أنسي الحاج وأدونيس وغيرهما رواداً

عائشة أرناؤوط
(سوريا/باريس)

عائشة أرناؤوطقلما تستهويني المقالات النقدية الصحافية . أتخيل مسبقاً، مع بعض الاستثناءات القليلة، أن الناقد فيها يلبس كامل عتاده، من جهة، للدخول في حَلبة قَنْصٍ لامرئية يظن فيها أنه يطارد عنصراً خارجه، لكنه في الواقع يطارد ظله. ومن جهة أخري، يخفي منديل الحبيبة ، خافيات النفس وخفاياها. بينما الحوار مع الشعراء والأدباء والموسيقيين والفنانين يستهويني إلي حد كبير. فهم يتعرون تماماً سواء في مجال إبداعهم أو في مجال رؤيتهم النقدية والتنظيرية. ويهمني أن أشير إلي أن مفهوم العراء هنا يتعلق، حصراً، بـ بالعري وليس بـ التعرّي .
استمتعت تماماً بالحوار الأخاذ مع عباس بيضون الذي أكن له محبة صافية حقاً، صَدَّقَ أم لم يُصَدِّق، محبة تسمح لي أن أتحدث عن بعض ما ورد في حواره المنشور يوم الاثنين 2008/1/14، في القدس العربي ، بالتزامن مع موقع جهة الشعر الإلكتروني ضمن ملف عن الشاعر بعنوان رئيس التحرير الزائر. وهنا لا أنكر إعجابي أيضاً بالحذاقة الذكية المستفزة و المُغرضة أحياناً للأسئلة والتي بدا لي كما لو استندت إلي سوابق يمكن تكهنها، ولم يأت ذكرها في الصحافة، علي حدّ علمي علي الأقل، فقد مرت بشكل خفيّ وبطريقة رمزية بحتة يُمَكِّنان من سهولة اتهام كاشفها بالعمي!

بهرني من بين ما بهرني في هذا الحوار، التناقض الخلاق الذي يتمتع به عباس بيضون ، ومن يعرفه لا يستغرب ذلك، فهو المتجانس في اللاتجانس و المشتت في الإندغام : / .... تراءي لي وقتها أن هذا الكتاب سيكون مشتتاً فإذا به يجتمع في وحدة ما..../ كما يقول بنفسه. ولا أنكر أن الحوار معه أنعش فيّ روح الكتابة عن تداعيات ولَّدَها بعضُ ما جاء فيه، وهذا يطول. لن أدخل في تفاصيل الحوار كثيراً، فالكتابة الصحافية، التي أتجنّبُها عادة، لا تتيح المجال إلا لأعمدة قصيرة، بالإضافة إلي فخها الذي لا تحمد عقباه أغلب الأحيان. لذا سأكتب عن جانب واحد لما ورد في الحوار، وبعجالة شبه صحافية.

بدا لي عباس بيضون مسكوناً بهاجس الريادة ، محاولاً إخفاءه بشتي الطرق ومختلف الوسائل المتاحة: .... لم يكن هاجسنا الاختلاف عن الروّاد. لم نكن أصلاً في سجال معهم.... سأعطيك مثلاً بسيطاً. أظن أنني كنت ـ بين قوسين ـ أكثر طبيعية وأكثر مجاراة لمفهوم حديث عن الشعر... / ... بدا لي أن شعر الروّاد شعر تحدٍّ وشعر استفزاز. في عمقه هو نقد للشعر. ونقد الشعر لا يعني إجادة الشعر... / .... لم نكن ثوّاراً ولم يكن نقد الشعر هو فريضتنا الأساسية ولم يكن البيان الشعري عملنا ولم نكن نقاداً أكثر منا شعراء./ !!!

