أسعد الجبوري «تسونامي شعري» أم سريالية متفاوتة الجودة؟

استقبلت دواوينه بمزيج من الدهشة والاستغراب منذ «ذبحت الحلم هل ذبحت الوردة» (1977). قراءة في تجربة الشاعر العراقي الذي يواصل اللعب على التلقائية وخلط الحواس وتكسير الجملة وتجهيل المعنى، في مجموعته الجديدة «على وشك الأسبرين» (دار الينابيع)
حسين بن حمزة

بينما كان شعراء نهاية السبعينيات في أكثر من بلد عربي يطمحون إلى تحقيق انعطافة شعرية قوية، في اتجاه ما سيدعى لاحقاً بـ«الحداثة الثانية»، وبينما كان عراقيو ذلك الجيل يسجلون بعض التمايزات الجوهرية عن الجيل الذي سبقهم، سلك أسعد الجبوري (1951) درباً ضيقة أبعدته عن الجميع تقريباً. هذا توصيف لا يحمل حكم قيمة بالطبع. إنه تمهيد إجرائي وتأريخي لتحديد «خصوصية» هذا الشاعر الذي بدأ النشر في دمشق، بعد هروبه من العراق، واستُقبلت دواوينه بخليط من الدهشة والاستغراب، وخصوصاً باكورته «ذبحت الحلم هل ذبحت الوردة» (1977) التي أصدرها باسم مستعار، هو «نيوسيفسكي». ثم دواوينه التالية: «صخب طيور مشاكسة» (1978)، و«أولمبياد اللغة المؤجلة» (1980)، و«ليس للرسم فواصل ليس للخطيئة شاشة» (1980)... التي بدت عناوينها الغريبة والجذابة أشبه بألعابٍ نارية ملونة، مقارنة بالجدية التي طبعت دواوين مجايليه. المشكلة أن الغرابة والجاذبية تحولتا إلى دمغة دائمة، وأوقفتا القراء والنقاد عند حدود هذا الوصف، من دون النفاذ إلى تفاصيل تجربة الشاعر الذي اعتُبر سريالياً... وكفى. الواقع أن تجاهل تجربة الجبوري، وتجارب سرياليين عرب آخرين، تعود إلى أسباب عدة، لعل أهمها أن السريالية لم تحظ بالحد الأدنى من الرواج في الشعر العربي، وظلت ممارسة هامشية اكتفت من السريالية ـــ التي لفظت أنفاسها بسرعة في الغرب ـــ ببياناتها وتعريفاتها الكبرى. هناك التماعات عدّة في بعض هذه الممارسات، كما هي الحال لدى جورج حنين وجويس منصور وعلي الناصر وعبد القادر الجنابي... لكنها أبقت أصحابها على حدة، رغم بعض التقدير الذي استحقوه.
داخل هذا السياق، يمكن النظر إلى تجربة صاحب موقع «الإمبراطور» بوصفها استئنافاً لتقاليد سريالية صافية تقريباً، حيث الكتابة مدينةٌ للتلقائية وخلط الحواس وتكسير الجملة وتجهيل المعنى. جرَّأت السريالية الشعراء على اللغة. عُوملت كطبقة تخييل إضافية. ذابت آثارها في تجاربهم، بينما واظب الجبوري على جعلها تعبيراً عن حرية غير محدودة في إنجاز «نص شعري يزعزع القناعات القديمة، ويختلف مع غالبية التجارب الشعرية العربية»، معتبراً أنّ «الشاعر بنك خيالٍ. وإن لم يكن كذلك، فهو شرطي لتنظيم مرور الكلمات فقط».
مجموعته الجديدة «على وشك الأسبرين» (دار الينابيع)، وهي الحادية عشرة له، لا تختلف كثيراً عما عهدناه في أعماله السابقة. هكذ، تتوالى قصائد مثل: «لحم القاموس المدخّن»، و«الجسد سلسلة مطاعم»، و«شمس كاملة الدسم». الطرافة المنبعثة من هذه العناوين تتواصل أحياناً داخل جسم القصيدة، فنقرأ مقاطع مقنعة مثل: «ما أشدّ البلاغة/ عندما تنضج الروح ثمرةً مفككة البراغي/ ووشيكة العراء دون مساحيق/ كأن كل شيء يستمر بتفريغ العاشق من الأثاث القديم/ ووحدها لا تتألم/ تلك الثياب الملقاة على الرمال في اللوحة». وفي مقاطع أخرى، تتحول الطرافة إلى عراكٍ لغوي غير مُنتج: «كيف تعرّض هيكله لمثل ذلك الانهدام؟/ لقد شرب البطل المسرحية وسقط ثملاً خارج الكواليس/ وحدهُ أتاه السكرُ أم ساقه النص مع الكومبارس؟/ لا أعرف، ربما لأن الستارة وقعت على الممثلين فغطّت عُريهم/ وأين كنتَ من ذلك المشهد؟/ كنت مع عمال الطوارئ نصيد الحشرات في كاتب النص».
الجملة خشنة ومتوترة في الحالتين، لكنها تنقل العدوى إلى المتلقي بلطفٍ في الأولى، وتتعارك معه في الثانية. هل المذاق السريالي ممتع أكثر، حين يتخفف من سرياليته الفظّة أو المبالغ فيها؟ وهل تصبح السريالية مقبولة أكثر كلما اقتربت من الشعر الآخر الذي يُفترض أن تزدريه وتخاصمه؟ لا يكف صاحب «طيران فوق النهار» (1995) عن إثارة تساؤلات كهذه لدى القارئ، فهو يشبّه تجربته بـ «تسونامي شعري يهدد سلامة العقل النقدي، ويفضح أدواته التقليدية التي لا تُدرك غير المستدرَك». وينقل هذا التنظير إلى نصوصه أيضاً: «من الآن فصاعداً، وابلٌ من الرصاص على الكلمات، كي تقفز من الحظيرة نحو البحر. هكذا يقترح المغامرون وهم يسوقون العواصف بأقدامهم المدماة. يحدث هذا لشقّ صدر اللغة الأم، وتنظيف ثيابها من حليب قديم ونعوتٍ مهدمة من النصوص التي يسيطر عليها النوم الإيحائي».
يستسيغ القارئ هذا الضرب من الكتابة التي تختلط فيه بطموحاتها ومكوناتها وأفكارها الخام. لكنه لا يجد دوماً ترجمات لائقة بهذه الطموحات التي تتحول أحياناً إلى محض تذمّرٍ شعري. هكذا، تظل قصائد الديوان، وتجربة الجبوري عموماً، محكومة بسريالية متفاوتة الجودة. أحياناً نقرأ صوراً مقنعة أو طريفة مثل: «سيكون الأمل فاكهةً صغيرة السن»، و«ما منْ حبٍّ متساوي الأضلاع»، و«لم تعد المرأة عاصمةً للتنانير فقط»، إلى جانب صور مصنوعة من غرابة فجة ومسبقة الصنع: «عندما تضع المرايا لولباً، لئلّا تحبل بميكروبات الصور القلقة»، و«أسمع الآن نقيق الضفادع في مجاري العقل».
في النهاية، لا يمكن نفي قدرة السريالية على تعزيز الخيال وإثراء المعجم، بل إن مطالعة تجارب سريالية تصلح أحياناً لإزالة بعض الصدأ عن تجارب الشعر العادية، وتحفيز أصحابها على ارتياد مناطق مهملة وغير مأهولة.

******

«أنطولوجيا الشعر العربي» تبحث عن ناشر

خليل صويلح

ينتظر أسعد الجبوري مؤسسة ثقافية، أو دار نشر عربية كبرى، تتبنى مشروعه الموسوعي الضخم «أنطولوجيا الشعر العربي». وكان الشاعر العراقي المقيم في الدنمارك قد أنجز هذه الأنطولوجيا في 18 مجلداً، تغطي نحو نصف قرن من تاريخ الشعر العربي (1950 ـــ 2010)، موزعة على البلدان العربية كلها، علماً بأنّها أول أنطولوجيا شاملة ترصد الحركة الشعرية العربية في مختلف أطيافها، وتياراتها، ومدارسها، من تجارب بدر شاكر السياب ونزار قباني وأدونيس، إلى أحدث تجارب قصيدة النثر العربية. ويتوقف المشروع عند أبرز الأصوات الشعرية اللاحقة التي حرثت عميقاً في تأصيل بنية هذا النص، ووضعته أمام مفترق حاسم، والجبوري ـــ حسبما يؤكّد ـــ منحاز إلى الشعرية أولاً، بصرف النظر عن سطوة الأسماء.
تأتي أهمية هذه الأنطولوجيا، خلافاً لما سبقها من مشاريع مشابهة، من عمليات الرصد والتوثيق والأرشفة البيبلوغرافية، إلى سبر نقدي لأبرز الدراسات والحوارات التي تناولت أعمال هذا الشاعر أو ذاك، ما يشكّل صورة بانورامية عن حياة الشاعر، وخصوصية تجربته في المشهد الشعري المحلي أولاً، والعربي ثانياً.
لا يكتفي صاحب «أولمبياد اللغة المؤجلة» بذائقته وحدها في تقويم النصوص المختارة، بل يتكئ على دراسات نقدية معمّقة، أسست لحركة الشعر واتجاهاته وتقنياته، بهدف سد الفراغات التي تخص كل تجربة عربية على حدة.
بدأت فكرة هذه الأنطولوجيا منذ سنوات، حين اشتكى أكاديمي دنماركي مهتم بتاريخ الشعر العربي المعاصر من ندرة النصوص العربية في اللغة الدنماركية، واقترح على الشاعر العراقي إنجاز مختارات من الشعر العربي لتدريسها للطلاب الأجانب في إحدى جامعات كوبنهاغن. لكن المشروع اتخذ منحى آخر، وذهب نحو تأريخ الحداثة الشعرية العربية، مستفيداً من أرشيف الموقع الإلكتروني الذي يديره الجبوري باسم «الإمبراطور». وهو واحد من أبرز المواقع العربية في استقطاب النصوص الشعرية النافرة. وإذا به، كما يقول، أمام كمّ هائل من النصوص لشعراء طالما كانوا خارج التصنيف، أو الاهتمام، وخصوصاً تلك النصوص التي تأتي من الأطراف، وليس المركز وحسب.
الجديد في هذه الأنطولوجيا، يتمثّل في تجاوزها حدود الشعر العربي، لتتعداه إلى الشعراء العرب، ممن يكتبون بلغات أجنبية. وهم مجهولون غالباً لقرّاء لغة الضاد. كما يتضمن المشروع أنطولوجيات أخرى ترصد الشعر الفرنكوفوني، والكردي، والتركماني، والأمازيغي، إلى جانب أنطولوجيا خاصة تسجّل حركة شعر العامية في العالم العربي وتاريخه (زجل، وشعبي، ونبطي، ومحكي، وبدوي...).
لا يعلم أسعد الجبوري اليوم، مصير هذه المشروع، بعدما اعتذرت أكثر من مؤسسة رسمية، وعاصمة ثقافية عربية عن عدم تبنيه. حتّى الآن، بقي الأمر قيد الوعود والحماسة الشفوية، لكنه ربما يصدره في أسطوانة مدمجة، يقول ذلك، وهو يشير إلى «الفلاش ميموري» التي تتدلى من عنقه مثل قلادة.

الاخبار
7-9-2011