ضبط المسافات والحرية ضمن مشروع ثقافي

عيسى مخلوف

الفرنسي بيار أوغست رينوار عند صدور العدد الأول من مجلة «جسد»، سألني بعض الأصدقاء عن السبب الذي دفعني إلى الكتابة فيها. وكان السؤال يخفي، بدون شك، جواباً مضمَراً. كانت مشاركتي تتمحور حول مشهد العري الياباني انطلاقاً من رسم طباعي يحمل توقيع الفنان التشكيلي الياباني هوكوساي (1760-1849) الذي طبع الفن الياباني في القرن التاسع عشر وترك أثره على الفن الفرنسي وبالأخص على فنانين من أمثال فان غوغ. أما رسم هوكوساي فكان يُعرَض ضمن مجموعة رائعة من المحفورات والرسوم، ومنها ما يمثّل لحظة جماع بين رجل وامرأة. المعرض أقيم الربيع الماضي في متحف «غيميه» الباريسي المختص بالفنون الآسيوية، وكنت شاهدته ثلاث مرات، إحداها برفقة الفنانة التشكيلية والشاعرة إيتيل عدنان، ومرة أخرى بصحبة الشاعر عباس بيضون.

من خلال الحديث عن العري في لوحة هوكوساي تحدثتُ، باقتضاب شديد، عن العري في الفن والأدب اليابانيين. ووجدتُ أن دعوة الشاعرة جمانة حداد إلى وليمة الجسد لا تخلو من جرأة ومجازفة. وما كنت أدرك شيئاً عن الخط العام للمجلة وتوجهها ما عدا بعض العناوين العريضة التي ذكرتها أمامي رئيسة تحريرها، وبعض الأسماء المشاركة فيها.

لدى قراءتي للعدد الأول، حاولتُ البحث عن منطلقات هذا المشروع وهاجسه الفعلي وتساءلت عما إذا كانت الرؤية التي وجّهت المجلة قد أخذت في الاعتبار بعض المسائل وطرحت على نفسها بعض الأسئلة : كيف نقارب الجسد في عالمنا العربي الراهن وفي مرحلة يهيمن عليها نهج التحريم والتكفير بسبب هيمنة الصوت المتزمت والمتشدد دينياً، وليد فشل الأنظمة العربية التي لم تفعل شيئاً لإقامة مجتمعات ديموقراطية مدنية؟ هل يكفي أن نقول إنّ المورث العربي والإسلامي يحفل بالكثير من النصوص التي تناولت الجسد وعلاقاته الحميمة بحرية تامة لكي نحمي أنفسنا من ردود الفعل على مثل هذا المشروع الذي يأتي في وقت ترزح فيه مجتمعاتنا تحت وطأة الجهل والتخلف والبطالة، وصعود القوى المتطرفة؟ وهل ينفع القول إنّ العرب والمسلمين كانوا في موروثهم الثقافي أكثر تحرراً وجرأة عما هم عليه اليوم؟ هل أخذت المجلة في الاعتبار الوضع العربي العام، بل لحظة التراجع التاريخية التي يعيشها في مختلف المجالات وبالأخص المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي؟ هل رأت كيف لا يزال يعامل الجسد، وجسد المرأة بالأخص، في بعض مجتمعاتنا؟ هل التفتت إلى الحجاب والنسبة المرتفعة في ارتدائه (يكفي هنا أن ننظر إلى صورة تمّ التقاطها في القاهرة في الستينيات من القرن العشرين، أثناء أمسية غنائية لأم كلثوم، لإدراك الفرق الحاصل على هذا المستوى منذ عقود حتى اليوم)؟ هل التفتت أيضاً إلى «ثقافة البكارة» وإلى «جرائم الشرف» (لاحظوا وضع هاتين الكلمتين المتناقضتين جنباً إلى جنب!)، تلك الجرائم المرعبة التي تدفع أباً أو أخاً أو زوجاً إلى ذبح الزوجة أو الوالدة أو الأخت لمجرّد الشكّ في أنّ إحداهنّ خرجت مع رجل؟

