جمانة حداد

أستيقظ كل يومٍ مذعورةً عند ساعات الفجر الأولى، بسبب كابوس يقض مضاجعي كل ليلة، أرى فيه بلادي بعد ثلاثين عاما من الآن، على رأسها الزعماء أنفسهم، والطقم السياسي نفسه.

أصرخ فزعةً للوهلة الأولى، ثم أنتبه الى أن ذلك محض حلمٍ مزعج (واقعي وقابل للتصديق). أفرك عينيّ جيّداً لأنفض عنهما فظاعة المشهد. أوّل ما أفعله هو التأكد من أني لمّا أزل على قيد الحياة، وأن بيتي لمّا يزل مكانه، لا نالت منه قنبلة غادرة، ولا اخترقه صاروخ طائش، ولا شطره مخطّطٌ انفصاليٌّ ما شطرين.

أشرب قهوة الصباح بينما أتصفّح الجرائد، فتصدّ العناوين والأخبار شهيتي، وتحول دون تناولي طعام الفطور: خطّة جديدة منحّفة دأبتُ عليها منذ شرعتُ في اتباع ريجيم غذائي. لوجوه قادة بلادي وتصريحاتهم فائدةٌ ما، أفكّر في تفاؤل، وأنا أعلّق صورة احد هؤلاء على البرّاد.

تتصل صديقتي التي لم أرها منذ مدّة. تسألني: "متى نلتقي؟". بعد مشاورات ومباحثات طويلة ومعمّقة، نتفق على أن نلتقي في مقهى X في اليوم Y الذي سوف يلي التفجير Z المقبل، بما أن التكتيك والايقاع المتّبَعين يدفعاننا الى التوهّم (بسذاجة مطمْئِنة) أن ذلك النهار سيكون آمنا، مبدئيا، من أيّ عمليات إرهابية.

أقصد سيارتي لأذهب الى العمل. قبل أن أدير المحرّك، آخذ المرآة الخاصة من الصندوق وأفحص الجيب من تحت، من فوق، ومن الجانبين. لا شيء يثير الشبهات، على حد علمي (المحدود) بقطع الميكانيك وشكلها. فلأنطلق إذاً.

على الاوتوستراد، تقع السيارة في فخّ حفرة كبيرة لم تكن موجودة هناك في الأمس، ثم في حفرة ثانية، فثالثة. تساهم هذه الخضّات المتتالية في تحريك دورتي الدموية، التي قال طبيبي إنها بطيئة نسبياً وتحتاج الى تنشيط. لحُفَر الطرق في بلادي فائدة ما، أفكّر في تفاؤل، وأنا ابحث عن حفرة رابعة تجعل الدماء تصل الى قلبي الذي شلّته سيناريوهات الحرب، وإفلاس المطاعم والمرافق السياحية، وانعدام الأمان، والرعب المتفشّي بين كل خطوة وخطوة، الى آخره.

ثم يحرف انتباهي عن الحُفَر تحويلٌ موقّت (للموقّت في بلادي صفة الثبات والديمومة) بسبب تنفيذ أشغالٍ لبناء جسرٍ من شأنه تسهيل حركة المرور والتخفيف من عجقة السير. أدير الراديو لأنسى الورشة والجسر والعجقة، فتطالعني أغنية لمطربة "لبنانية" شبه شهيرة تهلّل فيها لمن قصف (ويقصف) عمر وطنها ويمصّ دماءه. أتوتّر و"أنرفز"، فيساهم هذا التوتّر في التعويض عن هدوئي الطبيعي الذي يغيظ أفراد عائلتي. لدناءة المطربين في بلادي فائدةٌ ما، أفكّر في تفاؤل، وأنا ابحث عن اغنية ثانية، من العيار "الوطني" نفسه، لمطرب ثانٍ تباهى يوماً بأنه "رايح بكرا ع الجيش"، ولثالث اشتهر بدعوته الى تقصير التنانير. هكذا دواليك.

أصل الى باركينغ المكتب فتطلّ المرآة الفاحصة بين أيدي الحرّاس من جديد. أمارس واجباتي في العمل محاولةً التركيز قدر الامكان على ما أقوم به، والزعم أن كل شيء "طبيعي" و"ماشي"، وتناسي احتمال أن يتم "تحرير" المنطقة حيث أشتغل، لضرورات "وطنية" و"قومية"، فأصير في حاجة الى "فيزا" للوصول إليها.

أغادر مكتبي عند الخامسة وأقرر الذهاب الى السوبرماركت. طبعا أؤدي صلاة "الحلّة الأخيرة" على الدرب لأني، بحسب الشائعات الضاربة في البلد، قد أموت شهيدةَ علبة مسحوق الغسيل التي أريد شراءها. مفقودٌ كلُ من يدخل الى السوبرماركت في هذه الأيام، ومولودٌ الخارج منها. أنظر الى رتل السيارات المركونة في المرأب بتوجّس، ونحدّق، أنا وأصحابها، شزراً الواحد منّا في الآخر. كل سيارة في بلادي مشروع انفجار. كل باص مؤامرة.

تمرّ طفلة في الخامسة في الممشى قربي، حاملةً على ظهرها حقيبة ملوّنة. تنظر إليَّ فأرتعب. من يعرف ماذا تحمل في حقيبتها؟ من يدري إلى أيّ حزب أو جماعة أو منظمة تنتمي؟ ألم يعرضوا على التلفزيون ريبورتاجا عن تلك الطفلة النابغة، جورجيا براون، التي يبلغ معدل ذكائها 152 وهي لم تتجاوز السنتين؟ ثم أروح أفكّر في معدلات الذكاء لدى بعض زعمائنا (وأتباعهم، أتباعهم خصوصاً)، وأكاد أقهقه وحدي أمام رفّ المعلّبات. لبلاهة الجماعات في بلادي فائدةٌ ما، أفكّر في تفاؤل، وأنا أركض خارجةً بفرح، لأني نفدتُ، هذه المرّة أيضاً، بجلدي.

أعود الى المنزل منهكةً. أدير التلفزيون كي أرتاح قليلاً من عناء النهار، فيصفع عينيّ ومسامعي برنامجٌ حواريّ يتلاكم فيه أحد أنصار "عذراء قريش"، ممن هم معدومو الحسّ النقدي والقدرة على المساءلة، مع أحد أنصار ماكيافيل، ممن هم معدومو الضمير والذمّة. افكّر كم أن السلطة لا تلبق للاهثين وراءها، مثلما لا تلبق للطوباويين والمثاليين، ولا، خصوصاً، لمدّعي الطوباوية والمثالية.

تضعف شهيتي من جديد أمام مدّ النفاق العارم هذا، فأستغني بسعادة عن وجبة العشاء، وأنام خفيفةَ المعدة قريرة العين، شاكرةً ربّي لأني لم أُقتَل ولم أشوَّه ولم أُشرَّد بعد، الى ان يوقظني من جديد، عند فجر اليوم التالي، الكابوس اللعين إياه...

تتشابه أيامي، أنا المواطنة اللبنانية العادية. بشعةً تتشابه. خائفةً رتيبةً مؤلمةً يائسةً مضنيةً مكروبةً بائسةً محبطةً مهدورةً مسحوقةً تتشابه. ولا مناص.

أقرأ أيضاً: