حسين بن حمزة

غسان زقطانإنه واحد من عتاة الإيقاع، لكن ذلك لم يمنعه من الكتابة بلغة اليومي والمهمل. الشاعر الفلسطيني الذي برز في السبعينيات، نجح في ردم الهوّة بين قصيدة التفعيلة والحياة، بأشيائها العابرة وتفاصيلها الحميمة. قراءة في مجموعته الجديدة «كطير من القشّ يتبعني» (دار الريس)

بصحبة شاعر مثل غسان زقطان (1954)، لا يحتاج القارئ إلى أن يسأل نفسه إن كان ما يقرأه هو شعر تفعيلة أو قصيدة نثر. الأمر سيان حين يكون الشعر الحقيقي هو أول ما يجده، وهو يطالع ديوانه الجديد «كطير من القشّ يتبعني» (دار الريس).

الشعر الذي يتصيّده له نفوذ، سرعان ما يجد طريقه في التأثير على القارئ. ينبغي أن نضيف هنا أنّ دُربة هذا الشاعر الفلسطيني، ومراسه الطويل في التعاطي مع المفردات، سواء في معاجمها أو في مخيلته، تجعل المفردات نفسها تنقاد من تلقائها إليه، قبل أن يبذل جهداً كبيراً في اقتفاء معانيها وتقليب ممكناتها الاستعارية والبلاغية.

ما إن تبدأ بالقراءة حتى تغريك القصائد بالاستسلام والتلذذ بمتعة التلقّي. القصائد تحترم ذكاء القارئ وخياله، وحتى متطلباته الشخصية وتوقّعه لما ينبغي أن يكون عليه الشعر. ينجح زقطان، ليس في محو المسافة التي تفرضها شروط التفعيلة مع القارئ، حتّى لو كان من الذين يفضّلون «قصيدة النثر». إنه واحد من عتاة الإيقاع، وأحد شعراء التفعيلة القلائل الذين لا يُسألون عن تفضيلهم للوزن على النثر.

هذه واحدة من خصوصيات تجربة زقطان الفارقة والحاسمة. لقد اهتدى صاحب «بطولة الأشياء» (1988) إلى حلّ حيوي لمعضلة مستديمة تتمثل في أنّ قصيدة التفعيلة غالباً ما تكون مقترنة بعلوّ النبرة، والتفجّع البلاغي والدرامي، حيث يتضاعف حضور الوزن على حساب مرونة المعنى وتموجّه. الوزن، عادةً، يلوي عنق المعاني ولا يمنح الكلمات حريتها الطبيعية. ولكن إذا فكرنا ملياً في الطريقة التي يكتب بها زقطان قصيدته، سنجد أن الوضع مختلف. ثمة شغل دؤوب وذكي على ابتكار نبرة خافتة تُخْفِتُ معها جلبة الأوزان والإيقاعات، بدل أن تفعل بها الأوزان ذلك. عندما نقرأ شعر زقطان الراهن، لا نجد هذا الدأب بقدر ما نجد نتائجه وخلاصاته. لقد اشتغل الشاعر على تخفيت الضجة التي يمكن أن تصدر عن تجاور المفردات وتداخلها مع أوزانها، واشتغل على حذف التهويم والتفاصح (وليس الفصاحة) الذي يصاحب الوزن.

شعر زقطان لا يخلو من الإنشاد والغناء والفصاحة. هذه كلّها من مواصفات شعر التفعيلة. ولكن هذا المواصفات لا يُسمح لها أن تحضر في شعره وفق مشيئتها وخصائصها المعطاة سلفاً. الإنشاد والفصاحة وسواهما من المواصفات تتحول عنده إلى ممارسات فردية تعمل لصالح نبرة خافتة قادرة على استدراج صور واستعارات ذكية بأقل ما يمكن من سلبيات الوزن وأثقاله. لعلها ليست مبالغة إذا قلنا إن ما يكتبه غسان زقطان، هو قصيدة نثر منجزة بمواد التفعيلة. لقد سبق لزقطان أن أصدر ديواناً نثرياً حمل عنوان «رايات» (1984)، لكن الإشارات والبراهين على مذاقات النثر في شعره أكثر بكثير من إثبات وحيد كهذا.

ديوانه الجديد يحتوي على الكثير من الممارسات التي تقوّي الاقتراح النثري، المدفون تحت سطح التفعيلة. قصائد قصيرة مكتوبة وفق مخيلة تكلِّف اللغة بتحقيق المعاني، لا بالتحليق عالياً فوق الواقع العادي. لغة منخرطة في ما هو يومي وعابر ومهمل. الكثير مما هو رائج اليوم في تجارب الشعراء الجدد، يتسرب إلى نص زقطان. لعل في هذا إشارة إضافية إلى استثمار الشاعر علاقات النثر والسرد، وإصغائه إلى تفاصيل الحياة ووقائعها وسردياتها. إلى حد يمكن معه الزعم بأنه يكتب «قصيدة تفعيلة يومية»؟ ثمة قصائد بكاملها قائمة على السرد. وهناك صور يصعب كتابتها بهذه المهارة في شعر تفعيلة نمطي، لنقرأ: «كانت هناك وراء السياج/ وخلف الخرابات/ في آخر المفترق/ ثلاثون «رومية» ينتظرن/ كجيش من الراهبات الشقيقات يصعدن للدير/ حيث الطريق ترابية/ مهَّدتها المشقة/ ضيقةٌ مثل حبلٍ من الصوف/ والديرُ في آخر الحبل/ طائرةٌ من ورق».

اللافت في كل هذا أن صاحب «سيرة بالفحم» (2003) لا يبالي باستقبال شعره على هذا النحو، أو لنقل إنّه يتمتع بتحقيق ذلك عبر مزج نثريات الحياة مع أفضل خصائص التفعيلة. إنه لا يكف عن تذكيرنا بنفوذ الإيقاع في كتابته. حتى إنه يضمِّن إحدى القصائد أبياتاً خليلية كاملة، ويخصص قصيدة أخرى لمديح مطلع ظل يسكنه سنوات من دون أن ينجح في العثور على قصيدة تناسبه: «في العام ألفين أو قبله، ربما/ كان يسكنني مطلعٌ يشبه الصيف في غرف العازبين/ أدوِّره في الكلام .../ مطلعٌ مثل باقي المطالع/ لم أنتشلهُ من التمتمات/ كطيرٍ من القشّ/ يتبعني».

وفي مواضع أخرى، يتمادى زقطان في تذكّر أسلاف قدامى: مالك ابن الريب وأبو فراس الحمداني والفرزدق والبحتري وامرؤ القيس.. يستعيد أبياتاً شهيرة لهم. لكن هذا الماضي الشعري لا يمنعه من ابتكار صور لا تدين في جمالها وتأثيرها إلى الوزن. بل لعل كتابتها ليست يسيرة من دون مخيلة غسان زقطان المتعددة المكوّنات والإصغاءات. بعض هذه الصور يحمل أسباب خلوده في داخله، كما هي الحال حين يكتب: «الطبيعةُ تركتني دون أملٍ/ وذهبتْ لِتَيْبَسَ في الحقول».

القسم الأخير هو قصائد نثر من النوع الرائج بكثرة لدى الشعراء الجدد. قصائد قصيرة مكتوبة بضربة واحدة، بتحرير ضئيل المستهل وما يليها من سطور قبل أن تلمع الخاتمة بحمولة المقطع كله من الشعر. «بينما خياناته تتعثر خلفه مثل كومة من النساء البدينات» (109). القصيدة بكاملها (111) «ضيقة مثل حبل من الصوف/ والدير في آخر الحبل/ طائرة من ورق».

*****

الثالوث المجدّد في الشعر الفلسطيني

ينبغي أن نضع اسمين آخرين إلى جوار اسم غسان زقطان، ليتسنّى لنا الحديث عن واحدة من أخصب فترات التجديد والابتكار، والبحث عن الخصوصية في هذا الشعر. زكريا محمد ووليد خازندار هما الطرفان الآخران في هذا الثالوث الشعري الفلسطيني الذي حاول أصحابه، كلٌّ بطريقته ومزاجه، الخروج من المشهد العمومي لشعر ظلّ، لوقت طويل، يُعامل بوصفه ترجمةً مباشرةً وفورية للقضية والنضال والمقاومة.

تطور الشعر الفلسطيني كثيراً، لكنّ النظرة المسبقة إليه أسهمت في طمس معالم هذا التطور. إحدى نتائج هذا الطمس تمثّلت في التركيز على نتاج محمود درويش وحده باعتباره خلاصة هذا الشعر، ورمز قضيته المقدسة معاً. ومع ذلك، نادراً ما استقبل هذا النقد التطورات والمنعطفات التي اعترت شعر درويش نفسه.

في تجارب الشعراء الثلاثة، ثمة ميل إلى لغة تتخفّف من التفجّع العاطفي والحنين المائع والتهويم البلاغي. لغة دقيقة ومنضبطة مع موضوعات القصائد. فلسطين ليست غائبة، لكنها تحضر بحسب متطلبات هذه اللغة ومزاجها.

أما الأمر الأهم، فيتمثل في تجاوز هؤلاء الشعراء للإطار الضيّق الذي وضعتهم فيه القضية، والنقد الذي حصر نتاجهم بها. ما يكتبه الشعراء الثلاثة اليوم يتجاور مع أهم إنجازات الشعر العربي في حقبة السبعينيات وما تلاها. إنه شعر أوّلاً وأخيراً، ويقف على قدم المساواة مع أهم الأصوات الشعرية العربية. وإذا وضعنا جنسيات الشعراء جانباً، سيكون سهلاً، بل ضرورياً، أن نقرأ هذا الشعر إلى جوار ما كتبه اللبناني بسام حجار والأردني أمجد ناصر والسوري نوري الجراح والعراقي رعد عبد القادر والمصري عبد المنعم رمضان وغيرهم.

الأخبار
عدد الاربعاء ٢١ أيار ٢٠٠٨