صلاح احمد

المثقفون في خدر مغريات السياسة، حينما يمارسون ادوارا خارج مساحة الابداع والفنون - ما ان تعصف بالمكان وتستبد به اطماع السلطة - فانهم يتركون العالم في مهب العنف وانحسار الامل لدى الشعوب، وحده الانتاج الابداعي ورحابة المخيلة ما يعالج كوارث السياسيين ويرمم التشوهات، ليس بوصف المثقف عامل في بلاط السلطة بل بوصفه صاحب الدور الانساني الاهم والاشمل وهو انتاج المعرفة.
التخلي الصريح للمثقفين العرب عن دورهم الانساني في جعل العالم جدير بالاستمرار عبر مواصلة انتاج المعرفة، واسعاف المجتمع بمقترحات المخيلة من علاجات لإشكاليات الواقع التي اشاعت الاحباط واليأس، سيتم توثيقه على انه الموقف الذي يمنح الربيع العربي ايجابية كشفه لزيف المشهد الثقافي العربي وهشاشة مكوناته وشخوصه من حيث تصنيفهم كمثقفين او فهمهم لدورهم الاجتماعي الذي يتطلب احتراما صادقا لهذا الدور والتزاما صارما بالمسافة مع السياسي بما يضمن استمرار انتاج المعرفة وفق شرط الحرية بمعناها الواسع والجاد.

يبدو ان انتقاد موقف المثقفين السلبي سيكون مبالغة غير حصيفة اذا ما صادف التوثيق والتسجيل لمجريات المشهد مواقف اكثر تعقيد وصعوبة تكشف عن ان المأزق الثقافي الراهن اخذ منحى يقترب كثيرا من الجهل والصلافة والعنف، تفوق المثقف فيه على السياسي ورجال الدين، حينما نعايش ظاهرة محاربة المثقفين ومقاطعتهم للنشاط الثقافي بناء على حجج سياسية تؤكد انهيار المسافة بينهما ما افضى الى بروز شخوص (السيامثقفين)، ينبغي علينا ان نعرف بان الغاء المسافة بين الثقافي والسياسي لا يعطي المثقف وحده حق التدخل في قرار السياسة بل في المقابل سيتخذ السياسي قرار الثقافة حينها تخسر الثقافة، وبكل تأكيد لا تربح السياسة.
يقول الفيلسوف (ديمقرايطس) «الظفر بفكرة تتقدم بها الحياة افضل من الظفر بملك فارس» هذا ليس عبث كل المثقفين الحقيقيين والمفكرين يعرفون ان هذا هو الشرف الاكبر ان تكون جزء من تقدم الحياة وليس السعي لمكاسب السياسيين، يقول «جون ستيورات ميل» وهو فيلسوف بريطاني كما انه اقتصادي بارع الا انه سيعشق كتابة المقالات وسيشتهر بها: (ليس هناك من شاعر عظيم أو فيلسوف عظيم أمكنه الحصول على مقام رفيع أو مورد رزق بسبب كونه شاعراً أو فيلسوفاً) رغم ذلك هجر ستيورت المناصب واغراءات السياسة ووقف موقفا مناهضا لعبادة كل اشكال السلطات وبقى في ساحة الثقافة والفكر يعمل لتقدم الحياة هاجرا مغريات اموال فارس كلها.

من تغلب عنده ارادة العقيدة او ارادة الايدلوجيا على حساب ارادة المعرفة عليه ان يتيقن بانه اصبح خارج منظومة الثقافة بمعناها الحقيقي والعميق الذي جعل كل مفكري وفلاسفة وادباء فرنسا يشعرون بدورهم الرائد في الثورة الفرنسية عام (1789) حينما اخلصوا لإرادة المعرفة رغم انهم تداولوا كل المواضيع والقضايا الاساسية قبل الثورة بسنوات طويلة حيث بادروا بآرائهم في الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة والمواطنة والقانون والدستور, والفصل بين السلطات، وساهمت تلك الآراء ليس في نهضة فرنسا سياسيا واجتماعيا فحسب بل في دول اوروبا جميعها دون التورط او الاستجابة لمغريات السياسة واستحقاقاتها التي تؤثر على طاقة الانتاج لديهم او الصدق والعفوية والحرية التي سيتطلبها دورهم الثقافي وهو الدور الانساني التاريخي الاهم في مسيرة بلد الثقافة والفنون والحضارة والنهضة السياسية فرنسا.
لا ازال اثق بان النشاط الثقافي وحده الذي يستطيع ان يصنع التغيير وتقع عليه مسؤولية جدوى الحياة بعد كل هذا الارهاق والانهيارات، انها ارادة المعرفة ما ينبغي التعويل عليها لدى المثقف الحقيقي.. ذلك ما سيجدي ويفيد .. كما احسب.