(عالم رحب يختزن بالصمت والتأمل كل الكلام)

يقظان التقي

"لا أحد يستطيع أن يؤلف كتاباً
إن كتاباً كي يكون كتاباً حقاً،
لا بد له من فجر وغروب،
ومن أجيال وأسلحة، ومن البحر الذي يوحد ويفصل"
(خورخي لوسي بورخيس،
أريوسطو والعرب 1 4)

المخطوطات العربيالمخطوطات العربيالمخطوطات العربي

"المخطوطات العربية في لبنان"، التقاء الثقافات والأديان والمعارف، كتاب صادر حديثاً، كتاب فخم أنجز بجهد ومثابرة متواصلين من قبل أشخاص ومؤسسات كثر في إسبانيا ولبنان، من الدعم الحاسم "للوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل النمو أيسيد (AECID)"، التابعة لوزارة الخارجية الإسبانية، بالإضافة الى دعم السفارة والسفير الإسباني في لبنان خوان كارلوس غافو انينفيدو، الى مواكبة جمعية أيدا (AIDA) هذا المشروع.

مشروع كبير منجز بفخامة يتناول مخطوطات لبنان باعتبارها مساحة وشهادة تاريخية على التقاء الثقافات والأديان والمعارف بين طوائف بلد الأرز.

والإصدار أتى بمناسبة إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب وبمبادرة مشكورة عليها وزارة الثقافة عبر أكثر من وزير أبدوا جميعاً اهتماماً بالكتاب الى المساهمة الفعّالة "لمركز التراث العربي المسيحي" (CEDRAC)، التابع "لكلية العلوم الدينية" في جامعة القديس يوسف.

المخطوطات العربيالمخطوطات العربي

الكتاب ثمرة تعاون بين مكتبات لبنانية عدة سمحت بالإطلاع على مخزوناتها وخزائنها من نصوص عديدة عربية وإسبانية وبتصاميم منجزة دقيقة ومحققة جيداً والهدف إظهار حقيقة التنوّع الغني للثقافات والأديان التي يتميّز بها لبنان.

التراث الذي تشكله المخطوطات في العالم العربي واحداً من أعز الثروات وأثمنها، إنه شعور مشترك لدى جماعة المثقفين وعامة الشعب، فمنذ فجر الإسلام، وجّه إجلال القرآن تصرف أجيال المؤمنين توجيهاً ثابتاً تجاه صناعة الكتاب عموماً وتجاه فن الخط خصوصاً. ورغم القيود التي فرضها الإسلام على بعض صيغ إبداعية أخرى لا تجد لها مكاناً في الأقليات العربية، فإن الأشكال التي اعتمدتها الأقليات في مخطوطاتها لا سيما المسيحية منها تنم عن تأثر ظاهر بالبيئة الإعلامية التي كتبت فيها هذه المخطوطات. ثم يظهر هذا الاهتمام المشترك بالعدد الهائل من المخطوطات التي حفظت قروناً في مكتبات العالم العربي المختلفة، عدد يفوق كثيراً المخطوطات المحفوظة في الغرب بلغات أوروبية.

مئات الألوف من المخطوطات العربية المخزونة منذ قرون تحفظ وترمم في أحسن الأحوال، إلا أن أقلية تعنى بتعريف هويتها وجدولتها ودراستها والاهتمام بمضمونها كشيء مثالي، غارق في البعد، مبهم، هيولى بالكاد تلمس وتقرأ وتكاد تكون مجهولة.

المخطوطات العربيالمخطوطات العربيالمخطوطات العربي

الكتاب يمثل ذلك الإشهار، الإعلان، لعالم تجري إعادة ترميمه وإعداده وجدولته وفهرسته وتقديمه الى النخبة العامة الواسعة ويتناول الجميع وتبيان أهمية المخطوطات العربية والمحفوظة منها في العالم لا يتجاوز العشرة في المئة من مجموعها.

دراسة هذه المخطوطات دراسة متأنية تمثل ذخيرة بحثية مهمة للمهتمين بتاريخ وحضارات المنطقة ولمنطق التعايش والحوار والاهتمام بأفكار الآخر وكلام الآخر وصمت الآخر، إذا كان بالنسبة للأقليات أن كلامها يكون بالمخطوطة، بالتوقيت، بالصمت، على اعتبار أن كل الكلام هو كلام الآخر، ووحده التأمل والتدوين والصمت المبهم البعيد، المثالي، الذي بالكاد يرى سكون كلامها، وهناك الألوف من المخطوطات ذات القيمة الكبرى للتاريخ والمعرفة العامة ما زالت تنتظر أن يكشف أمرها.

يقدم الكتاب إذاً عيّنات من ثروة تكتنزها سبع من أهم مكتبات لبنان، في محيط ثقافي وديني، بصرف النظر عن التناقضات والانطواءات الطائفية. ما يظهره الكتاب تراكم المعارف، خلايا معرفية نائمة تشكل بمجاميعها هوية ثقافية عربية مشتركة.

الكتاب يحاول أن يتذكر كل هذا الواقع من محاولة رائعة لترسيخ تطلعات لا تنمو إلا بمناخ سلمي، مناخ من يتجاوز شعار المعرفة، وهو شعار تربوي نهضوي مضى عليه زمن بعيد، الى شعار الحقيقة التي تجمع ما بين المعارف والفنون والثقافات والتاريخ والمعيش المادي لمعرفة يراد لها أن تكون حسية أكثر، وربما فعلاً الحقيقة تحتاج الى برهان وأكثر.

يقارب عدد المخطوطات في لبنان العشرين ألفاً موجودة بأجمعها تقريباً، بأيدي مجموعات خاصة، موزعة بين مكتبات جامعية وأديرة ومجموعات عائلية بمعنى أن هذه المخطوطات ترتبط عمقاً للأسف بمفهوم الأقلية والخوف على الهوية ويظهر ذلك التوزع الذي يأخذ طابعاً دينياً في بلد متعدد الطوائف والمذاهب والأعراف والانتماءات كلبنان.

لكنها فسيسفاء لبنان الإيجابية بشقيها الثقافي والتاريخي وبروح البرو التسامح والجمال لجهة النصوص التي تلتقي كثيراً في جذر العائلة الشرقية وسلوكها وتقاليدها ولا شكل بالصميم عنواناً للتفرقة والتباعد أو التنابذ العنيف بمقدار حساستهم في الفن والتنوع والتفتح والانفتاح على الآخر والمعارف الجديدة مع الحفاظ على الرتب الطقسية التي أنشأتها المجموعات الخاصة.

مكتبات

هناك مكتبات أخرى تضم مجموعات مهمة كمكتبة البطريركية المارونية في بكركي. ومكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، ومكتبة مدرسة اللاهوت في الشرق الأدنى. وديري مار يوحنا (الشوير) والقديس بولس (حريصا) الملكيين. وديري دوما والحرف الأرثوذوكسيين، ودير بزمار للأرمن الكاثوليك. والواقع ان الطوائف الدينية جميعاً في لبنان تملك مجموعات من المخطوطات. غير ان البلد يتميز أيضا بعدم وجود مكتبات إسلامية تفتح للجمهور باستثاء مكتبة جمعية المقاصد، ومكتبة دار الفتوى. هذا الاستثناء يفسر تفسيراً جزئياً فقط القول بنقل مخطوطات من لبنان، يحتمل انه جرى في القرون السابقة الى مراكز أخرى في الامبراطورية العثمانية. أما الحقيقة، فهي ان المجموعات من المخطوكات العربية الاسلامية الكبرى هي موجودة لدى عائلات كبيرة من هواة المجموعات الخاصة - خصوصا عائلات سنية - في بيروت وطرابلس. وهي مجموعات يصعب الوصول اليها. والطائفة الدرزية. من ناحيتها، تملك مخطوطات غير ان الوصول اليها صعب المنال أو أن هذه المجموعات غير معروفة. ومن أسباب عدم معرفتها الحذر المشهور من ان تأخذ النصوص التي تضم تقاليدها طريقها الى الشيوع خارج محيطها. خلاصة القول، ان مجموعات المخطوطات، التي يستطيع الباحثون الوصول اليها محفوظة دوما وعلى وجه التقريب في أديرة، وفي بعض الجامعات الكبرى التي أنشأتها الارساليات المسيحية.

لا ريب في ان هذه الوقائع تشوه الصورة العاملة لهذا التراث على المستوى الوطني. ان المجموعات المتوافرة في الأديرة. والأكثر انغلاقاً. اولا بأول، على تقاليد الآخرين، يمكن توزيعها في ثلاث فئات: فهناك المجموعات الأرثوذوكسية (الروم، السريان، الأرمن، الخ)؛ وهناك المجموعات الكاثوليكية، وهي ثمرة نفاذ روما وأفكارها بفضل عمل المرسلين في القرنين السابع عشر والثامن عشر (الروم الملكيين، السريان الكاثوليك، الأرمن الكاثوليك. الموارنة، الخ): والبروتستانت، الفئة الأولى كدست مؤلفات مخطوطة عن تقاليدها بصورة متجانسة ومحافظة أكثر من الفئتين الأخريين مع اتجاه غالب بارز الى الكتب المستعملة في الرتب الطقسية. أما الفئة الثانية، فاستقت من مصدر مشترك انطلاقا من تقليد أرثوذوكسي الأصل، يضاف اليه مورد من تقليد غربي لاتيني، خصوصا يسوعي، ومن تيارات كاثوليكية متعددة من أوروبا في القرون، السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. أما اهتمام البروتستانت بأن يكون لهم كتاب مقدس باللغة العربية يتوافق ومبادئهم، وبأن يباشروا حواراً مع المذاهب الأخرى مرتكزاً على النصوص، فقد وجه مضمون مجموعاتهم بشكل جزئي، في خط معين. ومع ذلك، فهذه المكتبات جميعها تضم مؤلفات مخطوطة نشأت اصلا في اوساط غريبة عن تقليدها. كما هي نسخ القرآن. وبعض نصوص من الأدب العربي التقليدي. مخطوطات لا تخلو منها الأديرة. ومن الترجمات العربية لبعض مؤلفات كاثوليكية لاتينية، وقد وجدت طريقها ايضا الى مكتبات ارثوذوكسية.

ان وجود مكتبة وطنية، من جهة ثانية، هو استثناء جدير بأن يذكر ازاء عدم توافر مجموعات مخطوطات في المكتبات العامة. ان الفيكونت فيليب دي طرازي (1865 - 1956)، وهو مؤرخ لبناني ومن هواة جمع الكتب، من عائلة سريانية كاثوليكية معروفة، أوصى بالكثير من المخطوطات التي كان يملكها لمكتبة دير سيدة النجاة في الشرفة حيث الكرسي البطريركي للسريان الكاثوليك. ومع هذا، فان المشروع الكبير الذي وضعه هذا المحسن، اساسه الحث على انشاء المكتبة الوطنية في لبنان، لقد تأسست هذه المكتبة سنة 1931، ورغبة منه في اغناء مجموعاتها، لم يتردد في تقديمه لها قسما مهماً من مجموعته الخاصة، وعديدها عشرون الف كتاب، وثلاثة الاف مخطوط، وعندما عين حافظاً لهذه المكتبة. وطوال السنوات العشرين لشغله هذه الوظيفة (حتى سنة 1939) على رأس هذه المؤسسة، اهتم اي اهتمام باغنائها بشرائه الكثير من الكتب من لبنان ومن خارج لبنان، ورغم انها دمرت بصورة مأسوية اثناء الحرب اللبنانية (1975 - 1990). فان الكنوز التي كانت تضمها أنقذت جزئياً بطريقة عجائبية، وأودعت المخطوطات، وعددها ألف وخمسمائة تقريباً، في مقر المحفوظات الوطنية، أخيراً في ربيع سنة 2009، وضعت الشيخة موزا، عقيلة أمير قطر، حجر الأساس للمكتبة الوطنية الجديدة، ويؤمل ان تعاد اليها المجموعات كلها لتودع في المبنى الجديد.

