حياة الرايس
(تونس)

ريلكهلا يمكن ان تمر الذكرى الثانية والثمانون على وفاة شاعر المانيا الكبير راينر ماريا ريلكه (29 ديسمبر 1926)، من دون ان نتذكر علاقته بالشرق عموما وعلاقته بتونس خصوصا، في تلك الرحلة التي قام بها الى شمال افريقيا، حيث زار الجزائر وتونس ومصر ودوّنها في رسائله ما بين 1910 و1911: «حيث ينبغي توسيع الحلم»، كما سيقول بعدئذ.

وعن بواعث رحلته الى الشرق، يُجمع كتّاب سيرته ومن بينهم رالف فريدمان، صاحب كتاب «حياة شاعر: راينر ماريا ريلكه»، انه كان يعاني من احتباس الشعر. فقد قرّر أنّ رحلة إلى الشرق يمكن أن تكون العلاج الذي يعيد الحيوية إلى نفسه المضطربة، ويمكن أن تكون «وثبة روحية نحو المجهول الفاتن» الذي أخذ الشرق يمثّله في وجدانه، بعد ان كانت زوجته كلارا قد بعثت إليه بنسخة من ترجمة «ألف ليلة وليلة»، فشدّته مناخاته االشرقية.

وما يهمنا هنا، هو تلك الرسائل التي كتبها عن تونس بعد ان غادر الجزائر، وبعد ان مرّ على آثار قرطاج قبل أن يصل إلى العاصمة. تونس التي لاحت له أكثر أمانة لمناخات «ألف ليلة وليلة» من الجزائر، بل اعتبر أنها «شرقية حقاً»، هو الذي لا يعرف الشرق إلا من خلال فلوبير ونرفال وحكايات شهرزاد!

وفي رسالة إلى زوجته كلارا، بتاريخ 17 ديسمبر (كانون الأول)، وعلى سبيل وصف انطباعاته، كتب يقول: «في الأسواق تقع أحياناً برهة خاطفة، يستطع فيها المرء أنّ يتخيل عيد الميلاد: المنصّات الصغيرة ممتلئة بأشياء ملوّنة، والأقمشة وافرة ومدهشة، والذهب يلمع جذّاباً، وكأنّ المرء سوف يتلقّاه هديّة غداً. وحين يحلّ الليل، وبعيداً عن هذا كلّه، يضيء مصباح واحد ويتمايل، مهتاجاً بحضور كلّ شيء يقع عليه الضوء، عندها فإنّ «ألف ليلة وليلة» تحوّل كلّ ما اعتقد المرء أنه أمل ورغبة وإثارة، ويصبح عيد الميلاد غير عصيّ على المخيّلة في نهاية الأمر». يبدو السوق طافحا بالاشياء المادية التي يمكن ان تكون طقسا ملائما لعيد الميلاد المسيحي. كأن الشاعر يبحث بوعيه الغربي عن اطار جديد غرائبي ومثير مستوحى من الف ليلة وليلة، مناسب لعيد الميلاد خاصة وانهم على ابواب رأس السنة، حسب تاريخ الرسالة التي ذكرنا (17 ديسمبر). ثم لا ننسى من ناحية اخرى ان ريلكه كان في ذلك الطور من حياته، لا يزال متأثراً بالأجواء الصوفية ـ المسيحية التي دفعته إلى كتابة سلسلة قصائد «رؤى المسيح»، حسب ما يرى كتاب سيرته الذاتية والشعرية.

وفي رسالة اخرى عن مدينة القيروان يقول: «تماماً مثل رؤيا تنبسط هذه المدينة المسطحة البيضاء في أسوارها ذات الشرفات المُفَرّجة، ولا شيء فيها سوى السهل والقبور المحيطة به، وكأنها محتلّة من موتاها، الذين يرقدون هنا وهناك خارج الجدران، ولا تكفّ أعدادهم عن الازدياد. هنا يدرك المرء، على نحو مبهج، بساطة وحياة هذه المنطقة، والنبيّ فيها كأنه كان هنا بالأمس، والمدينة مُلْكه وكأنها مملكة».

في هذه الرسالة أيضا تتكرّر، أكثر من ذي قبل، مناخات «ألف ليلة وليلة»، وصورة الشرق الغارق في الماضي وحده، المقيم في كنف الأموات والأوابد الصامتة، حيث الأمس هو اليوم، والمدينة مملكة. ودون أيّة محاولة للاقتراب العميق، أو حتى السطحي، من الثراء الإنساني والتاريخي والمعماري لمدينة مثل القيروان.

في مقابل هذا «الفشل الإبداعي» كما سماه النقاد وكتاب سيرته الذاتية الذي أسفرت عنه رحلة ريلكه الوحيدة إلى الشرق (إذْ أنّ مصر وتونس والجزائر لم تفلح في حثّ ريلكه على كتابة قصيدة واحدة تستلهم معطيات هذه الأرض الحضارية!)، في حين ان الشاعر الألماني كان قد حقّق نجاحاً مذهلاً في رحلة إلى حديقة حيوانات باريس!

Jardin des Plantes، وهي حديقة حيوانات ونباتات في آن معاً. أسفرت تلك الرحلة عن سلسلة قصائد تعرف باسم «قصائد الحيوانات» و«قصائد الأشياء»، بينها مثلاً ثلاث شهيرة: «النمر»، و«طيور البشروش» و«الغزلان». مفارقة غريبة ان تنجح حديقة حيوانات ونباتات في إثارة قريحة ريلكه الشعرية، وتفشل حضارة عربية/ فرعونية في تحريكها؟

غير ان هذه «العطالة» المذهلة في رؤية الآخر، لم تكن سوى واحدة من سلسلة خصال إبداعية وسلوكية أخرى مثيرة للعجب في شخصية ريلكه، حسب كتاب رالف فريدمان الذي سبقت الإشارة إليه، «حياة شاعر: راينر ماريا ريلكه». فهل هي «عطالة» فعلية في رؤية الآخر أو هي صدمة حضارية احدثتها مفارقة «الف ليلة وليلة» للواقع؟

الشرق الاوسط
يناير 2008