسار الذي علمنا أن نحب ما يجب أن نكرهه، حسين عبدالرازق زوج فريدة، رجل محافظ، ماركسي محافظ، أحلم أن تكون لوحتي ناطقة، لذا سأحاول أن أرسم حسين عبدالرازق في حال صمت، طريقته في الكلام، لا أعرف هل هي فطرية أم مكتسبة، إن كانت الأولى فلا لوم لأنه خطأ الفطرة والطبيعة، وإن كانت الثانية فكل اللوم لأنه خطأ الناقل، طريقته تعتمد البطء من دون لجلجة، تعتمد اليقين، يعرف ما نجهله، فيتباطأ بطء الحكيم المستجد في الحكمة، لا أظن أن التاريخ لديه وقت فراغ كي يقف تحت لسان أي كائن حكيم، سواء كان لسان حسين أو لساني، أحياناً أظن أن أذن التاريخ أصبحت مسدودة، يا للأسف حسين عبدالرازق يكلِّم الفراغ، يكلِّمه بأرستقراطية كورييل، سأرسم صلاح عيسى زوج أمينة مع بعض الرتوش، كأن أبرز شعبويته، كأن أضُيف إليه لغداً مثل لغد فؤاد سراج الدين، كأن أحيطه بأحلام سقطت من كيس محمد حسنين هيكل، كأن أجعله شاباً لم يدخل بعد حقبة التسعينات من القرن الماضي، كأن أراه شخصاً لم يستفد من التماثيل المكسورة التي حكى عنها رجاء، كأن أراه السجين الذي يزهو علينا بسجنه ويعيّرنا لأننا لم نسجن مثله، سأرسم صلاح عيسى مع بعض الرتوش، كأن أجعله يحمل فوق رأسه عبء كتبه البديعة التي كتبها أيام ما قبل التسعينات، الثورة العرابية، مثقفون وعسكر، وحكايات من مصر، أو من دفتر الوطن، سأحاول تصحيح القصيدة الفيروزية التي استهل بها هذا الكتاب، فأخطأ وأصرّ على الخطأ، عادة مصرية يسارية قديمة، أصرَّ على إسقاط ياء الجمع وتدمير الإيقاع، قسماً بالمبدعي سبباً، يا حبيبي إنك السبب، المبدعي بالياء بعد العين يا عم صلاح، أما كتابه الجميل رجال ريّا وسكينة فغير مسموح به لأنه من الزمن الآخر، زمن ما بعد التسعينات، أيضاً سأرسم صلاح عيسى في حال صمت لا يقدر عليه، أولاً من أجل أن أعذِّبه وأعلِّمه الصبر، فأنا سيد اللوحة، وثانياً لأنه عندما يتكلم تشعر بحشرجة من كان يتظاهر وتوقف فجأة، عند حدود التسعينات، تشعر أنه ابتلع الدنيا، وأنها وقفت في حلقه، ومع ذلك يطمع في المزيد، هكذا أحتال على نفسي، سأرسم الحائط الذي يستند اليه رجاء بظهره، سأعلق صورتين فقط، لعبدالوهاب، وأم كلثوم، سأعلق قصيدتين: الى اللقاء، وقصة الأميرة والفتى الذي يكلّم المساء، للشاعر أحمد حجازي، في الركن الآخر من البهو، سأعاني صعوبة كيف يمكن أن أقنع أحمد حجازي بالجلوس في طرف اللوحة، سأرسم الطيب صالح واسماعيل فهد اسماعيل، أحدهما صوفي شرب من ماء الوجود، وما زال يشرب على أمل أن يسكر، والآخر صوفي شرب قطرة فسكر، وغاب، سأرسم محمود درويش وسيماً ونجماً وساحراً، وراءه سحابة سببتها الأنفاس الحرَّى للمفتونات به، سأحتجز لمحمود مساحة كبيرة تكفي أن يصطحب معه الكون كله، فأبرز مزايا محمود أنه جاهد في سبيل لغته ووطنه وقهوة أمه وقرية البروة والشرق وأستراليا وغانا، وكتب الله له التوفيق، فعرف في النهاية، أنه شاعر، وأن المتنبي شاعر، وأن معاوية شاعر، وفاروق جويدة شاعر، وأن الأرض أرض، والسماء سماء، والماء ماء والهواء هواء، في الركن البعيد مجلات الهلال والإذاعة والتلفزيون والكواكب والدوحة، سأرسم شخصاً يشبهني، يزعم أحياناً أنه شاعر، وأحياناً أنه ورّاق، ويزحف إما مثل نملة وإما مثل سلحفاة على صفحات المجلات ويتأملها، وبعد أن أنجح في إخراج النملة أو السلحفاة من اللوحة، أهدأ، لأنني أوشك أن أنتهي من تفاصيل اللوحة، لكني سأشعر أن حيلتي لم تنجح، انني أصغر من الموت، انني ما زلت حزيناً، انني هربت من رجاء داخل اللوحة، فانتظرني خارجها، انتظرني وحده، لأن الإنسان يموت دائماً وحده.

الحياة
24/02/2008