خيري منصور
(الأردن)

خيري منصور ما من تعريف للشعر، ولو قبلنا بأنه الموزون المقفى لأدرجت على الفور ألفية بن مالك في ملكوته، وحين قال عنه اليوت بأنه تسلية راقية كان يعبّر عن شيء آخر لعله مجانية الشعر كضرورة لتحريره من التوظيف لما يتخطاه، والمقارنة بين الشعر والنثر على طريقة بودلير وهي ان النثر مشي باتجاه هدف، والشعر رقص على ايقاع، ما تبقى مجرد مداعبة جمالية.
ولعلّ أفضل تعبير عن الشعر هو ما قاله هاوسمان، حين انتقى مثالا من الطبيعة وقال انه يحزر الشعر بالقشعريرة فقط، وانه كالقط الذي لا يستطيع تعريف الفأر لكنه ما ان يشم رائحته حتى يقفز نحوه، لهذا فإن كل ما كتب عن الرّقص مثلا بقي في نطاق الكلام المحض، واستطاع راقص باليه هو فازلاف نجنسكي ان يمحو كل ما كتب عن الرقص بجرة قدم .... واحيانا تعرف بعض المفاهيم بواسطة نقائضها، فما من خبير بالحرية كالسجين، وما من سواد بلا بياض، فهل يمكننا الإحاطة ولو بشكل تقريبي بما نسميه اللا شعر؟
قبل البدء بهذه المحاولة دعونا نتذكر الايقاعات التي سادت في الشعر العربي خلال العقود الستة الماضية، اي منذ بواكير الرواد، ففي البداية كان بحر الكامل هو السائد وشبه المقرر لدى أغلب الرواد ومن اقتفوا خطاهم، ثم بدأ يتوارى ليحلّ مكانه بحر الرّمل بغنائيته المتمهلة، واعقبه الخبب الذي اصبح من اقارب الشعر الفقراء، وكان بمثابة حلّ وسط لدى من كتبوا المسرح الشعري، لأنه أقرب الى النثر المموسق، واخيرا اجتذب المتدارك معظم الشعراء خصوصا في السبعينات والثمانينات بحيث اضطر شاعر كبير وذو تجربة ثرية كسعدي يوسف الى ان يقاطع نفسه في احدى القصائد، ويعلن العصيان على هذا الايقاع، فكتب : ضيّق ايها المتدارك، لكن بتفعيلة المتدارك ذاتها، وقفز الى بحر غنائي رشيق ليقول: اكور بين يديك حمامة واطلق الدنيا وراءها ....
التفسير الوحيد لسطوة ايقاع على آخر هو شاعران او ثلاثة سرعان ما يتبعهما قطيع لا آخر له ... وهذه مناسبة لدعوة النقد مجددا الى ان يفحص ذلك الشعر تبعا للايقاعات السائدة، فكل ايقاع يقترح على صاحبه مفردات وتراكيب بعينها، حتى القوافي تتحول عن المعاني لدى من يجيدون استخدامها وتوظيفها الى مجرد اصوات وحين كانت ترد كلمة المدينة في قافية سرعان ما تتبعها وعلى نحو ميكانيكي الحزينة واللعينة، والسكينة والرهينة ... الخ تماما كما يستدعي بحر الكامل سلسلة من الواوات وادوات الوصل كي يستكمل دوراته الموسيقية، مما دفع شاعرا عراقيا ساخرا هو حسين مردان الى القول بأن البياتي ما كان ليكتب على هذا البحر لولا تلك الواوات اللعينة.

* * * * * * *

الان وبعد ان انحسرت قصيدة التفعيلة تورطت قصيدة النثر بنمطية من طراز آخر رغم حداثة عمرها في تاريخنا الادبي، وكثير من الشعراء او بمعنى أدق من يكتبون هذا النمط يتورطون بقطعنة مماثلة لقطعنة الايقاعات، ومن اهم الظواهر في هذا الصدد ما اسميه قطع المتواليات الأليفة، والذي ظهر بشكل لافت كعنوان لديوان بول شاؤول، وهو ايها الطاعن في الموت، فالاستخدام هنا قطع المتوالية الاليفة وهي الطاعن في السن، وكان لهذا القطع لدى شاؤول وهج سرعان ما بدده آخرون عندما اصبح الثلج اسود، والليل ابيض والشمس مظلمة والغابة صحراء او العكس ...
حين تحول قطع المتواليات الى نمط سائد لم يفقد وهجه ومفاجآته فقط، بل اصبح اقرب الى تركيب النكتة او المفارقة التي تشتعل لدى قراءتها مرة واحدة كعود الكبريت ثم ينتهي كل شيء، لأن هذا القطع ان لم يكن موظفا لوعي مفارق ومضاد يتضح من سياق النّص عبر تناميه العضوي فإنه يبقى مجرد لعب بالمفارقات، واذا كان الهدف هو الادهاش فقط فما اقصر عمر الدهشة، خصوصا عندما تتحول المتتاليات المضادة والجديدة الى متواليات اكثر الفة من سابقاتها ..
ويبدو ان اللعبة مغرية، فهي اشبه بلعبة تنس بلا شبكة كما وصفها الشاعر الامريكي 'روبرت فروست'، ينتهي الامر بعدها الى ان يكتشف اللاعب بأنه سجل الاهداف كلها في مرماه، وكأنه يلعب امام المرايا بسبب حاجته الى ان يصبح اثنين، وحقيقة الامر انه واحد متكرر فقط!

* * * * * * *

في الشعر التقليدي، خصوصا عندما بلغ أرذل الشعر (ومعذرة لهذا القطع) كان المتلقي يحزر القافية القادمة قبل ان يذكرها الشاعر، لأن الاف الاصابع كانت تشتبك على وتر واحد اصبح رثّا ورخوا، والان وبالمقياس ذاته يستطيع المتلقي ان يحزر المفاجأة الناجمة عن قطع المتوالية الالفية، والامر لا يحتاج الى مهارة او حصافة نقدية، لأن الفقه الشعري الجديد القائم على قطع المتواليات تحول الى نمط، وقد يصبح بعد قليل وصف الثلج بأنه أبيض وبارد وفق اوصافه الاولى والفيزيائية هو المدهش وليس العكس لفرط ما تكرر استخدام الصفات المضادة.

* * * * * * *

كان نقد الشعر الجديد في نهاية الاربعينات من القرن الماضي توأما للشعر الجديد ذاته، وما كتبه احسان عباس عن السياب والبياتي بعد صدور اعمالهما الاولى كان يغامر في الكشف عن حساسية جديدة، وحفلت مجلة 'شعر' في اعدادها الاولى بمثل هذه المغامرات النقدية، لكن الشعر العربي الان وفي ذروة التجريبية لا يواكبه او حتى يقرأه نقد مغامر... لهذا خسر شعراء قصيدة النثر الجادون او بمعنى آخر المبدعون فعلا ذلك النقد الذي يفرز نصوصهم عن الركام، والامر لا يحتاج الى غربال من طراز غربال ميخائيل نعيمة لفرز القمح عن الزؤان، كل ما يحتاجه هو ملامسة ورقة الشجرة او شم رائحتها للتعرف عليها والتمييز بين كونها من بلاستيك او ورق مقوى او من صلب التراب والطبيعة.
ان اللا شعر يحتاج الان مساحات واسعة في الصحف والمجلات والانترنت، ويوشك ان يطرد الشعر كالعملة الرديئة، بسبب غياب النقد الجاد اولا، وبسبب الاقبال القطيعي على حرفة جديدة لا صلة لها بالشعر هي قطع المتتاليات الاليفة او المتداولة!

* * * * * * *

اللا شعر كمصطلح مضاد ليس مرادفا لمصطلح اللا رواية الذي اقترحه سارتر لروايات ابطالها الاشياء لا الكائنات، ومجالها المكان لا الزمان فتلك الروايات المضادة او اللاروايات كانت المرادف الفني للظاهراتية او الفينومولوجيا التي تعود الى هوسرب وهي ذات صلة عضوية بالسياق الحضاري والاجتماعي الذي افرزها شأن غيرها من الظواهر الثقافية بعد الحرب العالمية الثانية وان كانت قد نضجت بعد ثورة مايو عام 1968.
اللا شعر هو كما سمعت ذات يوم من تيد هيوز في دكا البنغالية، ما يشبه الشعر، وما يشبه الشيء هو في الحقيقة نقيضه لأنه باختصار يذكرنا بغيابه!
بقي ان اقول بأن استخدامي لجرة قدم في الكلام عن نجنسكي هو عيّنة مقصودة للطرافة في قطع المتواليات.

القدس العربي
2011-09-09