كتابات بعض المفكرين والفلاسفة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في فرنسا مهّدت لانتفاضة أيار 68 الطلابية ولما تمّ اعتباره «الثورة الجنسية»، كما سبقت تلك الثورة وواكبتها أيضاً كتابات عدد من المفكرين والكتاب ومنهم جورج باتاي، ميشال ليريس، سارتر، سيمون دو بوفوار، ميشال فوكو، جاك ديريدا، بيار بورديو... نحن، في العالم العربي، لا نزال في مرحلة ما قبل كتاب «الجنس الثاني» لبوفوار، فما الذي يمهّد عندنا لمثل تلك الثورة وهل أنّ المجتمع الذي نعيش فيه قادر على استيعابها الآن، وهو الذي لم يستوعب بعد كل الهزائم التي لحقت به منذ هزيمة حزيران 1967 حتى اليوم؟ وهل توقفت مجلة «جسد» في خلفياتها وفلسفتها عند التردي الثقافي والتخلّي عن القراءة والانشداد نحو الغيبيات وما يرافقها من مصادرة ورقابة ونفي وإقصاء يبلغ أحياناً حدّ الموت؟
أي مشروع ثقافي؟
لا تدّعي مجلة «جسد» الانطلاق من فلسفة تثويرية، بل هي تريد أن ترمي حصاة وسط الماء الراكد. وفي الافتتاحية التي وقّعتها جمانة حداد كلام قليل عن المشروع. مفتتح الكلام وقفة إلى جانب الجسد وخوض «مغامرة الحرية»، «لأن الجسد، بحسب حداد، حقيقتنا جميعاً، الفردية والجماعية. وهو هويتنا ومرآتنا، وعلامتنا الفارقة، ولغتنا وبوصلتنا، والطريق إلى كلّ واحد منا. ثم لأن هذا الجسد مغيّب عن حياتنا وثقافتنا ولغتنا العربية، وإذا كان يحضر فهو يحضر مهاناً، ومشوّهاً، ومداناً، أو منتقصاً، في حين أنه كلّ شيء». وينتقل كلام الافتتاحية بسرعة «من التنظير إلى التطبيق».
الخطّ العام للمجلة حددته صاحبة المجلّة، أما المشاركون في الكتابة والذين أعطيت لهم الحرية الكاملة في التعبير فلم يؤلّفوا تياراً ولا حركة، ولا شاركوا في توجّه عمل بهذه الخطورة وهذه الأهمية. صوت واحد إذاً، هو صوت شاعرة لم تلق على عاتقها مسؤولية التنظير، أي إيلاء الأهمية اللازمة للمواقف الفكرية والفلسفية التي يمكن أن تساعد في دعم مشروعها وتسويغه وفي تشكيل قاعدة نظرية له. ربما كان لا يعنيها مقاربة الجسد بهذه الطريقة بقدر ما يعنيها أن تنطح بقرنَيها هذه الجثة الماثلة أمامها، جثة العادات والتقاليد البالية التي تعفّنت ولم تعد تطاق لكنها لا تزال مدعومة بالإيديولوجيتين السياسية والدينية ولا يزال ملايين الأشخاص، وهم ضحاياها في الغالب، يسجدون أمامها ويقدّمون لها القرابين.
الذين شاركوا في الكتابة في مجلّة «جسد» لم يكونوا جزءاً من مشروع ثقافي، بل كانوا ضيوفاً لفكرة مستحبّة تغلّفها حرية التعبير وكسر التابوهات وبالأخصّ الدين والجنس، وهما على أي حال سلاحان أساسيان في أيدي أنظمة الاستبداد المفلسة على جميع الأصعدة والتي تعيش في موقع نزاع عميق مع مجتمعاتها، ولا شرعية فعلية لها منذ لحظة نيل استقلالاتها الوطنية حتى اليوم.

جمانة حداد يحلو لها أن تتحدث في قصيدتها عن العضو الذكري فتتحدث عنه، وتفرد له ملفاً في مجلتها، وتشهره راية في وجه الذين لا يريدونه إلاّ سراً من الأسرار وأداة قتل في الظلام، كما يحلو لها أن تتحدث عن فرج المرأة وأمواجه وأسراره، كأنها جنية وثنية ترقص بلا وجل فوق أكوام المحرمات ولا تخشى المتربصين بها من المصابين بكآبة الكهنوت واللوثة الدينية والبؤس الجنسي. واللافت في السنوات الأخيرة، وهذه أيضاً مسألة تستحق الاهتمام، تزايد النصوص الأدبية التي تحمل تواقيع نساء عربيات، داخل العالم العربي وخارجه، والتي تنفتح بحرّية على الجسد والجنس، ومن هذه الأقلام، على سبيل المثال، علويّة صبح، عالية ممدوح، هدى بركات، نجوى بركات، حزامة حبايب، مرام المصري، هيفاء البيطار، وأخيراً سلوى النعيمي في كتابها «برهان العسل»، وهو برهان على أنّ ثمة لغة جديدة تأتي على لسان الكاتبات، وهنّ هنا كشهرزادات يروين حكاياتهنّ، وربما يصيبهن الحظ كما أصاب شهرزاد في «ألف ليلة وليلة» واستطاعت أن تحوّل شهريار الفظ، الجاهل والقاتل، إلى شخص آخر، متعلّم وأنيس، وذلك بفضل أخبارها ومروياتها المليئة بالسحر والشعر والغواية، وكذلك بالعلم والمعرفة.

منطلق للحوار

أتساءل: لماذا لا تكون مجلة «جسد» منطلقاً لحوار عميق حول الجسد ولسجال يتجاوز التشهير والاتهامات السهلة وأخلاقيات رجال الدين، في اتجاه يدفع نحو النقد الموضوعي.
الثورة الجنسية التي ارتبطت في الغرب بأسماء فلاسفة ومفكرين وعلماء تحليل نفسي من أمثال ويلهلم رايخ وهربرت ماركوز كشفت عن الدور الذي لعبته البورجوازية في عدم الوصول إلى التحرر الجنسي واستثمار الجسد في مشاريع أخرى غير الجنس (العمل، الانخراط في الجيش، الرياضة...).

من جهتها، ركّزت النازية على الفحولة إلى حدّ الهذيان. يقول الفيلسوف فلاديمير جانكيليفتش في وصفه للنزعة النازية: «الناس في المطابخ، الرجال في المخيمات العسكرية، الرجال مع الرجال». المجتمع الذكوري هو الذي يجسد تمجيد القوة وتلك الروح الرياضية التي عرفناها في الدورة الأولمبية التي جرت في ألمانيا في مرحلة الحكم النازي، ونعرفها كذلك في دورات أولمبية أخرى في العالم. إرنست جونغر تحدث عن «الجسد النازي» الذي يتمّ تطويعه عبر الرياضة البدنية بغية بلوغ الكمال الجسماني. كان هتلر ينصح جميع الألمان بممارسة رياضة الملاكمة. الجسد، هنا، وعاء للعنف. إنه جسد الحقد الذي تعبّر عنه، في كثير من الأحيان، المباراة الرياضية في الملاعب الكبرى والتي تجري أمام حشود جاءت تفرّغ مكبوتاتها، حتى أنّ بعض المشاهدين في بعض الملاعب الأوروبية يقلّد صياح القرود كلما نزل لاعب أسود إلى الملعب!

المفارقة أنّ التقاليد تقف في وجه تحرر الجسد لكنها لا تفتأ تبرر استعباد الآخرين واستغلال أجساد العمّال والخدم والتعامل معهم بصفتهم عبيداً والمتاجرة بهم. هذا النظام نفسه يجيز تسليع الجسد ولا يضيره النظر مثلاً إلى إعلان يكشف عن امرأة تقف شبه عارية قرب سيارة للبيع أو قرب غسالة أو دولاب كاوتشوك أو أي بضاعة أخرى يراد تسويقها.
تشييء الجسد في النظام الرأسمالي بلغ أوجه على الشاشة الصغيرة. والدماء التي تسيل أمامنا ليست دماء القتلى المزيفين في السينما وإنما هي دماء حقيقية. إنها دماء القتلى الذين يموتون فعلاً أمام أعيننا فيما نحن نتناول طعام العشاء أو نشرب كأساً من النبيذ فتضؤل المسافة بين الواقع وتمثيل الواقع، كما يضؤل الإحساس بما تنقله لنا الصور.
الشاشة الصغيرة تظهر الرعب والحروب مباشرة. الواقع يتجاوز المتخيل وهذا ما رأيناه بشكل خاصّ في اصطدام الطائرتين ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. لحظة الاصطدام. الفجوة الكبيرة. كتلة النار وأولئك الذين كانوا يقفزون من النوافذ هرباً من الحريق. ثمّ لحظة انهيار المبنيين وغيوم الدخان المتصاعد.

الأجساد التي كانت ترتمي من الطوابق العليا بدت على الشاشة الصغيرة نقاطاً سوداء متهاوية لا أجساداً من لحم ودم. مجرّد نقاط سوداء. كنا كمشاهدين ننتظر مشاهدتها ثانيةً لندقق أكثر في هبوطها ولنشعر في لاوعينا الباطن بأن الذي يقف في النافذة المشتعلة، نصفه إلى النار ونصفه الآخر إلى الهاوية، ليس نحن من يجلس على الأريكة مرتاحاً. بل كأن نظرتنا السلبية تلك إنما تنطوي على شيء من الانتقام من موتنا الآتي لا محالة.
إنه المسرح الحيّ تنقله الشاشات لملايين المشاهدين في العالم مثلما تنقل ألعاب كرة القدم. في عصور غابرة، في «الكولوزيوم» في روما، كانت الأسود تمزّق أجساد المساجين والمغضوب عليهم، على مرأى من الإمبراطور وعائلته وحاشيته.

بمثل هذه المشاهد الوحشية، وبمشاهد البورنوغرافيا أيضاً والتي تزدهر بعد منتصف الليل، يربح التلفزيون أكثر ويستقطب نسبة أكبر من المشاهدين وتصبح صناعة الإعلانات مرادفاً للمتاجرة بالأجساد والموت. هكذا يـسمح لنا التلفزيون أن نشاهد حروبنا وهمجيتنا وطرائق استهلاكنا وابتذال وجودنا (ونادراً ما يلتفت إلى الجمال)، ويصوّر الحياة نازعاً عنها حركتها العميقة فتستحيل عند البعض لحظة انتظار طويلة للموت.

تستسيغ المجتمعات، بصورة عامة، رؤية الجسد المعذَّب. تقبل أن يكون الجسد وعاء للأمراض والآلام ونهباً للموت، أكثر مما تقبل به أرضاً للحب والرغبة والملذّات. كأن تحرر الأجساد يشكل عبئاً على المجتمع والدولة وتهديداً لهما.
الجسد والدين
منكسراً يحضر الجسد في النصوص الدينية أيضاً. معذّباً، مطعوناً ومتلاشياً في الموت. جسد المسيح أولاً، ثمّ جسد القديس سبستيانوس. وصرخة القديس بولس الرسول: «من يخلّصني من جسد الموت». ذكوريّ، بولس الرسول، وكان يخشى من المرأة ويكره الجسد والجنس. كلّ من يقترب من هذا الوهج يسقط في نار الخطيئة. في رسالته إلى أهل كورنثوس، لا يتردد في مطالبة المرأة بتغطية رأسها بينما «الرجل لا ينبغي أن يغطّي رأسه لكونه صورة الله ومجده» (11. 4-7). قبله، في التوراة، نقرأ الآتي: «بالآلام تلدين». وبعده، في القرآن، يطالعنا الجسد الخاضع للثواب والعقاب.
يكفي أن نستمع إلى فتاوى رجال الدين في السنوات الأخيرة، وهي في معظمها فتاوى سوريالية (ومنها فتوى إرضاع البالغين) تصلح لأن تكون أفكاراً لمسرحيات عبثية لم تراود مخيلة كتّاب المسرح الكبار من أمثال يوجين يونسكو أو صموئيل بيكيت، وتكشف إلى أيّ درك وصل بنا التخلّف. من الجانب الآخر، يحكم رئيس أساقفة بالحرم على امرأة برازيلية طلبت من الأطباء إجهاض ابنتها البالغة من العمر عشر سنوات وكانت حملت بعد تعرضها للاغتصاب. الفاتيكان بارك الخطوة. هذه الحكاية التي حدثت منذ وقت قصير في البرازيل، وبعدها حكاية البابا الذي حذّر مؤخراً من استعمال الواقي، وكان في الطائرة التي تقلّه إلى أفريقيا، هما من الحكايات التي تكفي للتدليل على أحد أوجه الذهنية الدينية ونظرتها إلى الجنس البشري، ماضياً وحاضراً.

تتكشّف الخطورة الفعلية لموقف البابا عندما نعرف أنّ مليون وستمئة ألف شخص يموتون سنوياً في أفريقيا بسبب مرض فقدان المناعة المكتسبة، وأنّ سبعة وستين في المئة من المصابين بهذا المرض يتواجدون هناك. لكن الخطاب الإيديولوجي، أيّاً كان، هو خطاب ينفصل بالضرورة عن الواقع ويفتقد للمعنى.

من جهة ثانية، تدخل في حقل الجسد، الواقعي والافتراضي على السواء، أبعاد جديدة تسهم في تحديد صورته النمطية المرغوب فيها في المرحلة الراهنة وتوظَّف من أجلها أنواع من الرياضة البدنية وأدوات التجميل بل وعمليات التجميل. الإنترنت أحد تلك الأبعاد الأساسية ويتفوّق بدوره الآن على الدور الذي اضطلعت به، في هذا المجال، السينما والشاشة الصغيرة في العقود الأخيرة.
مجلّة «جسد»
أن تنشأ في العالم العربي اليوم مجلّة تُعنى بالجسد وتتجرأ على الحديث عن أحد المحرّمات الكبرى في ثقافتنا العربية الراهنة، أمر مدهش وغريب. كيف يمكن لهذا الكائن الوَرقيّ الذي تحوّل إلى نمر مرقّط وملوّن بألف لون، أن يصدر في مجتمعات تعيش صراعات وحروباً داخلية، تتآكل فيما بينها بينما يأكلها الخارج وينهب ثرواتها. مجتمعات يحكمها نظام سياسيّ يخاف المعرفة والعلم، ويُحارب كلّ فكر حرّ، ولا ينتج كما ذكرنا إلاّ التشدّد الديني والأصوليات المزدهرة. هنا يعيش الجسد، جسد المرأة والرجل على السواء، لا سيّما جسد المرأة، مستوراً وراء ألف حجاب، حزيناً، مقهوراً، معذَّباً، غريباً عن نفسه، ميتاً وهو على قيد الحياة.
مجلّة «جسد» صرخة إدانة للذهنية الذكورية البذيئة المنتصرة. لكن من التحديات الكبرى التي تواجه هذه المجلة هو ألاّ تقع في الانتقام من تلك الذهنية ومن ردّ الفعل، بل أن تواجهها بالرؤية الموضوعية، دراسةً وبحثاً. فتلك الذهنية تنادي بالأخلاق ولا تتردد في اقتراف أبشع الجرائم. تنحر النساء تارة باسم الشرف وطوراً باسم الدين، ولا تنظر إلى المرأة كقيمة إنسانية بل كجسد عاهر، خطير ومدمِّر، ولذلك تعتقد أنه ينبغي تدميره.

اللافت في هذا المشروع الجديد الذي يصدر من بيروت أنّ التي تنهض به هي امرأة صمّمت وبجرأة أن ترفع تحية إلى الجسد في تجلّياته المختــلفة. تتحدث عن الجسد الذي به نحيا ونموت. الجسد الذي يحب والجسد الذي يكره، الجسد في جماله وفي بشاعته، في بهجته وفي وجعه. جسد الرغبة والشهوة، جسد الجروح والقروح، جسد الاستعراض وجسد الحجاب، جسد السلعة وجسد البيع والشراء، الجسد المشوّه والجسد المكتمل، جسد القهر والمكبوتات الاجتماعية، والجسد الذي يتحوّل قنبلة وينفجر مطيـحاً بنفسه وبالآخرين من حوله.

أظنّ أنّ مجلّة «جسد» ستكون القصيدة الأجمل لجمانة حداد إذا استطاعت أن تجمع حولها عدداً من المفكرين والباحثين والكتّاب والفنانين العارفين بخطورة الموضوع وأهميته، وهو موضوع لم يلقَ بعد في العالم العربي الاهتمام اللازم، فيتعمقون في أحوال الجسد وينظرون إليه من زوايا متعددة ومختلفة متسلّحين بالمعرفة العلمية التي تساعد على ضبط المسافة بين الإيروسية من جهة والبورنوغرافيا من جهة ثانية. وتكون تلك النظرة المعرفية العلمــية هي الردّ الأمثل على النظرة الغيبية القائمة على الخرافات واللاعقلانية. إنها أيضاً الردّ على السلطة التي تحكمت ولا تزال تتحكم بالجسد، لأنّ الحرية أوّل طريق المعرفة وبدونها لا معنى للإبداع والحبّ والجمال. الجسد الأسير والمكبّل لا يمكنه أن ينتج لغة حرة وفكراً حراً. وإذا ما رقص أمام أعيننا فإنما يرقص وهو مقيّد بالسلاسل.

السفير
3 ابريل 2009