ثم/.... خذ مثلاً أنسي الحاج، كل ما فعله أنه كتب مقدمة لن . أدونيس لم يكتب أيضاً نقداً للشعر وإنما كتب تنظيراً شعرياً. ونظريته حول الشعر هي جزء من فكرته عن العالم وعن شعره.
ما زلنا نتخبط في متاهات نريدها مرآوية ، قسراً، بينما هي شفافة. أليس من الأحري بنا إذن، لتحويل مرايانا إلي شفوف، تحديد عملية الخلق كجوهر سواء بالنسبة للشعر أولاً، وتهويمات النقد وركائز التنظير ثانياً. أقول ثانياً لأنني أعتبر أن النقد في كافة مجالاته يتعيّش علي الينابيع الأصلية للخلق . تحديد جوهر الخلق مهمةٌ شبه مستحيلة، سأتجنب التنظير فيها وأكتفي بجزء مما قيل في تلك المفازة الحميمة التي تتباعد أقاصيها ما دامت النفس البشرية في توقدٍ ويقظة. كتب أنسي الحاج عن الخَلْقِ مؤخراً: ... لم يأت أحد من هؤلاء لأنه أراد أن يجدد، بل لأنه تلبية لنداءَي الحاجة والضرورة (........) التجديد، في معناه الأصلي، نفض القديم. الخلق ليس نفضاً للقديم، بل هو حضورٌ فجأةً لما لم يعد غيابه محتملاً. . (صحيفة الأخبار). من ضفة مقابلة يشير أدونيس إلي أن: الخلق لا يستمر علي حال واحدة، وإنما يتجدد باستمرار، فهو أشبه بأمواج البحر يمحو بعضه بعضا. لذلك فالخلق هو إبداع برق لا يتكرر، وانبجاس مفاجيء قائم بذاته، يُنظر إليه في حدود ذاته . أليس الخلق البشري إذن تأويلاً محسوساً لطاقة سرية تسكن الخفايا والخلايا معاً لتمجيد لحظة يتزاوج فيها الحياة والموت معاً لتوليدِ حضورٍ لا مُنتظر؟
إذا قام بعض الرواد في البداية بكتابة ما أعطيناه، فيما بعد، تسميات تكريسيّة حتي ابتذلناه أحياناً، فهذا لم يكن في البدء إلا كما قال الشاعر عبده وازن عن مقدمة لن في حوار له مع أنسي: نتيجة حاجةً ماسَّة فرضتْها الظروف الشعرية والثقافية في تلك المرحلة التأسيسية . لم يستهدف أنسي في مقدمته تحويل التجربة الشعرية الخاصة إلي نظرية نَبَويّة وقتها، وإذا كانت تلك المقدمة، شاء أنسي أم أبي، تستأرض زمنها وتتجاوزه أيضاً، مما يديم تأثيرها، فإنه هو نفسه يقول عنها في الحوار المذكور ذاته:
أسوأ ما في التنظير أنه يضع حدودًا خارجية لشيء هو في طبيعته متوثِّبٌ ومغامِرٌ ويرفض الحدود. إذا كان التنظير مستمَدًّا من نظرة إلي الشعر السائد، فلا بدَّ أن تكون آفاقُه محدودةً بحدود ما وصل إليه الشعرُ السائد. وإذا كانت نظرتُه مستمَدةً من شعر وهمي، أو من تصوره للشعر، فهذا معناه أنه، شاء أم أبي، يضع إيديولوجيا للشعر . وأعتقد أن ما قاله عباس عنه بأن (كل ما فعله أنه كتب مقدمة لن ) ناتج عن تمسك أنسي الحاج الأصيل بالحرية وإيمانه بمغامرة الخلق المُتفَلِّتة من أي معيار أو قياس.

إذا كان أنسي لا يرنو إلي تكريس نفسه منظِّراً، فإن أدونيس خاض تجربة التمثّل المشابه للتمثل اليخضوري وقام بتنظير مُعافي وقدم لنا، علي الأقل! من بين ما قدمه تراثنا، علي غير صورته الخاملة في أذهاننا (فولوكورية كانت أم جمودية أم تَحَسّريّة). ولن أتحدث عن شعرهما، أو عن رواد آخرين، فالمجال ضيق فعلاً. أبإمكان الشعر إذاً أن يتنفس من رئة إيديولوجيات ما؟ وهل علينا الاستناد إلي معايير إقليمية غربية أم شرقية، كي نعطيه مصداقيته؟ وهل هو جوهرياً بحاجة إلي مصداقية ما؟ من حسن حظ الشعر أنه لا يعبأ بنا، أنه برئ مما قيل ويقال، كما هو منزَّه عما عداه. إذا كان الأسود لا يصنع الليل فالبياض يصنع النهار. قليلاً من الإنصاف لِتُنْصَفْ يا عزيزي عباس . علي أي حال، تبقي المسألة مسألة مزاج أيضاً .

القدس العربي
17/01/2008


إقرأ أيضاً: