(حينما يكون العالم ضحية فكرة أمل وغفلة.. يأس وانتظار )

المحرر الثقافي:

أمين صالح كأنه علق خيطاً رفيعاً في مخيال شخوص روايته الصادرة مؤخرا عن دار مسعى للنشر والتوزيع «شمالاً، إلى بيت يحنّ إلى الجنوب» غايته بلوغ تلك الطمأنينة المستحيلة التي كتبها فرناندو بيسوا، كأنه نفض الغبار عن ذاكرتي كي استحضر فكرة اللهث جرياً خلف فكرة «الخلاص» التي ساقها الكاتب التشيكي فرانز كافكا «حتى لو لم يأت الخلاص، فإنني أريد مع ذلك أن أكون جديرا به في كل لحظة».أمين صالح الروائي المسكون بالشعر، والسينما أيضاً، أراد لنصه أن يكون شائكاً مجسداً تلك الحالة الشائكة التي نعيشها، معقدة ومتشابكة، حالة أقل أحداثها حدة إضطراب وأكثر لحظاتها رأفة إشتباك، إشتباك بين واقع لا يتغير فيه شيئ، وإن تغير فإن تغيره يكون فقط في شكل ونوع جرعات الألم، وبين واقع جاهل يكون فيه الأصرار على فكرة الذهاب بعيداً مهما كلف الأمر.

لكل هذا ما كان يصفهم صالح في روايته بـالبشر «الطاعنين في الغفلة»، خادمة جميلة علقت «الأمل» في مخيالها بحثاً عن تلك اللحظة التي يعود فيها زوجها، بعد غياب كان سببه موت طفلتهما، اتصال يعلن بدء حكايتها «زوجك ما مات، زوجك هناك، في الشمال، رهين بيت اختلطت عليه الأوقات فيما عاد يميّز بين شفق وغسق، والتبس عليه الأمر فيما عاد يفرق بين الضيف والمضيف، بين القاطن و الزائر..اذهبي إليه». «لغة/حكاية» يكتبها أمين في روايته هذه كما لو أنه يكتب شعراً، فإن قال أحدنا بأن الرواية سرد، فإنها تجيب بأن قولكم كذب، صور لأحداث تتحرك لتجسد الأشياء، لتبعث آدميتها مرة و ترسم حالات قسوتها، ضجرها مرات ولهوها، فرحها مرات ومرات أخرى «بحر ضجر يطوي مياهه في زرقة المسافة ثم يبسطها موجة مودة....../ثمة غيمة لا تستقر على شكل، تلهو بالألوان وتبلبل الطقس، فلا يعرف الراصد إلى أي توقّع ينحاز...../ ثمة مقهى وحيد جاثم عند المرفأ..مثل حارس وحيد موكل بمهمة نسي ماهيتها وطبيعتها والغاية منها، ونسى من أوكله بها. حيناً يتقبل في باحته الرمالية ما يفيض به البحر من مياه وقواقع وطحالب، حيناً يظن نفسه كميناً يصطاد بعض القدر أرواح مسافرين ضلوا الطريق والهدف».

في هذا السياق يمكنني أن أذهب جازماً، بأن الناقد رشيد يحياوي لم يخطأ أبداً، حينما قارب تجربة أمين صالح معنوناً أحد مفاصلها بــ «السارد شاعراً» واصفاً النص بالمتشابك من حيث البناء الذي تتصادم خلاله بنية السرد وبنية اللغة الشعرية، بحيث يمكن الإنتهاء بالقول وصفاً بأن نص كل رواياته بـ«النص المشعرن». لهذا تحدث يحياوي عن صعوبة في تجنيس تجربة صالح التي وصفها بالعابرة للأنواع، ليقول بأن «في لغة أمين صالح، تأكيد دائم على انطواء النص على المبهم والغامض، وعلى الخصيصة الانفتاحية لشكل التعبير».
إلا أن ذالك قد لا يروق لنقاد آخرين، ليجدون في شعرنة السرد على أنه حالة من حالات خضوع النص المسرود لسطوة الشعر، ليشي بالوقوع في شرك الإخلال بمقومات السرد، تلك النظرية، التي أسس من خلالها الغذامي عبدالله مشروعه، الذي انتقد فيها تورط الخطاب السردي ووقوعه في شرك المجازات المفتوحه، التي تنتقص من لغة السرد فيه لصالح الشعر.

بعيداً عن كل هذا الجدل وعلى مقربة من أحداث الرواية فإن الروائي صالح عمد إلى تخليق حالات يشترك فيها شخوصه «الخادمة/البائع/البواب/الشحّاذة/القاتل الأجير/المشلول/العجوز» من خلال تشكل لحظات الأمل التي تبرر ذلك الإحتمال الفاحش لفكرة «الإنتظار» و فكرة «الخلاص» لتؤثث مسارات الأحداث بدوائر مليئة بالآلام والأوجاع، والإنتقال بالحالة من قهر إلى قهر، ومن إضطهاد للذات والآخر واستبداله بإضطهاد آخر، تكون فيه الشخوص ضحية العالم ربما مرة وضحية نفسها مرات.

الأيام- العدد 9028 السبت 28 ديسمبر 2013 الموافق 24 صفر 1435


أقرأ أيضاً: