عقل العويط
(لبنان)

في البدء كان المثنّى هل تحتاج الكتابة عن خالدة سعيد الى مناسبة أو ذريعة؟ لا أعتقد. مع ذلك، فالمناسبة أو الذريعة، كتاب صدر للتوّ عن "دار الساقي" يحمل توقيعها. وهو مستحق، بعنوانه الإشكالي "في البدء كان المثنّى"، وبالإهداء المخصص الى أبيها خليل صالح، الذي "ظل يردّد لي منذ الطفولة، لا فضل لإنسان على إنسان بجنسه، بل بعلمه وأعماله، ومنذ سن مبكرة، جاءني بكتب نساء نهضويات. الى ذكراه الغالية ونور عقله أهدي هذا الكتاب". كما هو مستحق، بالمدخل العقلاني الآسر الذي يلقي الضوء على "هوية أسطورية سابقة تخترق الأديان والحضارات"، مفككاً تفكيكاً بحثياً وتحليلياً، عميقاً ورصيناً وبلا مواربة، "ظاهرة تحكّم المذكر في المؤنث"، السابقة للأديان، المستمرة معها، والمتواصلة في الزمان والمكان، في أشكال وأحوال معقّدة ومركّبة من حياتنا وثقافتنا العربيتين، الى كونه كتاباً مستحقاً في فصوله الستة، عن تحرير الإنسان، والمرأة العربية باعتبارها كائناً بغيرها لا بذاتها، والإبداع وتحدي الزمن، والجسد الطوطمي، وتأنيث الكلام وتحجيب القارئ، وطريق البحث والعمل، وضرورة مجيء المرأة الكاتبة، والإبداع كفعل ولادة. ذلك كلّه من خلال التركيز على شخصيات ثقافية تناولت سلطة المذكّر، ومسألة الذكورة والأنوثة في الثقافة العربية، في مقدمها قاسم أمين ومختار ماي وعائشة عودة ولور مغيزل وفاطمة المرنيسي وروز غريّب وسعاد الحكيم ومي غصوب وفدوى طوقان وأندريه شديد وأسيمة درويش وسحر خليفة وليانة بدر وناديا تويني وسنية صالح وسلوى روضة شقير ومنى السعودي وأنجيليكا فون شويدس – قصاب باشي.

لكني لستُ في حاجة الى مناسبة وذريعة، للكتابة عن خالدة سعيد. فأنا أضع مقالاتها وترجماتها ومؤلفاتها، وخصوصاً منها ما نُشر في مجلة "شعر"، وكتابيها "البحث عن الجذور" و"حركية الإبداع"، وما بعدهما، عن "الحركة المسرحية في لبنان" و"الاستعارة الكبرى"، أمام مرمى يديَّ، وتحت عينيَّ وعقلي، حيث أجلس لأكتب أو لأفكرّ.

لماذا؟ لأنها علامة ثقافية عربية فارقة في مجال الحداثة الأدبية والفنية، وفي باب فهم الخلق الأدبي، والمشاركة فيه، وتفعيله، والكشف عن مكامنه ومخابئه، والتقاط إشاراته، وتفتيح آفاق جديدة، ربما غير منتبَه إليها ومفكَّر فيها جيداً. بل هي علامة فارقة في مجال حداثة الحياة العربية. الهدوء الذي يشغل كتاباتها. الهدوء الرصين، الذكي، الحادس، القارئ، المثقف، الدؤوب، الكتوم، المنسحب، المتنبّه، المفتَّح الحواس، المفكِّك، الملتقط والقابض، هو أكثر ما يلفتني في هذه الكاتبة. ويهمّني أن أقول أيضاً: المرأة الكاتبة.

ومثلما كان ثمة حاجة الى شعراء وأدباء وروائيين ومسرحيين وفنانين، ومثلما لا تزال هذه الحاجة قائمة بإلحاح، وستظل، كان هناك حاجة الى امرأة. الى امرأة كاتبة. بل الى امرأة. وكاتبة. بل الى نساء كاتبات. بقوة الخلق التي يُعتدّ بها في هذا المجال، وبالثقافة الرحيبة التي لا مفرّ منها في كل محطات التغيير ومفترقاته.

وإذ أقول المرأة، أو المرأة والكاتبة، أو المرأة الكاتبة، فلأني أعرف حجم الفرق في هذه كلها، والحاجة الهائلة إليهن جميعهن، معاً وفي آن واحد. آنذاك، والآن، وغداً، في حياتنا العربية المجروجة بألف حجب وعيب ونقصان. ومثلما كان ثمة حاجة في ذلك الزمن التغييري الى الشعراء والأدباء والروائيين والمسرحيين والرسامين والفنانين عموماً، كان ثمة حاجة مطلقة الى شخصيات ثقافية رائية، تواكب مسألة البحث عن المطارح والجواهر الفذّة في بواطن الأرض الخلاّقة. خالدة سعيد، هي في هذا المعنى، شخصية ألمعية بذاتها المتخلصة من أعباء التذكير والتأنيث "المسبقين"، وهي أيضاً شخصية ثقافية نسائية طليعية، يُركَن الى أفكارها وتحليلاتها وآرائها، ليس فقط في الأدب وأعمال الخلق عموماً، وإنما في مجال الثقافة الإنسانية عموماً.
وأراني أذهب الى غير المناسبة والذريعة. الى شيء آخر. فنحن في حاجة الى سحب البساط من تحت أقدام سلطان المذكّر. بل نحن في حاجة الى خلعه خلعاً منهجياً، وعقلياً، وثقافياً، ووجدانياً، وبدون هوادة.

خلع سلطان المذكّر، لا المذكّر.
هذه الحاجة ليس هدفها محو تاريخ هذا السلطان، ومكوّناته ومنتجاته وتراكماته وأفعاله، في كل مجال، على غرار ما تفعل الديكتاتوريات والظلاميات الشمولية. وليس هدفها أيضاً، تقديم اقتراح بديل سلطانيّ مضاد. هناك فحسب سبب بنيوي، وراء هذا الحاجة، هو أن هذا السلطان، على ما تحت جناحيه من زمن هائل، ومن عباقرة وأفكار وفلسفات وأشياء وعلامات وأعمال وتراكمات باهرة، يتأسس على مفهوم انتقاصيّ إلغائيّ: الانتقاص من المعنى الجوهري لطبيعة الحياة البشرية، وتالياً الانتقاص من المعنى الجوهري لطبيعة اللغة، منذ بدء التكوين حتى اللحظة الراهنة، بما يجعل المعنى الذكوريّ السائد والمعمول به معنىً انتقاصياً وإلغائياً في آن واحد.

والحال، نحن أمام تاريخ كامل، مؤسس على ركائز سلطانٍ ذكوريّ، انتقاصيّ إلغائيّ، في اللغة والخرافة والأسطورة والحياة والمجتمع. هذه مسألة ثقافية بالكامل، وينبغي التفكير فيها، بعيداً من كل انفعال وهلوسة وردود أفعال. وأعتقد أن خالدة سعيد، ليست غريبة عن إدراك المقصد الذي ينطوي عليه هذا التفكّر. هي نفسها تعنون كتابها: في البدء كان المثنّى. والغالب أنها تقصد في عنوانها بدء البشر الذي لم يكن مذكّراً فحسب، وإنما مثنّى، أي المذكّر والمؤنث معاً وفي آن واحد. لكن ذلك لا يمنع من فتح باب الأسئلة: أيّ بدء هو هذا، أبدء الإنسان، أم بدء اللغة، أم بدء الخلق، أم بدء الخالق؟
تتيح لي افتراضات القراءة المتعددة الاحتمالات، أن أضع هذه الأسئلة كلها على طاولة التفكّر الثقافي البنيوي. ولا ينبغي أن يكون بعيداً من التفكر، استحضار عنوان الكتاب، موضوع هذه الكتابة، لمساءلته وتأويل افتراضاته، بالتماسّ مع قول يوحنا: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله".

محض استحضار ثقافي افتراضي ليس إلاّ. استحضار يحمل على إعادة النظر في كل شيء تقريباً. أقلّه في سلطان المذكّر، أياً يكن!
فلا بد من توجيه تحية الى المثنّى.
لا بدّ أيضاً من رفع القبعة لخالدة سعيد.

النهار الثقافي
4-10-2009