عبدالرحمن النجار

رحمن النجار

السندويتش و شنينة اللبن

أدرك الآن، ان جُل ثقافتي كانت من قراءة ورق السندويتش، بعد و اثناء إلتهامي للسندويتشة. فيما صديقي الصابئي مؤيد حميد غضبان، كان يرغب بشرب شنينة اللبن. كنت اقول له؛ كل سندويتش و تثقف! لكنه رغب باللبن و شُربِهْ، كذلك النظر مليا بالكأس الفارغ و المشوب داخلِه بخيوط متبقية من الشنينة، توزعت بنظام ما على السطح الداخلي للكأس كما تخريمات ستائر الدانتيلا أو لنقل كما النزهة في غابة بيضاء مغطاة بالثلج.
كان يقول لي:

- هذا يشبه الى حد بعيد سماء ملبدة بالغيوم!

تركته في نهاية السبعينات يدرس كطيار مدني. لا بد انه الآن يعمل كطيار ينقل المسافرين من جهة الى جهة و ينظر من نافذة الطائرة الى سماء ملبدة بالغيوم، متذكراً ربما، كأس اللبن الفارغ. فيما انا لا اطير من جهة الى أخرى مثلما أخالهُ يفعل الآن، بل اكاد اجزم انني و كلما فكرت او توصلت الى فكرة ومنها فكرة الكتابة الآن، فأنني و دون ما ادري اعيد ما افكر به و اكتبه الى جذره الأول، هناك حيث قراءة ورق السندويتش اعطاني هذه الحرية في التنقل بين موتيفات مختلفة لعالمنا عبر صحافته و مجلاته و التي ما ان ينتهي اليوم او الأسبوع حتى تنتهي الى اكداس يوزعها البعض على باعة السندويتش لإستعمالها مرة اخرى في لف شطائرهم و كنت شغوفا بهذا الأمر. الأكل و القراءة. و كأن ذلك اعطاني و يعطيني الشرارة الأولى في البحث، لأذهب و ابحث عن معلومات اضافية حول مواضيع شتى.

لستُ باحثاً، كي أقدم الكثير حول موضوعة المدينة و ما تعرضه من إمكانيات الطعام للزائر، للسائح او هذا الذي تأخر و حاصره الوقت و عليه سد جوعه. لكني أقول اننا آنذاك كنا شرطاً من شروط الجيل، حيث كنا نقول و نعتقد مثلاً؛ ان الزوالف و الشارلستون و الميني جوب، إنما ثورة على الواقع الفاسد.
كانوا و مثلما يقمعون تظاهرة سلمية، تقمع شرطة الآداب أصحاب الزوالف و الخنافس، و يشقون الشارلستون و يصبغون افخاذ البنات، إن لبسوا الميني جوب. ماذا عن السندويتش؟

كي أكون منصفاً، لا يمكنني الإدعاء هنا؛ على ان الشرطة كانت تقمع أَكَلة السندويتش. لكن السندويتش بحد ذاته كان ظاهرة شبابية مدنية متحضرة، على عكس ولائم القبيلة العملاقة. كانت السندويتشة تنمي روح المدينة و التجمع الطاريء للشباب، تنمي روح الفردية الجديدة المغايرة لروح القبيلة، من خلال إختيار نوع الحشوة و القدرة على طلب السندويتشه بدون بصل او مع بصل، بدون طماطم او مع طماطم. فيما وعلى الطرف الآخر تعد الولائم القبلية للجماعة و ما من إختيارات تُذكر. حتى الأحاديث تختلف من فريق لآخر، حيث جماعة السندويتش تراهم يتحدثون عن المرأة و الجنس، عن السينما و الأدب، عن السياسة و الحضارة، على خلاف محتوى الخطاب القبلي.

و للأمانة الفكرية، لايمكنني ادراج اللبن في قائمة الظواهر الثورية آنذاك، ذلك بسبب ماللبن من آثار جانبية في التهدئة و النوم. إضافة الى انني لا استطيع ان أتصور أحدهم، يتناول " شنينة عيران!" و يكون ثورياً.

مرة و كانت أمي متذمرة، لأن عليها إعداد العشاء لأربعين عضو من أعضاء القبيلة، و اعتقد أن من حقها ان تتذمر!، قلت لها:

- لا داعي للقلق، اعرف محلاً يبيع سندويتش عشائري عبارة عن ربع جمل محمّر مع بطاطا، سأذهب و احجز لأربعين شخص!

حتى انني- و هذا انتصار للسندويتش ايضا- و في عام 1998 انشأت دارا طارئة للنشر هنا في كوبنهاكن، تابعة لمقهى الشاعر التي كنت اديرها و اصدرت كتابين شعريين، كانا انطولوجيا القراءات الشعرية في المقهى و اسميت االدار، ربع جمل و بطاطا. قد تم تسجيل الدار رسميا، و نشرت جريدة الأنفورماسيون مقالين عن الكتابيين و دار النشر. ما زلت استلم البريد الرسمي حول الدار، رغم اقفالها صيف 2001 مع المقهى.

ستة مكائن و حزبية الأدب

أذكر اني قرأت مرة في ورقة سندويتش، عن ماكنة تقف وسط العالم و تشيع الدمار و العنف، لكني و في ورقة اخرى قرأت عن الموسيقى و سمعت بإحدهم و يدعى جيمس براون و اغنيته الشهيرة حتى اليوم سكس ماشين. هكذا كتبوا عنوان الأغنية، و كنت آنذاك صبيا لا يعرف الكثير عن اللغة الأنكليزية و توقعت ان عنوان الأغنية يمكن ترجمته الى العربية على نحو ستة مكائن و اعتقدت بهذا لأني ربطته بالورقة السابقة التي تتحدث عن الماكنة التي تقف وسط العالم...الخ، و هكذا اعجبت بموضوع الأغنية من خلال ستة مكائن و اعتقدت ان الدمار اصبح مضاعفا ستة مرات من خلال هذه المكائن السته، لذلك طفقت ابحث عن هذا المغني الثوري العملاق جيمس براون.

مرة و في بغداد قرأت في ورقة سندويتش عن فلوبيرت و مدام بوفاري و القليل عن كتابه التربية العاطفية و اعجبني الموضوع. رحت اسأل عبد الزهرة الحسن و هو كاتب و شاعر شيوعي و كان آنذاك اكبر مني سناً عن الموضوع؛ فأجابني بإن فلوبيرت بما معناه يمثل الإنتقادية الغربية و الأخيرة تسيء الى فهمنا لواقعنا الطبقي، لذلك نصحني بقراءة الواقعية الإشتراكية. و هكذا طفقت ابحث عن واقعية اشتراكية، خالطا ما بين الأدب الروسي و السوفياتي دونما علم مني. هكذا وجدت نفسي أقرأ رواية الأبله لديستيوفسكي و اعجبت بالأمير ميشكين، بعد فراغي من القراءة اصبت بنوبة عصبية شديدة، ادخلوني على اثرها المشفى. بعد ان تعافيت من صدمة الرواية التي كانت اكبر من سني آنذاك و لربما حتى الآن، تقمصت دون وعي شخصية ميشكين. هكذا بدأت لي مشاكل جمة مع البيت و المدرسة و حصلت على عدد لا يحصر من الصفعات على وقاحتى و قلة تربيتي. فيما على عكس هذا، حصلت على روايتين الأولى لفلوبيرت و الثانية لكولن ويلسون و قراتهما و لم اصادف اية مصاعب، لا مشافي و لا صفعات. و إن كان هذا ما أسماه عبد الزهرة الحسن بالواقعية الغربية، فإنها مثيرة و جميلة و سلمية، علاوة على انها حفزتني على ممارسة العادة السرية بإثارة و شبق، خاصة مشهد ممارسة الجنس بين بطل رواية كولن ويلسون- هو نفسه- و سيدة من شهود يهوة.

دعوني أخلص هنا الى إستنتاج مفاده، ان حزبية الأدب و شنينة العيران، أشياء تبعث على الخدر و النوم و الصفعات، فيما الأدب العميق الإنتقادي الخالي من اية ايديولوجيا، هذا هو الذي نحن بحاجة اليه، على الأقل لممارسة شيقة للعادة السرية.

إكتشاف و مغالطة

قرأت عن شوبنهاور و توقعت لشدة صعوبة الموضوع انه الماني من اصول باكستانية.

