والسواد مجمعٌ للبصر لأنه من جنس الماء

المقاساتصدرت في القاهرة طبعة جديدة لكتاب "المقاسات" لأبي حيان التوحيدي شرح وتحقيق حسن السندوبي، هذا الكتاب الذي يصدر من ضمن سلسلة التراث وفي إطار "مكتبة الأسرة" في القاهرة يعتبر من أهم الأعمال التي وضعها الكاتب والفيلسوف العربي الكبير أبو حيان التوحيدي.

هنا مقتطفات من "المقاسات".

(في أن تقرير لسان الجاحد أشد
من تعريف قلب الجاهل)
قلت لأبي سليمان: لم قيل تقرير لسان الجاحد أشد من تعريف قلب الجاهل؟

فقال: لأن تعريفك يوصل إلى قلبه مرادك من غير أن يقدر على محاجزتك بالمنع والامتناع، وذلك أنه لا حجاب على قلبه ولا حاجز دون عقله، وليس هكذا تقريرك للسانه، لأنه ينكر به ما يعرف بقلبه، ويميل إلى البهت، شرّاداً على الحق، وذهّاباً مع العنت، واللسان يطاوعه على السكوت، والقلب لا يطاوعه على الجحود.

قيل له: قد يكون دون القلب أيضاً كِنّ الجهالة، وغطاء الغباوة وضباب البلادة، فلا يكون تعريفك موصلاً إليه مرادك.

فقال: متى كان الأمر على هذا لا يكون قلبه جاحداً، إنما يكون بما يرد عليه جاهلاً، وإنما استقام الكلام الأول على قلب عُرّف فعرف، فكان التعريف أسهل على القلب من الإقرار على اللسان، واستشهد فكذب، فكانت ذات برهان واضح، فمن المحال أن يقال بعد هذا: قد يكون دون القلب مانع، كما يكون دون اللسان مانع، لأن ما حددنا به المسألة قد فصل الحال، وبين المراد.

(في النثر والنظم وأيهما
أشد أثراً في النفس)

قال أبو سليمان، وقد جرى كلام في النظم والنثر: النظم أدل على الطبيعة، لأن النظم من حيز التركيب. والنثر أدل على العقل، لأن النثر من حيز البساطة. وإنما تقبلنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور لأنا للطبيعة أكثر منا بالعقل، والوزن معشوق للطبيعة والحس؛ ولذلك يفتقر له (عند) ما يعرض استكراه في اللفظ. والعقل يطلب المعنى، فلذلك لاحظ للفظ عنده وإن كان متشوقاً معشوقاً. والدليل على أن المعنى مطلوب النفس دون اللفظ الموشح بالوزن المحمول على الضرورة؛ أن المعنى متى صور بالسانح والخاطر وتوفى الحكم لم يُبل بما يقويه من اللفظ الذي هو كاللباس والمعرض والإناء والظرف. لكن العقل مع هذا يتخير لفظاً بعد لفظ، ويعشق صورة دون صورة، ويأنس بوزن دون وزن، ولهذا شقق الكلام بين ضروب النثر وأصناف النظم. وليس هذا للطبيعة؟ بل الذي يستند إليها ما كان حلوا في السمع، خفيفاً على القلب، بينه وبين الحق صلة، وبين الصواب وبينه آصرة، وحكمها مخلوط بإملاء النفس، كما أن قبول النفس راجع إلى تصويب العقل.
ثم قال: ومع هذا ففي النثر ظل النظم، ولولا ذلك ما خف ولا حلا ولا طاب ولا تحلا، وفي النظم ظل من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذبت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه.
وقال كلاماً أكثر من هذا. وقد أخرته إن شاء الله لرسالة معدودة في الكلام على الكلام، ثمرة هذا بتمامه فيها مع سائر ما يكون لها بشرح تام وعناية بالغة، إن ساق الله إلى غايتها، ورفع هذا الفساد الذي قد منع من كل ما تهمّ النفس به من الخير، وصدّ عن كل ما يكون سبباً للسعادة. ولا ملجأ إلاّ إلى الله في كشف هذه الضراء، وإماطة هذه اللأواء، فهو أول كل خير، وميسر كل طالب وناصره.

(في أن النفس قابلة للفضائل
والرذائل والخيرات والشرور)
قال أبو سليمان، وأنا أقرأ عليه كتاب النفس للفيلسوف سنة 371 إحدى وسبعين وثلثمائة بمدينة السلام.

