ترجمة وتقديم: جهاد هديب

أكثر صفاء هذا الماء في المزهرية المتألقةأنْ ترى شعراء العالم هنا أمامك، في بلاد تشعر أنك تنتسب إليها مثلما تنتسب إليك، فلعل في ذلك قَدْرٌ من إثارة الفضول لتعرف ما الذي يكتبه هؤلاء الشعراء الآن في العالم؟ وما المسافة التي تفصل بين ما ينتجه هؤلاء الشعراء وبين راهن الشعر العربي؟ ثم ما الذي يعنيه ذلك أصلا إذا كان الإحساس بالجماليات الشعرية هو إحساساً فردياً بالمطلق بالجمال والعالم والمعرفة؟

في أية حال، فإن هذه بعض من أسئلة ما كانت لتثار لولا قدوم هذا العدد الواسع من شعراء العالم إلى دبي للمشاركة في الدورة الأولى لمهرجانها الدولي للشعر الذي من المقرر إقامته خلال الفترة من الرابع من الشهر المقبل وحتى التاسع منه.

بدءا، ولجهة التعريف، فإن “مهرجان دبي الدولي للشعر” مهرجان شعري عالمي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي في 23 يونيو/ حزيران 2008 يقام المهرجان تحت شعار: “ألف شاعر، لغة واحدة” ويستضيف على مدى خمس سنوات ألفاً من شعراء العالم، ليشاركوا في فعاليات تتضمن أمسيات شعرية، وندوات، وورشات عمل، وملتقيات وفعاليات أخرى عديدة.

وبحسب الموقع الإلكتروني للمهرجان فإنه يعبر “عن رسالة إنسانية المضمون، إذ يصبو إلى رفع راية الشعر عالياً بوصفه لغة التخاطب الأرفع مكانة والأكثر شفافية ونقاء بين مختلف الألسن، في مكان يجمع بين شاعرية الصحراء ورومانسية البحر، بين جموح العمران وطموح الإنسان، وبين عبق التاريخ وآفاق المستقبل الرحبة”.

ولعل من أهم أهداف المهرجان السعي إلى تأكيد دور الشعر كقناة للتواصل والتفاعل بين ثقافات العالم المختلفة. وترسيخ المكانة العالمية لدبي كملتقى للثقافات الإنسانية التي تتحاور في إطار من الاحترام المتبادل والفهم المشترك. وإحياء مكانة الشعر في الثقافة العربية باعتباره ديوان العرب، والتشجيع على ترجمة الشعر من لغات العالم إلى العربية وبالعكس.

وفي أية حال،فإن جولة سريعة عبر شبكة الانترنت وباستخدام أسماء الشعراء ممكنة جدا للاطلاع على نتاج الشعراء المشاركين والمترجم منه إلى الانجليزية وحدها. ولعل من الممكن لهذه الجولة أن تمنح قارئها قَدْرا من المعرفة بما ينتجه هؤلاء الشعراء.

فإذا أخِذَ بعين الاعتبار أن هؤلاء الشعراء يتوزعون على أغلب قارات العالم، فإنه يلحظ ببساطة، تلك النزعة العالية إلى التأمل في الشعريات الأوروبية أو الشمالية عموما إلى حدّ حضور الذهن أو العقل وكأنما على نحو مسبق، حيث لا تختلف هذه النزعة العقلانية بين شاعر وشاعرة، بل هم على الأرجح سواء ومع وجود فوارق، بالطبع بين شاعر وآخر.

ولعل ما يميز هذا الشعر عن سواه أيضا هو ذلك القدر الكبير من الحرية الداخلية غير المشروطة برقابة داخلية أو خارجية وخصوصا في ما يتعلق بتابو الجسد أو تابو الدين، وذلك بحسب ما يوحي النص.

غير أنّ مشاغل الشعراء في آسيا وإفريقيا مختلفة تماما، إنها قصائد قد علا فيها النبر السياسي على ما عداه، وتحديدا الشعراء الأفارقة، غير أن هذا الموقف الأكيد ليس معزولا تماما عن نزعة إنسانية شفافة تطبع هذا الشعر بميسمها. وكما لو أن الموقف السياسي هو موقف جمالي بالأساس وركيزة في تواصل الشعر مع جمهوره والجمهور مع شعره.

لكنْ، إجمالا فإن إشكاليات التجنيس الأدبي لشكل القصيدة غير مطروح نهائيا. يكتب الشعراء في العالم قصائدهم من دون انتباه إلى هذا الأمر. واستطرادا على الأمر نفسه، فإن الكثير من القصائد قد كُتِبت باللغة الانجليزية، فإن أغلب ما كتب “شعراء الشمال” ينتسب إلى قصيدة الشعر الحرّ إنما خارج الوزن والعروض وما كتبه الشعراء الأفارقة ينتسب إلى الشكل نفسه لكن مع الاحتفاظ بالوزن، وكما لو أنه ضرورة شعرية للتواصل مع جمهور مرئي ويسمع وليس مع جمهور من القرّاء الفرادى كما هي حال الشعر في الشمال إجمالا.

ولعله من المهم جدا القول، إن الملاحظات السابقة ما هي إلا انطباعات شخصية قد تصيب وقد تخطئ. أما عن القصائد المترجمة تاليا فما هي إلا عينة عشوائية من مجمل القصائد التي أنتجها “شعراء مهرجان دبي” من غير العرب في دورته الأولى.

***

قصيدة شعريات أخرى

هاريس فولفيانوس - اليونان

ولد عام ،1957 وتم ترشيحه للجائزة الوطنية اليونانية باثنتين من مجموعاته الشعرية، وقد طبع له مقالات وترجمات لأعمال شعراء أمريكيين وبريطانيين. وفلافيانوس هو محرر مجلة للشعر، ويعيش في أثينا حيث يقوم بتدريس التاريخ في الكلية الأمريكية كما يقوم بتدريس نظريات الترجمة في المركز الأوروبي للترجمة.

-1-

أكثر صفاء هذا الماء في المزهرية المتألقة.
ورود صفراء وأخرى حمراء.
ضوء أبيض في الغرفة، مثل ثلج.
ثلجٌ ثمِلٌ
(إنها نهايات الشتاء)
يسقط برقّةٍ على المكان المتخيَّل.
تعود المساءات بلا ضجيج،
بلا أسرار، بلا وجوه شديدة التوق
حول المزهرية.
أزهار في لوحة البورسيلين.
صفراء وأخرى حمراء.
الماء فراغ يتغضّن.

-2-

ويبقى الماءُ،
ويبقى الثلج،
مرةً كانت تكفي لتأليف
نقاءٍ جديدٍ
أكثر إلحاحا من معنى الأزهار
اللامعة في الذاكرة الباردة للسعادة.
تحديقتُكَ المنتشيةُ بوجْدٍ
تبرهن أنّ بوسع المخيلة
أن تُبقي الذاكرة خاوية ثانيةً وثانيةً).

-3-

العقلُ يبحثُ عن فرارٍ.
هذه الفكرةُ:
(إمكانية مجازٍ بعينه)
قد نفدت.
الورود، المزهرية،
لم تكن موجودة.
هم أيضا لم يكونوا.
الكلماتُ، عجبا،
ظلّ يسقط منها
ندفاتُ ثلجٍ من حياة حقيقية
على حواف القصيدة.

***

علامات البحر تدوّر مقطعاً

خوسيه أوليفر - ألمانيا:

ولد خوسيه أوليفر عام 1961 في مدينة هاوساخ الألمانية لعائلة من المهاجرين الأسبان. وهو يكتب القصة القصيرة والمقالات والشعر. حصل في عام 1997 على جائزة أدلبرت شاميسو، وعمل كأستاذ زائر في معهد ماساشوستس للتقنية في الولايات المتحدة الأمريكية عام ،2002 وككاتب مقيم في مدينة القاهرة عام 2004 أوليفر هو مؤسس مهرجان “LeseLenz” الأدبي، ويعيش حالياً في مسقط رأسه.

يتنقل الأزرق على الأرض من شكل إلى آخر:

نحن أبناء الماء
نتقلّب في ألقٍ أزرق
على الشاطئ
إلى جانب بقعةٍ من ضوء الشمس -
بوصلة ضوء الوردة الزرقاء
على أبيضَ رقيقٍ،
مثلما المساء إذ يهبطُ ويخلِّصُ
مثلما تلفظ الريح
مقطعها الأول

تسيلان في ريغا
أنا لم أصل
أنا لم أغادر
كنت دائما هنا، جوتير
أحد ما ذلك الذي يلوّح بيده
من حافة ضوء قمر

المدينة، جوتير
تلويحة الوداع النهائي هذه
الوصول غير المذهل هذا
ليوم المساء الأبيض، جوتير
إنها يد القمر
يد القمر ذاتها
إنها هي، القمر، جوتير

الوداع
خيوط زيزفون تحيط بالعينين
ارتجلنا رائحة لها
شجرة كستناء
تُزهر ذاكرتُها
من أجل إلمار

الجمعة الحزينة
النبالة من الغابة،
في أقصى الساعة
دود الأرض، أربعة منها،
ما تزال حيّةً تنقبض
في أنهار من الدم الذي يتدفّق
طيلة فصول السنة

عشية عيد الفصح
التجاويف كريستي،
عبارة
كي تكرري لثلاث مرات :
أنا دودة الأرض
أنا دودة الأرض
أنا دودة الأرض

*****

ريح

جيمس فينتون - المملكة المتحدة

ولد عام 1949 في لينكولن في المملكة المتحدة، وتحمل قصائده غالباً آثاراً لخبراته في البلاد الأجنبية، فقد عمل في العديد من الجزر كمراسل إخباري في إندونيسيا، وكصحافي، وكناقد مسرحي، وكاتب. عمل فينتون استاذا للشعر في جامعة اكسفورد من 1994 وحتى 1999 وهو عضو الجمعية الملكية للأدب. وحصل على الميدالية الملكية الذهبية عام 2007.

إنها الريح، الريح في حقل الشوفان
حشود عظيمة تشعر بالكارثة الكبرى
أسفلَ الأودية الخضراء، وعلى امتداد الأنهار التي تترنح،
أسفلَ كارثة الريح الرائعة هذه.
عائلات، قبائل، أمم، ومواشيهم
سمعوا شيئا ما، رأوا شيئا ما، توقُّعٌ
أو سوء تفاهمٍ عظيمٍ يجتاح قممَ التلال
يلوي سَمْعَ صفّ من الأشجار بقصصه كلها عن النار والسيف.
رأيت ألف سنة تمرّ في ثانيتين.
أرض كانت مفقودة، لغات أينعت ثم انقسمت.
هذا الأمير ذهب شرقا ووجد الأمان.
بحث أخوه عن إفريقيا وعن طبقٍ من التين الشوكي.
قرون، دقائق لاحقة، يسأل أحدهم
كيف تجوّل مقبض السيف بعيدا عن ورشة الحدادة.
وفي مكان ما سوف يغنّون: مثل قشٍ كنا قد حَملْناه
في الريح. ها هي الريح في حقل الشوفان.
معكِ في باريس
لا تحدثيني عن الحبّ. لقد طالني توبيخ قاسٍ
ثم بكيت لما ازدردتُ كأسا أو اثنتين.أنا مَنْ هو جريحُ حديثكِ.
إني رهينة. إني مهجور.
لكنّي في باريس معكِ.
نعم أنا غاضب من الطريقة التي جعلتني حائرا
وممتعض جدا من هذه الفوضى التي كنت فيها خلال ذلك.
وأعترف بأنني أنهض من عثرة
ولا آبه بأين ارتبطنا معا.
أنا في باريس معكِ
أتلاحظين، لو لم نذهب إلى اللوفر
لو قلنا شيئا أحمقَ لأعشاب نوتردام الطافية
لو غادرنا خلسة جادة الشانزلزيه
وبقينا هنا في هذه الرداءة
غرفة في فندق قديم
افعل هذا وذاك
إلى ماذا ومَنْ
تعلّم مَنْ هو أنت،
تعلّم ما أنا
لا تحدثيني عن الحبّ، دعينا نتحدث عن باريس.
الاقتطاعة القليلة لباريس في مشهدنا
ثمة صدعٌ يتخلل السقف
وجدران الفندق تتقشّر
أنا في باريس معكِ.
لا تحدثيني عن الحب، دعينا نتحدث عن باريس.
أنا في باريس الشيء الأكثر تفاهة من أشيائكِ التي تقومين بها.
أنا في باريس مع عينيكِ، مع فمكِ.
أنا في باريس مع ... في كل جنوب المواقع.
هل أحرجتكِ؟.
أنا في باريس معكِ

****

تُريني جراحك

إليسا بياغيني - إيطاليا

ولدت إليسا بياغيني في مدينة فلورنسا في إيطاليا عام 1970 وتلقت تعليمها في الولايات المتحدة الأمريكية كما قامت بالتدريس في العديد من الجامعات هناك. وقد تم نشر العديد من أعمالها باللغتين الإنجليزية والإيطالية. تعمل بياغيني مترجمة وتقوم بتدريس الكتابة الإبداعية، والأدب، وتاريخ الفن. وتعيش حالياً في إيطاليا.

تُريني جراحك، كما لو كنت جنديا؛
معركتك
مع آخَرِكَ الذي أضنى
عينيك، وعظامك
وجلدك؛
مع مَنْ قطّع الأوتار في عضلاتك منذ برهة مضت.
الخيط، ذلك الذي أبقاك كلّك معا،
هو الغطّاس الذي لن يظهر ثانية.

طريق الإبرة
طريق
الإبرة، التي خيطكِ فيها،
قد عبرَتْه مبكرا.
إنها تخيطكِ، تأمُرُكِ: قُدُما من دون توقّفٍ
وطريقٌ شاق،
وها تفصلكِ من
الكاحلين،
وها هي دوّامة الغزْل الرقيق جدا.

العتمة تنفد
العتمة تنفد.
هبوطٌ في
أنفاسكِ:
كل ما حولكِ؛ امتلاء
العالم هو هنا
في السرير، هذا
الطبق المملوء
بكلمات تبخّرتْ.

لماذا
لماذا
هل تريد لقدمي أنْ تزلّ عبر الأشجار -
إذن، هناك حاجبان
عاقدان،
قدمان،
كِسْرة صغيرة،
كي تتمرأى
في بشرتي اللامعة
تلك التي تكنس الطريق من الكِسَر.
حِيَلُك وساعاتك،
كي تمتص ماء الضوء من
عيني.

****

المطر يعيدني

باتريزيا كافالي إيطاليا

ولدت باتريزيا كافالي في مدينة تودي في أمبريا، وتعيش في روما منذ عام 1968 حيث درست الفلسفة. وقد قامت بترجمة أعمال مولير وشكسبير إلى الإيطالية، وفازت بالعديد من الجوائز.

القطع المتناثرة
لأصدقائي، انضغطت بقوة إلى الأسفل
طارت عاليا جدا، هبطت
ببطء، تفرّ وتدنو من
الجانب الآخر من النوافذ.
وأخيرا،
ثمة وقت.

***

قصيدة ابن المزارِع

أغوش سارجونو - أندونيسيا

ولد أغوش في باندونغ عام ،1962 وقد صاحب حركة التحولات السياسية في بلده إندونيسيا، بالقصائد الشعرية والقصص القصيرة والمسرحيات والآراء النقدية والمقالات. نشرت أعماله في آسيا وأوروبا وأمريكا. عمل سارجونو مديرا لبرامج في مجلس الفنون في جاكرتا، ويعمل حالياً محاضرا في قسم المسرح في أكاديمية الفنون في باندونغ وكمحرر في مجلة أفق الأدبية.

ما إن انتهى الموسم، حتى شاهدت، من بين حبّات الأرز، المزارعين وأبي منشغلين بحصاد الحزن؛ حبّات الأرز تلك التي لم تكن تكفي أبناءه كي يكبروا؛ كي يتفتحوا ويزهروا في حقول المصير والمستقبل.

لذا، جلست القرفصاء؛ أحنيت ظهري فوق أحزاني وأحلامي، وقد أنهكني أنني أزرع حديقةً للأمل في الحياة، وحيدةَ والمقاعد المدرسية المتربة.

ما إن انتهى الموسم، وبعد الامتحانات فحسب، أجلس في فكرةٍ مثل أجدادي، أحدّق في السماء، وقد تقوَّستْ بحذَق، مثل خدّ المصير يتغير لونه بين الأسود والأزرق.

***

الحائط

أليس ستيغر - سلوفينيا

ولد عام 1973 ودرس الأدب المقارن في العاصمة السلوفينية ليوبليانا حيث يعيش. وسافر إلى العديد من البلدان مثل بيرو وألمانيا. قام ستيغر بنشر العديد من المجموعات الشعرية وهو مؤسس مهرجان أيام الشعر، ويعمل محررا في دار نشر.

ما مرّ يوم إلا وتخيلتكَ
كيف بناك أولئك كثيرا خارج العالم.
أخذوا منك المشهد. لقد نفوك.
ما من صباح يمرّ إلا وتأخذ على نفسك عهدا
أن تزيل الحائط، نهارا لا ليلا
أنت لم تأتِ إلى البيت المُزال. الصمود بلا معنى.
ما من أحد هناك يمنحك “أمان” أن تعارض.
ترحل الآجرّات كلٌ بمفردها، هيّنةً مثل الساعات،
لتخطو قبل أن يصير بوسع راحة يدك أن تلمسها
رغم أنه ما من “جهة أخرى”، ولا “في مكان آخر”.
ما من مكان تبلغه، أو تعتصم به.
أنتَ لا تملك حائطا حيث انتهت أيٌ من هذه.
وحائطك لا مكان ولا أحد أبدا.

الخليج
07/02/2009