صلاح احمد
(البحرين)

لم يغفر التاريخ الحديث للسناتور الامريكي مكارثي منذ خمسينيات القرن الماضي ترويعه للمفكرين والمثقفين الامريكيين حينما اعلن تلك القائمة السوداء التي دون فيها اسماء من اتهمهم بالشيوعية والعمالة لروسيا، ليقصيهم عن المشهد السياسي ويزج بهم في السجون، بل اعتبر مكارثي عنوانا لحقبة امريكية هي الاسواء على الاطلاق، وقد اعتبرت تلك القائمة احد اسوأ اشكال العنف الذي قد يتعرض له المثقفون والمفكرون والمبدعين بصورة عامة في اي مكان في العالم.
خمسينيات القرن الماضي هو المخاض الاخطر في الصراع الامريكي الروسي، والسياسيين من الطرفين كانوا يذهبون في المزايدات الى ابعد كثيرا من تخوم الاخلاق او اللياقة الانسانية رغم ذلك لم يجد الامريكان مبررا اخلاقيا لها او قالبا سياسيا يستوعبها بل لا يزالون يخجلون من هذه القائمة بوصفها حالة ارهاب تسيء لهم فردا فردا، كما صنفوها شكلا من اشكال التكفير الذي يحسم التسابق والصراع اخلاقيا وحضاريا وثقافيا لصالح روسيا.
السياسيون التكفيريون وحدهم من سيقف وراء القوائم المكارثية في كل مكان وزمان، والمثقفون هم دائما الهدف الاول لأولئك التكفيريين، البحث التاريخي البسيط الذي اقمته افضى الى هذه النتيجة، ساعد في ذلك المنطق وهذا ما تم الركون له حينما اطلق على قوائم من هذا النوع بانه الارهاب الثقافي الموجه للمثقفين، بعد اكثر من ستين عاما على الندم الامريكي على قوائم مكارثي نحى الوسط الثقافي في الدول العربية الى حالة مكارثية غاية في العنف والتكفير والكفر بكل معاني حرية الرأي، حينما لم يتردد عدد من المحسوبين على الثقافة والابداع من اصدار قوائم مكارثية ونشرها عبر وسائل التواصل الاعلامي بوصفها مساهمتهم في ثورات الربيع العربي، ليشيعوا بها احباطا وحالة من اليأس في الاوساط الثقافية يفوق ما فعله مكارثي في امريكا.

ربما نفهم ان تصدر قوائم مكارثية من سياسيين صريحين او رجال دين متزمتين يسعون لاحتكار الرأي والقرار لكن ان تصدر القائمة من عناصر محسوبة على الجسد الثقافي او الاعلام الثقافي ففي ذلك كارثة مضاعفة، فاقت قدرة النائب مكارثي ذاته على تجاوز الثوابت الاخلاقية والتخوم الانسانية.
ليس من قبيل الشطح حينما نستقر على ان من يقف خلف القوائم المكارثية العربية التي اطلق عليها لاحقا قوائم العار، هم دينيون متشددون وسياسيين راديكاليون لبسوا ثوب الثقافة زمنا بحثا عن هوية، حتى استقر حالهم في الاعلام الثقافي - غالبا - لأن اعتقاد يقودهم الى ان الاعلام سيوفر لهم ساترا سيحميهم من فضيحة جفاف قريحتهم الابداعية وافتقادهم للموهبة الفنية، سأصر على ان من يقف خلف القوائم المكارثية العربية رجال دين وسياسيين لئلا نتخذ موقفا عنيفا من الوسط الثقافي بوصفه اشد مقاطع المشهد العربي تشوها فليس بعد المكارثية عنف او ارهاب.
في مروري على كل قوائم العار العربية - دون ان اكترث بمصدرها - رأيت في الاشخاص الممهورة صورهم بأعنف الالقاب هم من يشكلون ذاكرتنا الثقافية والابداعية رغم اختلافي مع عدد كبير منهم سياسيا وثقافيا ايضا، الحقيقة انهم بجهدهم الابداعي اخذوا مكانهم من قلوبنا وتاريخنا حينها عرفت عن قرب حجم الكارثة التي تسببها القوائم المكارثية، والجريمة التي ترتكب في حقنا جميعا بوضعنا تحت ارهاب هو الاشد منذ وعينا على هذه الحياة.
كيف سيفسر اصحاب الحبر الآثم موقفهم حينما يميز التاريخ حرفهم في تلك القائمة؟ كيف سنمسح عن جبين وسطنا الثقافي هذا العار فيما امريكا بعد ستين سنة تعتقد ان عليها الاعتذار لأي مثقف مقيم او عابر على فعلة سيناتورها مكارثي؟.