عالم من المخطوطات يتميز بخصائص تتسم الى الغنى المعرفي من دلالات انثروبولوجية وتاريخية واجتماعية، بالفن الجمالي بالخط النسخي وبالحبر ارتباطاً بالاختراعات العلمية الصناعية والكيميائية والترقيم ايام زمان نموذجاً لوصف لخطوط ما، الى استخدام المعادن والاشكال التقليدية كالرق مثلاً حتى فترة متقدمة من القرن العشرين وبتنوع استعمال الورق منذ القرن العاشر كمجمل أساسي في المخطوطات العربية بعلامات مائية والورق المتصل وأنواع الحبر، وانظمة الترتيب والكراريس، والنساخ وأنواع الخطوط، والتصحيح اللغوي والاملائي وانظمة التسطير في المنهجية البنائية والجماليات الشكلية والاخراج ارتباطاً بتطور الثقافات والأفكار التي تنطوي عليها.

معلومات تعبر عن نفسها ومعلومات عن الناس والاجتماع والمحيط الثقافي والمنظور التاريخي مشروع الباحثين والمختصين والقراء، يعكس تمرين ذهني وآخر بماهية حريات التعبير وامرها وضروبها وابوابها وجمالياتها في مقاومة أشكال السيطرة على اختلافها أبعد من الجهد والطقس اللاهوتي نفسه أو الفقهي الذي يعبر بالتأكيد عن نهضته وبفترات أساسية.

أهمية المخطوطات انها شبه كائنات تاريخية حية ذات قيمة تاريخية اكيدة وبهذا نفهم الحرب المدمرة على المخطوطات العراقية في الحرب الأميركية الأخيرة ومحاولة نهب الحياة الروحية للحضارات والمدن العربية عبر تدمير المتحف العراقي الذي كان يحوي مئات الآلاف من المخطوطات القيّمة التي شكّلت جزءاً مهماً من تراث المنطقة وحضاراتها المتعاقبة.

نزهة العارف في صفحات فخمة، باذخة الثراء، انيقة الطباعة، وبتصميم اخراجي جميل مع متعة الهوامش واستطراداتها وتلك التأملات الافتراضية في زمن مضى والكتابة ما قبل الكتاب والكلام ما قبل الكلام والمكتبات كل منها ميزاتها ومحتوياتها الدينية والعلمانية معاً والأصح ذلك الاجماع الانساني الذي يتعرض للأسف اليوم كثيراً للتلف واعمال السرقة والنهب والالتفاف بمضامين قد تهدد كل ما انجز بالضياع.

نذكر ان المخطوطات التي يعانيها الإصدار الفخم تعالج ليس فقط الدين والتاريخ وطقوس الاقليات، بل تعالج أيضاً الادب والشعر والنحو والحساب غير تلك التي تعالج تاريخ الكنيسة واللاهوت والمنطق والفلسفة وكثير من العلوم الاخرى. هذا وتمتلك على سبيل المثال المكتبة الشرقية خزانة خرائط للبنان والشرق الأوسط فريدة من نوعها، خصوصاً تلك التي ترافق دول المنطقة وتثبيت حدودها ووثائق متعددة لم يكشف عنها حتى اليوم، كخريطة بيروت من السنة 1862، ومخطط بيروت للسنة 1908، أو تلك الخزانة المصورة الهامة من الصور الفوتوغرافية منذ قرن من الزمن التي تمتلكها الجامعة اليسوعية (نحو 60,000 صورة) الى اخبار الرحالة والصحف القديمة وبدايات الصحافة في بيروت والقاهرة. أو من نوع ارتباط الجمعيات بالمثل العليا للنهضة (مكتبة المقاصد) وغيرها.

تجدر الاشارة الى جهد الباحث المتخصص في فهرسة المخطوطات العربية وتصنيفها والمنسق الأكاديمي في جامعة القديس يوسف، كلية العلوم الدينية، عضو سابق في معهد الدروس الاسبانية المشرف على المشروع - الكتاب فيليبي رواسي المتعاون بحثياً مع مراكز بحثية فرنسية واسبانية ومع جامعة أوسلو.

وإذا كانت المخطوطة تاريخاً فهي اخراجاً وشكلاً وجماليات مصورة، من مهمة تولاها المصور الصحافي المستقل فسيران كيوفيدو، المقيم في الشرق الأوسط منذ العام 2007 وهو يشارك بانتظام في مشاريع لها علاقة بحقوق الإنسان في العراق وفي فلسطين ولبنان.

المستقبل
الثلاثاء 2 تشرين الثاني 2010