ِدْغَرْ ألن بو: "أفضَلُ ما يمكن أن يفعله أفضل أصدقائي هو أن يُفجِّر دماغي بمسدَّس"

اليوم، الثلاثاء 7 أكتوبر 2008

(1 – 2)

عبدالله حبيب
(عمان)

"لم يكن الشِّعر غرضاً بالنسبة إليَّ، بل هيام، وينبغي تشريف الهيامات. لا ينبغي ولا يمكن استتثارتها إراديَّاً رجاءَ التعويضات الحقيرة، أو المدائح الأكثر حقارةً أيضاً، الصَّادرة عن البَشر"

--- إِدْغَرْ ألن بو --

الذكرى المائة والتاسعة والخمسون لرحيل "غُرَاب" الأدب الأمريكيلا أدري أية "مصادفة" أن تتزامن اليوم ذكرى وفاة الشاعر الأمريكي الأشهر إِدْغَرْ ألن بو هذه مع الأمسية التذكاريَّة التي ينظمها النادي الثقافي في هذا المساء احتفاءً بالشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش الذي مات في أمريكا وغادرنا إلى الديار السَّرمديَّة التي يقطن فيها ِدْغَرْ ألن بو. لا أدري لِمَ على نقيضين مُطْلَقين في كل شيئ مثل فلسطين والولايات المتحدة الأمريكية أن يجتمعا في الشِّعر- في الشِّعر وحده، وفي الشِّعر فقط. ولا أدري أية "مصادفة" هذي أن على شخصي المتواضع أن يقوم بنشر الجزء الأول من هذه المادة عن الشاعر الأمريكي في النهار، وأن يقوم بتقديم أمسية الشاعر الفلسطيني في الليل. ترى كيف أستطيع أن أحتمل هذا كلَّه دفعة واحدة؟. كيف؟. "يا إلهي: أَعِنْ روحي البائسة".
لا أدري، ولكن ما سأقوله حَدَثَ في صيف 1989 في منطقة البرونكس بمدينة نيويورك: شاهدنا- صديقي الناشر حاتم الطائي وأنا- المقعد الهزَّاز الذي كان يؤرجح عليه العالم بين الكتابة والموت وهو يدخن غليونه مستمتعاً بالالتماعات الحريقيَّة التي يُضَبِّبُ دخانها الدامي ما تستحضره ذاكرتي في هذه الليلة الرماديَّة على انه مشجَبٌ خشبيٌّ كان يعلّق عليه ذكرياته الدافئة بجبروت الموت، أو معطفه المنسوج من بكاء وغيوم. شاهدنا كذلك قطعة أثاث خشبيَّة عتيقة مثل روحه القديمة تعلوها مرآة لا يزال يُطِلُّ منها الوجه الودود والحزين لواحد من أكثر كتَّاب القرن التاسع عشر الأمريكيين مأساويَّة وتجديديَّة. ثم قال لنا المرشد السياحي الذي كان يؤدي واجبه الوظيفي بصورة تخجل منها المكائن: "سآخذكم الآن إلى غرفة النوم التي ماتت فيها فرجينيا".

تقدَّم حاتم وأنا ببطء جنائزيٍّ إلى الغرفة ذات الجدران الخشبيَّة المطليَّة باللون الأبيض المُجدَّد النَّاشجة في حنين يائس إلى أغصان أمَّهاتها قُبُلات آخر الليل التي لا يزال ريقها يشهق ويزفر بأنفاسهما الساخنة وهي تلفح خدَّك، وعنقك، وشفتيك، وجبينك حين تدلف إلى الحجرة، فتُشْعِرُكَ بالخجل لتلصُّصك الإضطراري الذي دفعت ثمنه نقداً. إنها الغرفة التي كتب فيها إِدْغَرْ ألن بو واحدة من أكثر القصائد تمزيقاً للقلب في تاريخ الشعر الأمريكي- "أنابيل لي". قال المرشد السِّياحي الذي لم يشاركنا البطء الجنائزي في التَّقدم إلى هذه الغرفة البرزخيَّة بكافة معاني الكلمة مشيراً بسبَّابته اللامبالية نحو حنينٍ يتهدَّج قرب نافذة يكشط صدؤها ما علق بمقبض الباب من غياب: "هذا هو السرير الذي ماتت عليه فرجينيا". أغمضتُ عينيَّ بقوة كأنني فيلمٌ خامٌّ في رَحِمِ آلة تصوير سينمائيَّة توشك أن تنجب سرداً، وحاولت قَدْرَ مستطاعي أن أترك للَّحظة مغبَّة الرؤية والرؤيا معاً.

اختفت ضوضاء الشارع المطلُّ عليه كوخ إِدْغَرْ ألن بو الذي عاش فيه في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، والذي أصبح الآن متحفاً. وفي النور القُزَحيِّ الذي غمر روحي رأيت فرجينيا إلزا كْلِمْ بو وهي ممدَّدة على السرير في تلك الليلة الماطرة وشمعة ترتعش باكية عند رأسها، بينما أغلق إِدْغَرْ ألن بو الباب في وجه العالم وأنكبَّ يكتب فجيعته التي ناح بها حتى الصباح على امرأته. وفي الصباح كان النص قد اكتمل إشراقاً بحرارة الفقد، وكان على الشاعر أن يلقي نظرته الأخيرة على فرجينيا قبل أن تُدفن في غروب ستبزغ بعده في سرمديَّة العشق والقصيدة. كان قوس قزح قد أطلق آخر ألوانه إلى عينيه. لقد كتب بو قصيدته الخالدة تلك في 1849 وقد كانت آخر قصيدة كاملة يكتبها، لكنها لم تنشر إلا بعد وفاته لاحقاً في نفس العام، وكأنه لم يكن يرثي زوجته فحسب، بل كان يرثي نفسه أيضاً.

نبأٌ يروِّع كثيرين ويُحْزِنُ قليلين
"إن إِدْغَرْ ألن بو ميِّتٌ الآن. لقد توفي في بالتيمور يوم أمس الأول. هذا النبأ سيُروِّعُ كثيرين ولكن قلَّة ستحزن. لقد كان الشاعر معروفاً جداً- شخصيَّاً أو بالسُّمعة- في كل هذه البلاد، وكان له قُرَّاء في انجلترا، وفي عدة دول في القارَّة الأوروبيَّة، ولكن لم يكن له أصدقاء". هذا ما قالته الفقرة الأولى في أول خبر صحفي عن وفاة بو، والذي نشرته صحيفة "نيويورك تريبيون" في عددها الصادر صباح يوم الثلاثاء، 9 أكتوبر 1849. وهي فقرة تقول الكثير عن الكاتب، وحياته، وإنجازاته، وموته.
مات إِدْغَرْ ألن بو بطريقة تبدو انها إحدى قصائده أو قصصه القصيرة. فلنَقُل دون مخافة أن يجافينا الصواب انها القصيدة أو القصة القصيرة التي كتبها قبل ولادته- القصيدة أو القصة القصيرة التي أراد دوماً أن يكتبها واعتقدَ انه لا يستطيع. وحين أنجز كتابتها كان الوقت متأخراً جداً لأن يدرك انه كتبها بذلك الشكل الباهر الذي يليق بروحه المعذَّبة ونبوءته الجامحة. إنها الميْتَةُ/ النص التي اختص بها اولئك الاستثنائيون حياةً، وفنَّاً، وعذاباً، وموتاً، والذين تجيئ حتوفهم باعتبارها أعمال ابداعيَّة وداعيَّة تتويجاً لسيرة التَّفرد، والوجع، والاختلاف.

بلى، فبعد تاريخٍ مشرقٍ من الآلام والكتابة وجد أحدهم إِدْغَرْ ألن بو وهو فاقد الوعي وممدَّد على مقعد خشبي طويل في حانة Ryan’s Fourth Ward Pools. تُرى هل كان وجع الذاكرة الحاد، أم معاناة مقالة أو قصيدة أو قصة جديدة، أم الكحول والمخدرات اللذان أديا بدماغه إلى الالتهاب (حسب أحد التخمينات الطبيَّة الخاصة بأسباب الوفاة لاحقاً)، أم إن بو ذهب ضحية لجريمة اغتيال سياسي عبر دسِّ السُّمِّ في خمرته الثقيلة الرديئة ضمن ظرفه الإدماني العسير، واعتلال صحته البدنيَّة والنفسيَّة، وتشتُّته الذِّهني الحاد، وذلك في سياق الانتخابات "الديمقراطيَّة" الحاسمة التي كانت تجرى في ذلك الوقت كما تروِّج إحدى النظريات التي ازداد صداها في الأدبيَّات البوويَّة في السنوات الأخيرة؟، أم انها تلك الأوجاع مجتمعة؟.

مهما يكن من أمر فإن بو بذل جهداً أقرب إلى الخرافة ليتمكن من تحمُّل الحياة لأربعين سنة كاملة وفقط حاول خلالها الانتحار مرَّتين، وخرَّ في نوبةِ هذيانٍ رُعاشيٍّ مرة، وليترك وراءه ثلاثاً وسبعين قصة قصيرة، وأربعاً وخمسين قصيدة، وعدداً ضخماً من المقالات، إضافة إلى بيانه الشهير "المبدأ الشعري" الذي نقرأ فيه ما يفسِّر تلك الإيقاعيَّة الموسيقيَّة والمفرداتيَّة إضافة إلى النزعة الفنتازيَّة والحُلميَّة في شعره: "إنني أعرِّف الشِّعر باختصار انه الخلق الإيقاعيُّ للجمال. إن حكمه الوحيد هو الذوق، ولا علاقات له بالعقل والوعي إلا بصورة جانبيَّة. وهو لا يهتمُّ إطلاقاً بالواجب أو الحقيقة اللهم إلا مصادَفَةً".

ولم تفتتح أعمال بو عهداً جديداً في تاريخ الأدب الأمريكي فحسب، بل ان تأثيرها امتد الى الادب الفرنسي والروسي صعبي الاختراق بموثرات خارجيَّة في العادة. يقول سي بي كاميير في كتابه "تأثير إِدْغَرْ ألن بو في فرنسا" (نيويورك، 1972) انه عندما طُلِبَ من المؤرخ الأدبي الدانيماركي العتيد جورج براندس ان يحدِّد الكتَّاب الذين كانوا بالغي التأثير في الأدب الفرنسي ذَكَرَ إِدْغَرْ ألن بو أولاً، مضيفاً تولستوي ودوستويفسكي باعتبارهما تأثيرين أقل أهميَّة (والثاني- دوستويفسكي- كان قد نشر بإعجاب شديد مقطعاً من قصيدة بو "في الشَّباب عرفتُ امرأة" وذلك في مجلة "فريميا" الروسيَّة")، وهاينه، وشيلي. ويؤكد كامبيير ان آرثر رامبو نفسه قد اطلَّع على أعمال بو وتأثر بها في فترة مبكرة من حياته العنيفة والكثيفة كحياة بو.

وفي فرنسا تحديداً- قلعة الثقافة الأوروبية الحصينة- لم يقتصر تأثير بو على الأدب فحسب، فها هما اثنان من أعظم الموسيقيين، رافائيل وديبيوسي، والرسام دسلي، يعلنون جميعاً انهم يحاولوا أن يخلقوا في مجالاتهم الإبداعيَّة نفس ما خلقه بو في الكلمات. ولا عجب في ذلك فقد كانت "المُخيِّلة عند إِدْغَرْ ألن بو هي مِلَكَة الطاقات الروحيَّة" حسب قراءة بودلير. إنها المخيِّلة التي كان بو من الدَّاعين إلى إطلاق سراحها لترحل كما شاءت في الروح، والحياة، والكتابة.

ويشير جوزيف وود كرتش في كتابه " إِدْغَرْ ألن بو: دراسةُ عبقريَّةٍ" (نيويورك، 1926) إلى انه في الخامسة من مساء الأربعاء 3 أكتوبر 1849 أُدخِل بو إلى مستشفى بوسطُن بعد أن وجده أحدهم مغمى عليه "وهو مرتدياً الأكثر رثاثة من الثياب العجيبة" كما قال في إفادته التي قدمها للمستشفى (في الحقيقة لم تكن تلك الثياب ثيابه بل ثياب شخص آخر مجهول، ما دعم نظرية الإغتيال السياسي آنفة الذكر). وبعد ثلاثة أيام، وعقب جهود طبيَّة مكثَّفة، عاد بو إلى الوعي، فقال له الطبيب جون بي ميران -الذي كان قد عَلِمَ أن مريضه البائس هو الكاتب الشهير- انه يتمنى له تحسناً وشيكاً في الصحة يمكِّنُه من الالتقاء بأصدقائه؛ فتمتم بو بالجملة التي صارت أشبَهَ بالمَثَل: "أفضَلُ ما يمكن أن يفعله أفضل أصدقائي هو أن يُفجِّر دماغي بمسدَّس". لقد كان المبدع الكبير- الذي ستُنْشرَ عنه أكثر من ستٍّ وثلاثين سيرة حياة بحلول عام 2008- يدرك ان جميع الاحتيالات قد أفلس، وان الباب الذي ظلَّ يطرقه قراءة، وكتابة، وعذاباً سوف يفتح أخيراً.

وفي اليوم التالي، الأحد، 7 أكتوبر 1849، غمغم بو بجملته الأخيرة التي كان كل كتابته وحياته ترديداً ضمنيَّاً لها: "يا إلهي: أَعِنْ روحي البائسة". وفي حوالي الخامسة من مساء اليوم نفسه كان جناحا "الغراب" قد تعبا من التحليق العالي، فهوى الكاتب إلى الصمت الأخير، وقُبِرَ في مدفن العائلة الذي ضمَّ رفات تسعة أشخاص.

"إن حياة الشاعر وعاداته وسلوكه وما يشكل مجموع شخصيته- هذا كله يبدو لنا شيئاً معتماً ومشعَّاً في آن واحد. كانت شخصيته فريدة آسرة تتميز مثل نتاجه بطابع من الكآبة لا حدود له. ورغم انه كان صغير البنية، مرهف الملامح، فقد كان أكثر من قوي، وكأن البأس يتفجر من قسماته. كأن الطبيعة تمنح مزاجاً حيويَّاً شديداً لهؤلاء الذين تريد أن تأخذ منهم الأشياء الكبيرة كما تمنح الحيوية الهائلة للأشجار التي قُدِّرَ لها أن ترمز إلى الحداد والألم". ويضيف بودلير في مقدمته التي كتبها لمناسبة ترجمة أعمال بو إلى الفرنسية- والتي اختارتها خالدة سعيد بتوفيق كبير مقدِّمةً لترجمتها العربية لأربع وعشرين قصة قصيرة لِبو بعنوان "مغامرات وأسرار" التي صدرت الطبعة الأولى منها عن دار مجلة شعر (بيروت، 1962) قبل أن تعيد دار الآداب نشرها في أكثر من طبعة بعنوان جديد هو "القط الأسود وقصص أخرى") ان الشاعر الفرنس ألفرد دي فيني ألَّف كتاباً خاصاً" كي يبرهن على ان الشاعر لا يستطيع أن يجد له مركزاً أو مكاناً جيداً في أي مجتمع، سواء كان ديموقراطيَّاً أو ارستوقراطيَّاً، جمهوريَّاً أو ملكيَّاً". وقد كان بو بلا شك أحد الأمثلة الحادَّة على ذلك؛ فقد كان عليه أن يحيا ويكتب في مجتمع يرفع من شعارات الحريَّة والإنسانيَّة أكثر بكثير مما هو موجود على أرض واقعه. و"في بيئة الوحوش المفترسة تلك كابَدَ [...] إِدْغَرْ ألن بو استشهاده الكبير" حسب تعبير لجوزفين بيلادان.

أغانٍ حزينة، كتابات موتيَّة، وبدايات الحب والفقد
حاز إِدْغَرْ ألن بو على مكانة فَتَشْيَّة، بل مورتولوجيَّة ونيكروفيليَّة تقريباً في الثقافة الأمريكية؛ فعلى سبيل المثال وجدت أثناء زيارتي لمركز هاري رانسون (وهو مكتبة وإرشيف ومتحف) في عام 1998 انهم لا يحتفظون هناك بفخر شديد بالطاولة التي كان المبدع الموجوع يكتب على سطحها نصوصه فحسب، بل انهم كذلك يعرضون خُصَيْلَةً صغيرة من شَعر رأسه موضوعة بعناية فائقة في صندوق زجاجي خاص مُتَحَكَّمٍ بدرجات حرارته وإضاءته وتهويته الداخليَّة والداخليَّة بصورة دقيقة، وليس مسموحاً لك تصوير الطاولة أو خُصَيْلَةً الشَّعر حتى لا تؤثر لمعة "الفلاش" أو ضوء التصوير بآلة تصوير غيرها في تلك الدرجات المثاليَّة اللازمة لإبقائهما سليمين (أما عن مقتنيات بعض من عمالقة الأدب العربي ففي وسعك أن تحدِّث/ي بلا حرج؛ حيث تم بيعها بأبخس الأسعار حتى قبل أن يجف ثراهم وذلك للإسهام في تسديد تكاليف فترة عزائهم أو تسديد ديونهم). ومع ذلك فإن إِدْغَرْ ألن بو لم يكن من قرر أمر مجيئه إلى العالم، وإنني أثق في مغالطة منطقيَّة مقصودة انه لو خُيِّرَ لما اختار المجيئ إلى هنا. لكنه، في أية حال، ولد في 19 يناير 1809 ابناً لممثلة انجليزية وممثل أمريكي كانا يعملان لدى فرقة مسرحية جوَّالة (أتوجد هنا بعض جذور التجوال والتشرد الذين سيسمان حياته لاحقاً؟). وقد مات الزوجان في فترة متقاربة مخلِّفين للفقر ثلاثة أبناء منهم الطفل الوسيم، النحيل، شاحب الوجه إِدْغَرْ ألن بو الذي تبنَّته فرانسيس ألن، وهي امرأة جميلة شابَّة وزوجة التاجر الرِّيتشموندي الثريِّ، والبخيل، والقاسي جون ألن (ومن هنا جاء اسم بو الأوسط)، والذي كانت تجارته الخيول، والخمور، والأنسجة، والحبوب، والعبيد، والدعوة إلى القيم الأمريكية العليا كالشَّرف، والحريَّة، وتقديس العائلة. بلى، كان السيد جون ألن تاجر العبيد والخمور، والأب غير الشَّرعي لولدين في ريتشموند وحدها، يدعو إلى تلك القيم "الفاضلة" في مجازٍ ممتازٍ يلخِّصُ الشيزوفرينيا التاريخية الأمريكية التي كان على إِدْغَرْ ألن بو أن يصطدم بها ممثَّلة في شخص متبنيه. ولهذا فإن أحد الأصوات التي لن تغادر ذاكرته الحسَّاسة كان صوت العبيد المختطفين من إفريقيا، والمُقَيَّد في العنابر من بقي منهم في قيد الحياة بعد رحلة الجلب الشاقة، والذين كان بو يستمع إلى أغانيهم الحزينة ويتحسس حنينهم ومأساتهم (بعد أكثر من عشر سنوات من زيارتي كوخ إِدْغَرْ ألن بو في نيويورك، زرت قبره وبيته في بالتيمور في يوم الأحد، 5 أغسطس 2001. وقد اذهلني أن الحي الواقع به البيت الذي هو متحف اليوم قد أصبح حيَّاً فقيراً مُهمَلاً يقطنه السُّود. قلت لنفسي ان هذا يليق بالشاعر وبالسُّود معاً، فقد أصبحوا جيراناً أخيراً. وقلت لصديقي الفنان التشكيلي والمترجم والناشط السياسي الفلسطيني- الأمريكي زاهي خميس الذي كان يرافقني: "ألم أقل لك من زمان ان إِدْغَرْ ألن بو كان شاعراً أسود؟!).

كان بو في السادسة حين قررت العائلة الانتقال إلى أسكوتلندا والاستقرار فيها. وفي تلك البيئة المفعمة بالأساطير، وقصص الرعب، والأشباح، والأرواح الشريرة، والقلاع، والحصون بدأت نزعات الصبي نحو الوحدة والتوجس من الآخر والإهتمام بكل ما هو خفي وغامض. وحين قررت أمه بالتَّبني وزوجها الانتقال إلى انجلترا تركا بو لدى أخت المتبنية واسمها ميري ألن التي كانت صارمة ومتزمِّتة التَّديُّن.

وقد ألحقت ميري ألن ابن اختها بالتبني إِدْغَرْ ألن بو بـ"مدرسة النَّحو القديم" في ارفاين، والتي كانت معروفة بصرامة أنظمتها، وقسوة قوانينها بما في ذلك العقوبات البدنيَّة المبرحة، والطقوس الدينيَّة الإجباريَّة الطويلة. ولهذا فإنه يحسن بنا فهم الرعب في قصص بو حين نعلم أن أكثر العقوبات "إنسانيَّةً" في تلك المدرسة القروسطيَّة كان إجبار الطالب المُقصِّر على نسخ الكتابات الموجودة على شواهد القبور في دفتره، وان "النُّزهة المدرسية" كانت التجول بين أطلال قصر كليمارنوك التاريخي الزاهي بالأرواح، والأشباح، والمسِّ، والتَّقمُّص، والقصص الخارقة. وقد كتب بو مستعيداً ذلك في 1840: "منذ تجربتي الحزينة باعتباري تلميذ مدرسة وحتى هذه الكتابة الحاضرة فإنني أرى ان هناك القليل الذي يمكن أن يعزز الفكرة التي يعتنقها بعض الناس ان أولاد المدارس هم أكثر الفَانِيْنَ سعادةً".

ولذلك فإنه في وسعنا أن نتفهم صراحة ميري ألن حين أعلنت في 1816 انها لم تعد قادرة على تحمِّل مزاج إِدْغَرْ ألن بو الكئيب وطبائعه الإنطوائيِّة التي لا تطاق، وانها لا تنصح أبداً ان تستمر إقامته في اسكوتلندا. ولهذا تم إرساله إلى لندن حيث أُلحق بمدرسة أخرى تحت تهديدات أبيه بالتَّبني بالويل والثبور. وفي هذه الفترة أيضاً شكَّلت الرياضة الفرديَّة إحدى اهتمامات بو الفرعية، ربما في اعتذار رمزي مقدَّم للقسوة الشَّنيعة التي سيمارسها ضد جسده لاحقاً. وفي 1820 عادت العائلة إلى ريتشموند الأمريكية، وأُلحق الغلام بـ"مدرسة الأستاذ جوزيف اتش كلارك للغة الإنجليزية والكلاسيكيات". وكان الأستاذ كلارك موسوعة في اللغات والآداب الإنجليزية والإغريقية واللاتينية، فنقل هذا الشغف إلى إِدْغَرْ ألن بو الذي أبدى أداء دراسيَّاً استثنائيَّاً، وحساسيَّة لغوية خاصة، وولعاً بالعوالم القديمة المهجورة.

وفي تلك الفترة أيضاً بدأ الحب ومآسيه في غزو قلبه؛ فقد هام بمُتَبَنِّيَتِهِ الجميلة الشابة التي كانت مريضة بالسُّل وكانت تحتضر (هل كان في تلك العاطفة تصعيدٌ أوديبيٌّ تعويضاً عن فقدانه لأمه وتكريساً لطبيعة علاقته بمُتَبَنِّيه؟.). كما أُغرم بساره ألميرا رويستر، وهي فتاة فائقة الجمال وتقطن في نفس الحي. ولكن بو انجذب بصورة مأساويَّة أكبر وعلى نحوٍ غامض إلى جين ستاندرد، وهي أمُّ صديقه المقرَّب روبرت إم سلي التي لم تكن بأقل مغناطيسيَّة نحوه. لا أحد يعلم على وجه الدِّقة ما حدث في ذلك اليوم حين بلا ترتيبات قصديَّة، وفي غمرة حضوره الساحر، تقدمت المرأة الولهى نحوه، واحتضنته، ومسحت رأسه وخدَّه بيدها. ولا أحد يعلم فيما إذا كان لذلك علاقة بأنها أصيبت بالجنون بعد ذلك بفترة قصيرة، ثم ماتت تاركة لقلب بو الشَّفاف نحيبه على الفقد الجديد. والحقيقة ان جان روسلو يذهب إلى القول بأن تلك الذكرى أمسكت بتلابيب روح إِدْغَرْ ألن بو حتى وفاته.

وكان للفجيعة أن تتسارع فقد تزوجت ساره، حيث أن أب بو بالتَّبني حين علم بأمر العلاقة التي ربطت بين المراهقَين استغل نفوذه باعتباره تاجراً كبيراً، وأرغم والدها على الإسراع في تزويج ابنته من أول متقدِّم (ألا يبدو هذا، بالمناسبة، شبيهاً بما يحدث في مجتمعنا، مع الفارق الزمني طبعاً؟). وبذلك بلغت علاقة العداء المتصاعد بين بو ومتبنيه أوجها حيث كان الثاني يرى أنه من الأفضل لـ"ابن المهرِّجين" أن يلتحق بعائلة أخرى، فقد كان يلاحظ بقلق شديد "الحميميَّة الزائدة" التي وسمت علاقة زوجته بالفتي اليتيم الوسيم. ونتيجة لكل تلك الجراح المتلاحقة اعتزم بو محاولة البحث عن بعض السلوان بالاستغراق الكامل في الدراسة في جامعة فرجينيا. غير ان الاستمرار في ذلك المسعى لم يكن ممكناً في ظل إيقاف المعونة الماليَّة الذي كان يقوم به أبيه بالتبني كلما أراد أن يتشفَّى منه ويعاقبه. وهكذا غادر إِدْغَرْ ألن بو فرجينيا بقلب مكسور.

** ** ** **

(2 – 2)

"فَنُّ بو، منظورٌ إليه من مكانته التَّطوُّرية في الكلمة البشريَّة، هو أكبر صفعة تلقَّاها التَّقدُّم حتى الآن"

--جوزفين بيلادان --

الجيش و"الأعراف"

لم يكن هناك خيار آخر أمام إِدْغَر ألن بو؛ ففي صباح يوم السبت، 26 مايو 1827 التحق بالجيش الأمريكي مُجَنَّداً باسم إِدْغَرْ ألن بيري. وبدأ فوراً في كتابة قصيدته الكونيَّة الأولى "الأعراف" التي أثبت فيها معرفة كبيرة بالديانات والثقافات الشَّرقية وخاصة الإسلام الذي يحضر منذ اختيار الشاعر مفردة عربيَّة قرآنيَّة لتكون عنواناً لقصيدته مرجِّحاً كفَّتها على كفَّة مُعادلها الإنجليزي (Purgatory) وأصلها اللاتيني الإنجيلي (Purgatorium). وقد وضع بو العنوان العربي بحروف لاتينيَّة هكذا: Al Aaraaf. بيد ان هذا يجب أن لا ينسينا ان ذلك البعد الميتافيزيقي ليس بالحمولة الوحيدة للمفردة، ذلك ان لـ"الأعراف" معنى فلكي وميثولوجي كذلك. وفيه فإن "الأعراف" نجم ظهر فجأة في السماء لعدة أيام فاق فيها ضوء كوكب المشتري قبل أن ييختفي فجأة مثل ما ظهر. ومع ذلك ففي سياق علاقة إِدْغَرْ ألن بو بالشرق أود أن أشير إلى الدراسة المهمة للناقد الأمريكي جون سي غريسر "ليجيا [عنوان قصة قصيرة لبو] والإستشراق" المنشورة في العدد الثاني من المجلد السادس والعشرين من الفصليَّة النقديَّة الأمريكيَّة "دراسات في القصة القصيرة" الصادر في ربيع 1989، والتي استند فيها الناقد إلى أطروحات إدوَرد سعيد في "الإستشراق" ورنا قبَّاني في "أساطير أوروبا عن الشرق" ضمن محاورته لقصة بو تلك نحو إثبات ان بو كان واعياً بصورة ضمنيَّة مبكرة لطاقات السرد الإستشراقي في صنع "الآخر" باعتباره "أنا" سريَّة بديلة مُتَخيَّلة؛ فقد كان بو يكتب قصَّته تلك في نفس الوقت الذي كان الإستشراق يتجسد فيه بصورة نهائية باعتباره خطاباً سياسيَّاً، وثقافيَّاً، وكولونياليَّا.

وحين ترك بو العمل في الجيش- بشهادة تقدير خاصة، بالمناسبة- كانت هناك فاجعة أخرى في انتظاره، فقد ماتت فرانسيس ألن التي تمكنت على فراش الموت من انتزاع وعد من زوجها بعدم التخلي ماليَّاً بصورة كاملة عن بو. كما ان الشاعر وجد عزاء معقولاً في الترحيب المتحمس الذي أبداه الوسط الأدبي احتفاءً بقصيدة "الأعراف". غير أن المأساة ما كانت لتتهاون في تربُّصها به فقد نُكَبَ بو بوفاة أخيه الذي كان يكنُّ له حبَّاً جمَّا ويعينه على بداياته الشِّعرية. وقد حدثت وفاة الأخ في نفس اليوم الذي كانا فيه على موعد للقاء بعد طول غياب.

وبحثاً عن عزاء يخفف شيئاً من وطأة تلك النوازل هام بو بحبيبة جديدة هي ميري دوسفيرو. وقد كان هناك حديث مبدئي عن الزواج، ولكن بو ذهب ليقابل ميري ذات ليلة وهو ثمل تماماً، فطردته ورفضت مقابلته بعد ذلك. ولا بد من التوقف هنا ولو لجرعة واحدة عند الوقائع والأساطير التي تثار حول كحوليَّات بو. وفي هذا يرى بودلير: "أما عن السُّكر الذي شاع عنه وانتُقد عليه كثيراً فيقول الذين كانوا يعرفونه حق المعرفة ان كميَّة قليلة من الخمر كانت تكفي للتأثير فيه. ويسهل من ناحية ثانية الافتراض ان شاعراً عاش في مثل وحدته وشقائه الهائلين يبحث أحياناً عن لذة النسيان في الشَّراب". وهناك محاججات قيلت أخيراً تذهب إلى أن بو كان مصاباً بنوع من أنواع مرض السُّكَّري تجعله سريع التأثر بالشراب. ولا أدري لماذا كلما جاءت سيرة علاقة بو بالشراب فإنني أقوم تلقائيَّاً بربط صورة الشاعر بصريَّاً بشخصيَّة الزائر الغامض في فيلم جون هوستون الوداعي "الأموات" المقتبس عن قصة قصيرة بنفس العنوان لجيمس جويس من مجموعته "دَبْلَنِيُّون". كلما شاهدت الفيلم تهيَّأ لي إني أشاهد إِدْغَرْ ألن بو في شخصية ذلك الزائر الذي يسهم مجيئه المتطفل ونصف المُنْتَشي إلى حفل العشاء في اكتشاف الرعب والعذاب القابعين خلف العلاقات والابتسامات الاجتماعية الرخيصة وعبارات التهذيب الإتيكيتيَّة.

في 1833 مُنح إِدْغَرْ ألن بو جائزة "زائر بالتيمور يوم السبت" وذلك عن قصته القصيرة "رسالة وُجِدَت في قنِّينة". وهكذا توسَّعت سمعته الأدبيَّة فعُرض عليه العمل في صحافة بالتيمور الأدبية. ولكن لأن بالتيمور كانت بالنسبة إلى ذاكرته مكاناً يعجُّ بأطياف أحباب راحلين، وأب بالتبني ظالم‘ فقد استأنف بو الشَّراب بصورة نجم عنها فصله من العمل نظراً لخلافاته مع رئيس التحرير الذي رأى أن كحوليَّات بو الإدمانيَّة تحول دون أن يقوم بمسؤولياته على أكمل وجه باعتباره مديراً لتحرير مجلة أدبيَّة، وذلك على الرغم من ان مبيعات تلك الجملة تضاعفت بسبب نشر قصص وقصائد ومقالات بو المتميزة فيها.

لكن إِدْغَرْ ألن بو لم يعد كاتباً يلهث وراء الصحافة، بل انها كانت تستجديه رغم ابتعاده عن أضوائها. ولذلك فإن وظيفة أخرى كانت معروضة عليه فوافق على الكتابة في مجلة "الرسول الجنوبي الأدبي" التي نشر فيها أهم مقالاته. وحين اكتسحت تلك المجلة منافِساتها في الصحافة الأدبية الأمريكية تم تعيين بو رئيساً لتحريرها، غير ان موجة الاكتئاب الحاد أغرقته مجدَّداً، فأغرق نفسه مُجَدَّدَاً في الشراب الدائم، وتم فصله من عمله هذه المرة أيضاً.

وفي 16 مايو 1836 تزوج بو من قريبته فرجينيا إلزا كْلِمْ بو. ولكن ذلك لم يسهم إلا بصورة طفيفة في تحسن صحته النفسية رغم حبه الحقيقي لها، فقد شدَّته ذاكرته الإرتكاسيَّة المُعَذَّبة إلى حزن لا خلاص منه. وزاد الأمر سوءً ان فرجينيا أصيبت بسلسلة من الأمراض التي هددت حياتها بصورة مباشرة، وقد كان أسوأها السّل الذي قتلها في النهاية. والحقيقة انه عندما ماتت وصف بو الموت في قصيدته الخالدة "أنابيل لي"- وهو الإسم الشعري الذي اختاره لزوجته الراحلة- بأنه "قريبها كريمُ المَحْتَد" (“her highborn kinsman”)، فقد كان الشاعر يرى علاقة قرابة فعليَّة ربطته بالموت المرتبط بما هو فعلاً وشاج عائلي بكل من يحب.

"الغراب"، والعشق، والموت
عندما نشر إِدْغَرْ ألن بو قصيدته الأطول والأشهر "الغراب" قبل أربع سنوات من وفاته أصبحت قصيدة مقدَّسة بعد بعض الوقت من المماطلة والتسويف الذين كانا ضروريان من أجل الاستيعاب التدريجي لجِدَّتها الصَّادمة. ولكن في الوقت الذي كان فيه كل لسان في أمريكا يرددها بترتيليَّة وتوقير، كان كاتبها يُرى في آخر الليل وهو يترنح في الطرقات الخلفيَّة، مصطدماً بجدران الحانات، عازفاً عن الحديث مع أيٍّ كان. غير انه أذعن أخيراً لضرورات الوجاهة الشِّعرية فتحول إلى نجم السَّاحة الأدبيَّة، ملقياً "الغراب" مثل آلة تسجيل في أمسيات شعريَّة متعاقبة (والحقيقة ان قصيدة "الغراب" قد أصبحت المُعادل الرمزي للشاعر وحياته وموته بحيث انه عندما مات نُقشت صورة غراب في أعلى شاهدة قبره. أنظر/ي ذلك إن شئت في إحدى الصور المنشورة مع هذه الحلقة من المادة)، عاقدا- أي بو- ندوة هنا، وملقياً محاضرة هناك، ومجرياً حواراً صحفيَّاً فيما بينهما.

وفي هذه الأثناء ألقى بو- الذي كان معروفاً بلقب "الناقد الأكثر حدَّة حاليَّاً"- محاضرة في نيويورك شنَّ فيها هجوماً عنيفاً على كُلِّ الشعر الأمريكي ممثَّلاً في أحد رموزه الكبرى، هنري وادسوورث لونغفلو، منتصراً للقيم الجمالية المغايرة التي يأتي بها الشعراء الجدد من الجنسين، ذاكراً بالإسم تجربة فرانسيس سارجينت أوسغود (وتلفظ أيضاً "أوزغود"). وكانت هذه شاعرة وقاصة واعدة ومحبَطة بزواج عاثر من رسَّام البورتريهات صموئيل سْتِلْمَنْ الذي كانت منفصلة عنه فعليَّاً، وغير مطلَّقة رسمياً، حين التقت ببو بعد شهر من المحاضرة التي لم تحضرها بل قرأت عنها، وارتبطت معه بعلاقة غراميَّة افلاطونيَّة (بلا اتصال جنسي) عنيفة لاقت لاحقاً الموافقة الضمنيَّة من زوجها وزوجته. ولعل فرانسيس سارجينت أوسغود هي المرأة الوحيدة التي عايشت بو الكاتب/الإنسان وكتبت عنه بطريقة مباشرة وغير مباشرة، حيث يقتبس جون إيفانجلست وولش في كتابه "خَوْخٌ في الغبار: الغرام السِّري لإِدْغَرْ ألن بو وفاني [صيغة تَحَبُّبٍ و"تدليع" لاسم"فرانسيس"] أوسغود" (شيكاغو، 1927) بطلة إحدى قصصها وهي تصف حبيبها الذي لا يمكن أن نخطئ في تحديد هويَّته هكذا: "جمال وجهه ورأسه. إنه يفكر، ويتكلم، ويكتب، ويبدو كما لم يفعل رجل من قبل قَطّ". وفي إحدى رسائلها تتحدث فرانسيس عن إِدْغَرْ ألن بو الذي "لم تتعرف إليه امرأة إلا وأحسَّت بجاذب عميق نحوه. لقد كنت أراه دوماً مثالاً للأناقة، والامتياز، وشرف النفس".

أما بو فقد كتب قصيدته "فالانتاين" (وهذا عيد القديس فالانتاين في 14 فبراير من كل عام ، وهو كذلك عيد العُشَّاق، وتعني الكلمة أيضاً بطاقةَ محبَّة أو هدية يرسلها المرء إلى حبيبته أو العكس في ذلك العيد). ومحور هذه القصيدة امرأة فاتنة يحبها الشاعر الذي يتحدى القرَّاء في نهاية القصيدة أن يعرفوا اسم محبوبته قائلاً: "لن تحلُّوا الُّلغز رغم أنكم تفعلون أفضل ما في وسعكم فعله". وقد قبل قراء ونُقَّاد بو هذا التَّحدي، وانكبُّوا على دراسة القصيدة التي اتضح سرّها في هندسة بنائيَّة وحروفيَّة عجيبة تقوم بالبوح الخفي والتدريجي باسم المحبوبة، وذلك عبر ربط الحرف الأول من السطر الشعري الأول (F) بالحرف الثاني من السطر الشعري الثاني (r) بالحرف الثالث من السطر الشعري الثالث (a) بالحرف الرابع من السطر الشعري الرابع (n)، وهكذا تباعاً حتى نهاية القصيدة، حيث تشكِّل الحروف المستخرَجة بالترتيب من سطورها الشعرية العشرين بالترتيب اسم فرانسيس كاملاً: Frances Sargent Osgood. حقَّاً يا لها من هدية حب شعريَّة بكل المعاني واستثنائيَّة جداً لا يمكن ترجمتها إلى أية لغة- تماماً كما لم يكن من الممكن "ترجمة" غرام العاشقيْن المستحيل- من أجل الاستمتاع ببوحها الحميم، والملغز )النص الأصلي للقصيدة واردٌ أدناه لمن أراد/ت، والحروف المعنيَّة تحتها خطوط مع ورودها بلون أسود بارز لتمييزها في الهديَّة الاستثنائيَّة). وقطعاً لم يكن بو يفكر في "العالميَّة" حين كتب قصيدته تلك على هذا النحو. وقد توفيت فرانسيس سارجينت أوسغود في عام 1850، أي بعد عام واحد فقط من وفاة فرانسيس وبو، وبنفس المرض الذي قضى على فرجينيا: السّل. يا لها من "مصادفة!".

A Valentine
For her this rhyme is penned, whose luminous eyes,
Brightly expressive as the twins of Leda,
Shall find her own sweet name, that nestling lies
Upon the page, enwrapped from every reader.
Search narrowly the lines!— they hold a treasure
Divine— a talisman— an amulet
That must be worn at heart. Search well the measure—
The words— the syllables! Do not forget
The trivialest point, or you may lose your labor
And yet there is in this no Gordian knot
Which one might not undo without a sabre,
If one could merely comprehend the plot.
Enwritten upon the leaf where now are peering
Eyes scintillating soul, there lie perdus
Three eloquent words oft uttered in the hearing
Of poets, by poets— as the name is a poet's, too,
Its letters, although naturally lying
Like the knight Pinto— Mendez Ferdinando—
Still form a synonym for Truth— Cease trying!
You will not read the riddle,
though you do the best you can do.

وإذا كان بعض من السعادة قد قُيِّظَ لبو في علاقته الروحيَّة بفرانسيس أوسغود فإن الفجيعة أخذته إلى حضنها الشَّرس مجدَّداً؛ فقد ماتت زوجته الشَّابة فرجينيا- والتي كانت بصدد احتراف الغناء- مسلولة وهي في الرابعة والعشرين من العمر فحسب. وقد كان في رحيلها المؤلم والمبكر، والندم الذي استحوذ على بو بسبب إهماله لها مع بلوغ نجمه الأدبي أقصى عليائه، تتويجاً لاستحالة حياته. وهكذا فقد بدأ يحقن روحه المشظَّاة، وذاكرته المُثقلة، بالمورفين والأفيون، هائماً على وجهه بين المدن، والحانات، والنصوص، مخفِقاً في العثور على من يموِّل مشروعه إصدار مجلة أدبية جديدة كان يراهن عليها لاكتساح الصحافة الأدبية ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في أوروبا أيضاً. ولافتٌ للنظر هنا بالطبع ان كل كواكب الفجيعة والرماد التي سكنته، وكل براميل الخمرة التي سكبها في دمه، ما كانت بقادرة على إطفاء جذوة النشاط الهائل في روحه.

وفي أثناء ذلك تعرَّف إِدْغَرْ ألن بو إلى أرملة شابَّة وثريَّة، بل شاعرة وكاتبة أيضاً، وتدعى مدام ويتمَن التي قبلت عرضه الزواج منه مشترطة عليه بصرامة أن لا يتناول الخمرة طوال فترة خطوبتهما على الأقل. لكن ما حدث ان بو – الذي كان يخون عهده سِرَّاً طوال فترة الخطوبة- استسلم لكمية لا بأس بها من الشراب جعلته يرتكب حماقات كبيرة استدعت تدخل الشرطة وذلك قبل يوم واحد فقط من الزفاف. وعندما شاع أمر ما حدث وتسرَّب إلى الصحافة طلبت منه مدام ويتمَن بحزم أن ينسى موضوع الزواج وأن لا يراها مرة أخرى أبداً. وهكذا كان بو يتهاوى في المراحل النهائيَّة من الاستحالة التي توقفت أخيراً في مقبرة بالتيمور التي في وسعك حين تزور قبره فيها أن تسمع فيها ما قاله قبل أسابيع قليلة من رحيله: "أؤمن ان الله منحني ضربة العبقرية، لكنه غمسها في الشقاء".

هامش سينمائي شخصي: بو في "ليس هذا غليوناً"
لم يكن إِدْغَرْ ألن بو أحد تلك الأرواح الكبيرة التي لا يمكن تصوُّر حجم عذاباتها، والتي كلما حطَّت فجيعتها في تعبير خذلها ضيْقُهُ فطارت بنحيبها نحو تعبير آخر، وآخر، وآخر، إلى أن لا يستمع لبوحها إلا الموت. لم يكن كذلك في تعدُّديته الإبداعية فحسب (شعر، وقصة قصيرة، ونقد وتنظير أدبيين، وصحافة أدبية)، بل انه لم يكن يفصل بين الإبداع وبين الحياة التي هي مجال الأول أصلاً، سواء في حساسيَّته الاجتماعيَّة أو في سلوكه الشخصي الذي كان "مزيجاً غريباً من الكبرياء، والعذوبة، والوداعة. كل شيئ فيه يشير إلى انه كائنٌ مصطفى. كان أشبه بأولئك الذين يعبُرون فيجذبون أعين الذين يرونهم ويملأون ذاكرتهم" كما يخبرنا بودلير. والحقيقة ان من لديه خلفيَّة بيوغرافيَّة كافية عن حياة إِدْغَرْ ألن بو وقرأ أعمالاً له مثل قصته القصيرة الكابوسيَّة الساحرة "القط الأسود" (وهي متوافرة بالعربية عبر ترجمة خالدة سعيد التي سبقت الإشارة إليها في الحلقة الأولى من هذه المادة) سيدرك ان الكتابة بالنسبة إلى هذا المبدع الاستثنائي هي انصهار الفلسفيِّ، والشِّعري، والقصصي، والرؤيوي، والنقدي، والوجودي في بوتقة الشخصي والمُعاش في التجربة. وبذلك يصبح الإبداع ممارسة توثيقيَّة بيوغرافيَّة ليس بسذاجة النقليَّة الميكانيكيَّة، بل بأصالة الصدق، والتحويل، والتصعيد. وإضافة إلى ما سبق كان بو مبدعاً كبيراً خارج ورقة الكتابة؛ فقد كان يضع مشاريعاً لتأثيث البيوت وتزيينها، وتصاميماً للبيوت والحدائق الريفيَّة، وخططاً طموحة لتحسين الريف الذي عشقه وتجول فيه كثيراً. وفي هذا وذاك فإن الستائر استحوذت على اهتمام كبير منه؛ فقد كان معنيَّاً بتصميماتها، ورسوماتها، وأشكالها، ووظائفها الجماليَّة. وبعد وفاته عُثِرَ في أوراقه على تخطيطات تصبُّ في ذلك الإتجاه.
أثناء عملي على إنجاز فيلمي السينمائي القصير "هذا ليس غليوناً" (نيويورك، 1991) صادف اني كنت أعيد قراءة أعمال إِدْغَرْ ألن بو. ولأن ذلك الفيلم ينطوي في أحد جوانبه على مقاربات ذاتيَّة، وشعريَّة، وفلسفيَّة لتدخين الغليون باعتباره ممارسة أتقاطع فيها مع أصدقاء، وفنَّانين، وفلاسفة أحبِّهم، فإن إعادة قراءة بو تلك ما كانت لتمرَّ دون أن أشير إليها فنيَّاً (بغرض السيرة الشخصيَّة للشَّخص نفسه فقط) في الفيلم.

ولهذا فإن مشهد المكتبة يبدأ بلقطة مقرَّبة بمستوى النظر (ELCU) لستارة نافذة وذلك في ترجمة بصريَّة للتقدير الذي أُكِنُّهُ لبو (أو ما يعرف سينمائيَّاً بالـhomage). ثم تتحرك الكاميرا في لقطة أفقيَّة (pan) ضامَّة إلى الكادر رفَّاً مليئاً بالكتب التي تفصلها غلايين غُرست بينها كما لو ان الغلايين هي الأخرى موضوعات للقراءة. ونرى كذلك يداً آدميََّة تنقر أصابعها على الكتاب الموضوع في أقصى الرَّف، ثم تتحرك الكاميرا (pan) مع اليد التي تتوقف لثوانٍ مع كل غليون مغروس بين الكتب حتى تتوقف، وتتوقف الكاميرا معها، عند غليون (هو في الحقيقة غليوني الشخصي بصورة عامدة وليس الغلايين الأخرى المُستعارة التي استخدمت في العمل) تم وضعه بين كتابين معينين: الأول هو المجموعة الكاملة لأشعار وقصص إِدْغَرْ ألن بو القصيرة، والثاني هو مجموعة أعمال برتولد بريخت.

بعد ذلك تدخل إلى الكادر يَدٌ أخرى، وتقوم اليد الأولى بقطف الغليون المغروس بين ذينك الكتابين وتضعه على راحة اليد الأخرى، بينما تقوم اليد الأولى بتقليب صفحات وهميَّة، غير مرئيَّة، فوق الغليون الذي تعامله اليدان بوصفه كتاباً. لقد حاولت أن يكون الأمر كذلك حقاً؛ فذلك الفيلم في أحد جوانبه هو "قراءتي" السينمائيَّة الشخصيَّة لتدخين الغليون الذي على يديَّ أن تنصرفا إليه الآن لإشعال ما تبقى من الليل شمعةً تتنفس على قبر إِدْغَرْ ألن بو في ذكرى رحيله هذه.