في دمشق و من خلال سندويتش فلافل كانت الورقة من مجلة لبنانية فيها حوار مع سركون بولص عن الشعر و الحياة، كانت هذه اول مرة تسقط فيها عيني على كتابات سركون و صورته. صديقي الذي بجانبي انهى ورقته هاتفا لي:

يا اخي هذا صباح الجمعة صحفي خطير و مثقف! فقلت له على الفور و بشكل قاطع، مما أدهشه:

- لا يوجد صحفي اسمه صباح الجمعة، بل هو عنوان مقالة اسبوعية في جريدة تشرين- السورية- و الصحفي الذي يكتب الزاوية هو عبد الإله الرحيل!
- كيف عرفت، سألني؟
- قرأت ذلك بسندويتشه مقالي باذنجان، أجبته!

كلاسيك الأدب أو الرفوف العالية

مرة اخرى قرات مقابلة مع الإعلامي العراقي سامي الدروبي و برنامجه الشيق الرفوف العالية و كيف توصل الى فكرته عن البرنامج حيث يقول انه لاحظ و كلما جاءت موسيقى جديدة رفعوا القديم منها نحو رفوف اعلى و هكذا اصبح الكلاسيك من الموسيقى يرتفع من رف الى رف و صولا الى السقف ليظل هناك قابعا معانقا الغبار و النسيان لأنهم يحرصون و من اجل السرعة على ان تكون بكرات الموسيقى الجديدة في متناول اليد و هكذا جاء بفكرته عن الرفوف العالية.

هذه الفكرة مازالت حية و ستظل الى ابد الآبدين حيث الكلاسيك من حياتنا يرفع الى رفوف عالية منسية او الى سراديب تخشى الحرائق و الغرق بسبب الأمطار او المواسير.

من هذه الفكرة توصلت الى فكرة مفادها ان الكتابة ينبغي ان يكون لها ذات المصير، حيث ما نكتبه اليوم لن يحفل بالإهتمام و يظل عرضة للإستعمالية المؤقتة الطارئة، نوع من الطعام و لذلك نعود بين الحين و الآخر نحو القديم المرفوع الى رفوف عالية في ذاكرتنا و ندعوه بالأدب العظيم او الكلاسيك. ذلك نتيجة تظافر عوامل عدة منها موت المبدعين و مضي على الأقل عقودا ان لم نقل قرونا على موتهم، لذلك يتسنى لنا ان ننسى من هم كبشر و بذلك تمحى ذاكرتنا في الحكم الشخصي على نصوصهم بفعل عامل الوقت. بذلك تحتفظ كتاباتهم بجوهرها الإيحائي الذهني الإبداعي و تصويرهم لهذا الرقص الأبدي بين العقل و القلب على نحو قديم. و هذا ما يشدنا الى كتاباتهم و هذا ينطبق على الفنون الأخرى. ما يكتب الآن و من ضمنهم انا انما في بداية رحلته كي ينسى صاحبه و ان يصبر على كيانه لعقود ان لم يكن قرونا ليتخلص من سمته الشخصية. هذا الطريق الوحيد لبلوغ الكتابة و الفن خلودهما او سقوطهما في زبالة العالم الفكرية وهو معانقتها للغبار و النسيان على رفوف عالية اما تكتشف من جديد او ان تظل و هكذا.

في نهايات القرن التاسع عشر و في باريس ذهب احد الموسيقيين الشباب لا ادري من هو لأنه كانت لطعة زيت على جانب من المقال، المهم ذهب الى القصاب و اشترى اللحم و عندما عاد و جد ان القصاب لف له اللحم بورق منوط موسيقيا و بخط اليد و عندما شرع بعزف الموسيقى المنوطة على الورقة وجد انها موسيقى غريبة عن الذائقة لكنها مهولة و عاد مسرعا الى القصاب و اشترى منه كامل المجلد و كذلك عناوين من اشتروا اللحم منه خلال اسبوع و هكذا و بعد فترة انتشرت في باريس خبر جمعية تحت اسم جمعية اصدقاء يوهان سيباستيان باخ و ذلك صحيح لأن موسيقى باخ نسيت بعد وفاته لقرون. وهكذا وصلت الينا فوغا باخ.

أنتصار السندويتش

دعوني هنا أحسم هذه المسألة، لأجيب عن أنتصار السندويتش:

ان تكون ثقافتي متأتية عن طريق ورق السندويتش، ان اكون قد تحررت من المصادر العلمية العملية الأكاديمية حول عالمي الذي اعيش و سأموت فيه. بهذا ستكون لي حرية التخيل و الإنتقال من فكرة الى اخرى بنفس المقدار التي تتيحهُ لك اوراق لف السندويتش، لأنني ان اكملت قراءة ورقة فلا استطيع ان اطالب بالورقة التالية مباشرة، ذلك لأن البائع يكون باع ربما و حسب الإزدحام عشرين سندويتشه. ذلك ان علي ان اتبع مبدأ القطاف من هنا و من هناك و هذا يناسب تماما مخيلتنا، ذلك لأن ورق السندويتش و هذا رأيي يطابق مسيرة الحكاية الشعبية، حيث الحكايات تتوالى دونما تسلسل ما. الأمر يخضع للظرف اضافة الى ان الحكاية تختلف عن القصيدة، القصيدة تكتب و لا يمكن لأحد حتى و في حالة الترجمة ان يتصرف بها، في حين الحكاية مجهولة المؤلف، لها ذات ذكاء و مفعول القصيدة لكنها تختلف عنها بإعطائها لمن يرويها حرية التصرف الكامل بكيفية رويها.

الأعتماد في ثقافتي على ورق السندويتش يشبه الى حد بعيد طبيعتي في فهم العالم عن طريق الحكاية عوضا عن فهمه عن طريق الثقافة المدونة او العلوم، ذلك لأن الأخيرتين كانتا و ما يزالان يخضعان لتأثيرات قوية و جذرية من قبل الدولة على مر العصور، في حين الحكاية تنتمي الى عالمنا الشفاهي الأوسع و هذا مصدر حريتها. الثقافة و العلوم هو هذا السعي الدائم لفهم العالم عن طريق الفرضيات و هي في حالة تجدد دائم مثل تيار النهر في حين الحكاية حقيقة منجزة عن عالمنا و لا تتغير، لذلك يمكن الإطمئنان لخبرتها و كشف الدوافع البشرية كمثال لا الحصر.

ناهيك عن ان العلوم و الثقافة بحاجة الى مكاتب و مختبرات و نقل و ايدي عاملة في حين الحكاية ليست بحاجة لأي من هذا او ذاك، كاسة شاي و ابوك الله يرحمه! يعني ارخص و اقرب الى عرينا.

و اسمحوا لي ان استخلص هنا فقرنا إزاء انتشار الثقافة و العلوم، حيث ان الوقت الذي نحياة، قد انحسر فيه و انعدم ولادة المثل الشعبي او الحكاية، خذ اي مثل على سجيته، خذ اية حكاية و ستجد انها دائمة الحضور و المعنى، و لسوف يتمنى اي كاتب، مثقف او شاعر ان تكون لكتاباته شهرة و شعبية المثل و الحكاية، و لربما قصدت هنا شهرة و شعبية النثر، حتى ان أخبار و مقالب المغفلين و العيارين الشطار قد إختفت.

ما يؤرقني الآن هو انحسار ظاهرة ورق السندويتش، حيث مراكز البيع بدأت بتصنيع ورق خاص للف السندويتش، عادة ما يكون ملونا او برسمة تاج ملكي يتكرر على طول و عرض الورقة، او طباعة اسم المحل عليه، لذلك اصبح اكل السندويتش اليوم خاليا من اية متعة و كأن الأمر يتعلق فقط بالأكل، في حين كان محل االسندويتش يشبه مكتبه. حتى الطريقة التي تعكمش بها ورقة السندويتش و ترمى في سطل الزبالة او بجانبها اصبحت بلا قيمة و لا تدل على احترام المعرفة و التثقف. و غالبا ما ينتهي الزبون بعكمشتها و مسح بوزه من بقايا الصلصة و رميها بإحتقار ولا ابالية وهذا في الواقع خطير لأنه لا ينمي هذا التواضع الجميل في طقس الإنتهاء من السندويتش آنذاك و هذا محزن حقا.