محمد حداد

خشب عتيق.. وأوتار من الفضة منتورة على العنق، وخصر محفور تتدلى منه الأنوثة والحلم.. آلة مصقولة في انتظار الفارس شاهراً قوسه في الريح كي يطعن الصمت فيخرج أجمل ما كتب المؤلفون في صحف النغم.

آلة تعبر الزمن باحثة عن حضن يدفئها، كي تشهق بألحان تدفئ بها ما تبقى من أحلامنا. تتخلق قبيل القرن السادس عشر، ومعها يتولد اللون والحب والحزن.. تأتي من سلالة (الفيول) النبيلة، حيث ورثت حضورها الغاشم من هذه العائلة الوترية التي أصغى لها أكثر الملوك ثرثرة، لكن ما إن تبدأ هي في الكلام، حتى يدخل البلاط كله في الخدر، عندها يستوي الوزراء والحواة، الوصيفات والقضاة، الغلمان والأرشيدوقات، فالأذن فقط تصبح سيدة المكان، ولا أحد غيرها، ففي حضور التشيللو، أذنك هي التي تسمح لك بالشهيق وتمنعك عنه، فأنفاسك تدخل مع إيقاع العزف دون أن تعلم.

آلة يمتد نحيبها منذ عصر الباروك وحتى عصر (البارود) الذي نستيقظ منه بعد كل موت جديد. سيدة في (موسيقى الغرفة) تحاكي أخواتها (الكمانتين والفيولا) وتتبادل معهن الألحان ببراءة العذراء وحنان الأخت الكبرى، فصوتها دائماً أكبر الأصوات في موسيقى حجرتهن. وعندما تسترسل في سرد نغماتها، ترتعش الأخوات خجلاً من صوتها الحكيم، فتزداد (الفيولا) غيرة مرة أخرى، فهي غير مسموح لها الإسترسال في الكلام مثل أخواتها، لا في الحجرة ولا خارجها، وكل هذا بسبب موقف قديم قامت به الفيولا عندما كانت عائلتها تعزف داخل الكنيسة، موقف لا يحق لى أن أذكر تفاصيله، حيث ابتعد المؤلفون عن الكلام فيه، وخجل منه العازفون المتخصصون في العزف على أوتار الفيولا. وبما أن جدتها الفيول (والتي سميت الفيولا تيمناً باسم جدتها) قد قضت عمرها الذي يزيد على 235 سنة وسط الكنائس والكاثدرائيات، مما جعلها محافظة بعض الشيء ولا تقبل بجرأة كجرأة الفيولا، فقد منحت الفيول مباركتها لحفيدتها الكبرى التشيللو كي تعزف بنفس الطريقة الحميمة التي انتهجتها الفيول، فالإسم الأصلي للجدة الإسبانية الجذور (فيولا دا غامبا) أو الفيول الجالسة بين الرجلين.. إسم فيه من الجرأة ما يجعل الجدة تحرم حفيدتها الفيولا من هذه الصفة، وتعطيها إسم (فيول دا باروكو) أو الفيول المسنودة على الذراع. ومنذ ذلك الحين والفيولا تحقد على التشيللو كلما رأتها جالسة في حضن عازف مخلص لها.

آلة التشيللو هي الآلة الوحيدة التي يحضنها العازف قبل أن يبدأ بما يسمى بالعزف/الحب، والى أن ينتهي منه.. تشكيل جسدي فيه من الحنان المتخلق في الحوارية بين جسد العازف وجسد الآلة ما يكفي سبع أمهات وأربع حبيبات وطفلتين. فهناك الكثير من الآلات التي تتعرض للحضن كالعود والجيتار والقربة، لكن كل هذه الآلات يسيطر عليها العازف منذ اللحظة الأولى، فتصبح القربة رضيعاً أحمله بين ذراعي وأرقص به (وليس معه)، وفي العود طفل ألاعبه وأنا متربع بين وسائد المطرح، أدغدغه فيضحك عالياً، ألقنه الكلام فيقول ما أهوى ولا يغفل عن حرف قيل في ليلة سمر، فيما تظل آلة التشيللو رفيقة وندّاً منذ اللحظة الأولى للنزال، يطيب لها أن تمسكها من العنق قبل جلوسك وسط المسرح، لترمي نفسها بين أحضانك واثقة بنواياك وقوسك المسلول، لا تنحني أبداً بل تميل فقط واضعة رأسها على كتفك، لتهمس لك وحدك وأنت في العزف.

آلة تسكنها الحمّى.. تترنح مع عازفها في رقصة لا يفسرها العازفون، ولا يتقنها الراقصون، تنثر التوتر في المكان، وتفضح النوايا التي نحرص على كبتها، فما إن يضع العازف قوسه على أوتارها حتى تتملكك رعشة، وكأن الآلهة تهمس في أذنيك وتذكرك بخطاياك البريئة وصلواتك التي هجرت.

آلة كأنها في النحيب، تسمع في صوتها ملامح البشر، تمنحك جسدها كله بلا مقاومة، تصغي لك وأنت تفرك قوسها على الوتر ليطفر النغم في المكان، مثل عذراء في ليلها الأول وهي تكتشف المرأة المحتملة، كلما أخلصت لها في القوس أعطتك أكثر الأصوات تأثيراً، هي التي تمنحك لقب الفارس بين الحشود، تجعل من حولك يقفون لك رافعين القبعات، إشارة بأنك جدير بها، وهي التي تخذلك إن قسوت عليها أو غفلت عن لمس عنقها الممشوق فهي (بعيدة مهوى القرط).

التشيللو.. جنون في الخشب