عبدالله السفر
(السعودية)

عبدالله السفرالزمن ترمومتر لا يتوقف نبضُ زئبقه عن القياس؛ قياس ما هو خارجي في حركة الحياة بخطها الممتدّ من نقطة معلومة إلى أخرى مجهولة.. قياس ما هو داخلي ينبذر في الذات ربما بشكل عشوائي لا يمكن له الانتظام إلا في هيئة أثر يحمل بصمةً أو ظلاً ربما يكون مواربا لتلك الحركة الخارجيّة التي تتقوّض في مجرى الزمن العام، فيتمّ تفتيتها أو تفصيلها ضمن حيّز صغير هو الغلاف أو الإطار لتجربة الوجود بما هي تجربة ذاتيّة يتمرأى فيها الوعي محاولاً تملّك ما يُسمّى بـ "زمن الديمومة" حيث يتعالق في لحظة واحدة الماضي والحاضر والمستقبل؛ وجهاً يختبر الوجود في الحضور والغياب، حيث تغدو تلك اللحظة سهما يتأرجح بين الامتلاء والخواء.. التردّد بين الفجوات المتروكة على جدار العمر.

العلاقة بالزمن نجدها ماثلة في نص "الالتفات" للشاعر محمد الحرز:

(الالتفاتُ
يتركُ
ضحاياه
مبللين
بما تبقّى
من مطر تلك النظرات.
الالتفاتُ
يذهبُ
مع الذاهبين
إلى ذكرياتهم.
أبداً..
الالتفاتُ
لم يعد إلى نفسه.
انقطعَ الوراءُ
والأمامُ يسرعُ كقطارٍ
بعيداً عنك.
أنت لم تزل
تردمُ الفجوةَ بينهما
بقليلٍ من المجاز،
وكثيرٍ من الحنين).

كلمة "الالتفات" أو "التلفّت" لها مكان محفور في الذاكرة الشعريّة العربية شيّده الشريف الرضي عبر بيته المشهور: (وتلفّتتْ عيني فمذ خفيَتْ/ عنّي الطّلولُ تلفّتَ القلبُ).. عذابُ الالتفات باختباره في الجوارح يتمدّد عميقاً، ويترحّل من الأعضاء إلى الداخل؛ غامرا الكيان في شموليّة تتحوّل معه الواقعة الموضوعية إلى أثر منتشر يطبع النظرة إلى العالم وإلى الوجود فيه.
هنا لا يكون "الالتفات" مجرّد كلمة تلتئم مع دلالةٍ قريبة. ثمّة حضور وتوسّع يريد أن يرادف الزمن نفسه. الكلمة تتنقّل مشهديّا وفي حركة مطابقة تهجس بالأثر الزمني وتشير إليه، عبر تكرارٍ تراكمي، يسعى الشاعر إلى تجسيده في لقطاتٍ متتابعة، ترتكز على المفردة لكنه يعيد تدويرها بلونٍ مغاير، يحكم القبض عليه بمزيدٍ من الدّقة والانتباه وبحرصٍ يتبدّى في التكثيف والاختزال، من خلال توزيع النص على خمسة مقاطع عمادُها الصورة وشعريّتها الملتحمة بالوجود الكلّي للذات.
هي معاينة تقول الذاكرة فيما هي تقول الآن بضحاياه الموقوفين على المفارق بحفنة النظرات اللدنة الرطبة التي سرعان ما تجفّ، وتفرّ إلى الوراء وحالها "هيهات". كلّ ما يتجمّع ويُرصَد؛ يتفلّت متبدّداً. مراوحة عبثيّة لا يتحصّل عنها إلا الدُّوار والاقتلاع: أبداً../ الالتفاتُ/ لم يعد إلى نفسه.
الوجود المعلّق البرزخي.. التوتّر الدرامي بين الوراء والأمام، حيث الفجوة التي تثغر الشّعور بانتظار تثقلُ وطأته وتتفاقم، يبقى الكاتب يشاغله بوجودٍ آخر هو الوجود الشعري العصيّ على التبدّد. ألم يقل رينيه شار (إن الصورة تظلّ تلمع متحدّيةً الكينونة والزمن).