وتستحق أكثر من مؤتمر

صبحي موسى
(مصر)

جابر عصفور«لا شيء يدل»، هذا عنوان الديوان الذي عقد المقهى الثقافي بمعرض القاهرة للكتاب ندوة لمناقشته، وهو ديوان لم يصدر بعد للشاعر محمد صالح، لكن المناقشة تحولت على هامش هذه الندوة للدفاع عن قصيدة النثر، وكان فارس الدفاع هذه المرة ليس محمد صالح ولا فريد أبو سعدة أو فاطمة قنديل (مشاركين في المناقشة) لكنه كان الرئيس السابق للمجلس الأعلى للثقافة، ورئيس المركز القومي للترجمة د. جابر عصفور، ففي الوقت الذي شغل فيه الآخرون بمناقشة الديوان وعوالمه فإن عصفور أخذه تكئة للحديث عن قصيدة النثر وتاريخها في الغرب والشرق، وضرورة إفساح المجال أمامها بعدما أثبتت قدرتها على الاستمرار والتطور واحتلال المشهد الشعري، حتى أنه قال إن قصيدة النثر عرفها العرب منذ ما يقرب من مائة وخمسين عاماً، لكننا شغلنا طيلة الوقت بالحديث عن المصطلح ولم ندرسها أو نحاول الاقتراب منها، وأن قصيدة النثر الآن استطاعت أن تحتل المشهد الشعري، وتحتاج إلى عقد أكثر من مؤتمر لمناقشتها والاقتراب من عوالمها.

وقال عصفور إن البعض ما زال مختلفاً حول شعرية قصيدة النثر، وهذا كلام انتهى منذ زمن، فقد استقرت القصيدة في الوطن العربي ككل، وأفرزت عدة أجيال متعاقبة، وهي نص غير عار من الإيقاع، لكن إيقاعها يختلف عن إيقاع القصيدة العمودية والتفعيلية أيضاً، وأضاف أن الفارق بين الإيقاع والوزن أن الإيقاع حين ينتظم في حركات معينة وبتراتبية معينة فإنه يؤدي إلى التفعيلة، ومنذ بداية حركة النثر في العالم العربي وهي ذات اتجاهين، الأول حرص على نوع من الإيقاع الظاهر، والثاني بدا كأنه يحارب ذلك الإيقاع الظاهر، وكلا الاتجاهين كالموسيقى الحديثة، فبعضها يحرص على إيقاع عال بالكاد تكاد تسمع الكلمات من خلاله، وبعضها ذو إيقاع هادئ وبطيء ويكاد يكون غير موجود، وقد ظهر كلا الاتجاهين في فترة الستينيات ظهر كلا هذين الاتجاهين في عام واحد من خلال ديوان في «ضوء القمر» لمحمد الماغوظ الذي تبنى اتجاه الإيقاع العالي، وديوان «لن» لأنسي الحاج الذي تبنى اتجاه الإيقاع الهادئ، وأضاف عصفور أننا لم ندرس نغمية وإيقاعية قصيدة النثر، تلك التي تحتاج منا أن نعكف على البحث والتنقيب للوصول إلى مصادر موسيقيتها وجمالياتها، رغم أنها لا تنضبط على الإيقاعات الخليلية المعروفة، وأنه بعد الحرب العالمية الأولى نشأت ثلاثة أنواع شعرية متمردة، هي قصيدة العامية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر.

ورغم أن كل هذه الاشكال نشأت متوازية في وقت واحد، غير أن مدى انتشار أي منها تباين من بلد إلى آخر حسب ذائقة الجمهور، وقد عرفت مصر كل هذه الأشكال قبل الثورة، لكنها انحازت بحكم ذوق مؤسساتها المحافظة إلى قصيدة التفعيلة، ولعلنا نتذكر أن هذا حدث بعد معارك كبرى بين أبناء التيار المحافظ ورواد التفعيلة، ومن ثم كان من الصعب أن تقبل بوجود قصيدة النثر، في حين قبلها لبنان واسس لها الماغوط وأنسي الحاج، لكن نكسة 1967 هزت هذه الكيانات المحافظة، وشككتها في قناعاتها الراسخة، ومن ثم انفسح المجال لعودة قصيدة النثر وغيرها من الحركات الجديدة، وظهر العديد من الشعراء الذين تحولوا من التفعيلة إلى النثر، وأخذ هذا النص في الانتشار حتى أصبحت من القوة والانتشار بحيث لا يمكن أن تخطئها عين، وهي بالأكيد صالحة لعقد مؤتمرين وثلاثة وليس مؤتمرا واحدا، لأننا لم ندرسها، وظللنا أكثر من سبعين عاماً نختلف على مصطلحها ومدى شعريتها، وهو كلام انتهى منذ زمن بعيد باستمرارها وإفرازها العديد من الأجيال.

وأدان عصفور المحافظين الذين يرفضون قصيدة النثر قائلاً إنهم بدأوا حياتهم ثوريين، ورفضوا موقف العقاد مع نصوصهم، لكن الحال كما نرى انتهت بهم إلى محافظين، بالضبط كالفقهاء الذين ما زالوا يرفضون فكرة وجود بنك للأعضاء، رغم أن السعودية الأكثر محافظة منا لديها بنك للأعضاء، ومن ثم فإنني أقول إن قصيدة النثر موجودة ليس في مصر فقط ولكن في العالم العربي كله، وأنها نص مؤثر رغم ما يقوله المحافظون.
ودعا عصفور إلى فتح المجال لكل التيارات الجديدة، والذي يثبت نفسه وقدرته على الاستمرار هو الأجدر بالبقاء، ورد على القول بأن قصيدة النثر بها كثير من النصوص الرديئة قائلاً إن من طبائع الأمور أن تكون النصوص المتميزة قليلة، ففي مدرسة الإحياء لا نتذكر غير شوقي وحافظ، وفي الرومانسية علي محمود طه وإبراهيم ناجي، والأمر نفسه في التفعيلة، فلماذا نطالب النثريين بما هو أكثر؟