إن النفس قابلة للفضائل والرذائل، والخيرات والشرور، والأخلاق التي تعسر من وجه (في) تهذيبها ويأتي ذلك من وجه آخر لعلة عجيبه، ولذلك أن الحيوانية منه للإنسان أخلاقاً، وهي لا تستحيل ولا تتغير. وللناطقة أيضاً أخلاق تترقى بها وتكمل، فما أخذ من الأخلاق في طريق الطهارة والصفاء، فهو في قبيل القوى الناطقة، وما صعب منها، فهو (في) قبيل الحيوانية. وليس يجب على الناظر المتحرز، والمجتهد المتعزز، أن ييأس من صلاح ما يمكن صلاحه لتعذر ما لا يمكن ذلك فيه. وقد شفى الكلام في هذا الباب أبوزيد البلخي في كتابه الذي سماه "باختيار السيرة" ومن استوعب ذلك بفهمه وتذوقه بعلمه لحظ من هذا الباب أبعد مرام، وفاز الشيء من جهة علته المحيطة به، فإذا لم يكن الشيء علة فلا محالة أنه غير مدرك.
وقال عيسى بن علي: الملك بحق من ملك رقاب الأحرار بالمحبة.
وقال الصابي: قال ثابت بن قرة: الخرافات توجد من أربعة أشياء، وهي: عجائب البحر، وحديث السحر، وحديث العشق، وحديث الجن.

(في أن البياض ينشر
البصر والسواد يجمعه)

قال أبو سليمان: قال بعض الطبيعيين: البياض ينشر البصر، لأنه من جنس النار. والسواد مجمع للبصر، لأنه من جنس الماء.

قال: وقال آخر: الفصل بين الجوهر والعرض أن الجوهر لا يقبل الزيادة ولا النقصان، والعرض يقبلهما.

وقال: كل خير حسن، وليس كل حسن خير.

وقال: كلما فعلته النفس بالأدب، فعلته الطبيعة بالعادة، وفعله العقل بالتقبل، وفعله الباري بالجود.

وقال: الغضب يتحرك من داخل إلى خارج، والحزن يتحرك من خارج إلى داخل.

وقال بعض الأوائل: معرفة الدواب أولادها بالراحة، ومعرفة الطير أفواخها بالألوان، ومعرفة الناس بالصورة.

وقال: متى كانت الحركة بشوق طبيعي لم تسكن البتة، ومتى كانت باختيار جاز أن تتحرك مرة وتسكن أخرى.

وقال سقراط: إن لم تكن لي استطاعة فإني مُحرِّك غير مُحرَّك.
ثم قال أبو سليمان: هو مُحرِّك إذا كان مُحرَّكاً، لأنه مُحرَّك. فقيل له: قد نظن بالباري إذا كان مُحرِّكاً أن يكون مُحرَّكاً لأنه يُحرِّك؟ فقال: لا يجب هذا لأمرين: أحدهما أن في القسمة قد تبين أن ها هنا محركا، لأن في مقابلته محرك غير محرك، والثاني أن معقولنا من قولنا البارى محرك الأشياء لأنها تنحوه وتصمد إليه وتنشوقه وتفعل به وتنفعل له، لأنه تقدس وعلا يوسم ما يوسم به أصناف ما تحرك أو محرك.

وقال بعض الأوائل: ألعلم والعمل حدا الفلسفة، وكل واحد منهما بين ضدين:
فالعلم بين الصدق والكذب، والعمل بين الخير والشر. ثم قال: هذه الرذائل كلها إعدام ـ هذا لفظه ـ فمن ألفها واستعملها وانقاد لها وغلب عليها فقد أعدم نفسه وعدمها وعدم معها واضمحل فيها، والعدم حال سيئة مكروهة فاحشة، لا يأتي عليها نعت وأن كان بليغاً، ولا يحيط بها قول وإن كان شافياً. فإما الفضائل فعلى خلاف هذه كلها؟ هي موجودة ولها الوجود المستفاد من الوجود الأول. فمن اقتناها واستعملها وراض نفسه بها اليها، وأجرى عادته عليها، وألان عريكته لها، إنقطاعا عما عداها وانقطع إليها، وكمل مناقصه بالازدياد منها، بقي موجوداً بوجودها، وجوداً لائقاً به على قدر اشتماله عليها، وتصريفه لها، وإمعانه فيها، فما ظنك بحال توضح لك الفصل بين الموجود والمعدوم، وترشحكم لنيل ملك عظيم، وتحليك للظفر بشأن جسيم، وتوقفك على صراط الله المستقيم؟

ثم قال: وليس في التحلي بالحكمة تعب كثير، قد والله شاهدنا قوما تحملوا آلاما كثيرة وركبوا أهوالاً عظيمة لسبب أغراض باطلة، وأعراض زائلة، ولسبب هوى سول لهم، وقرين أغواهم، واعتقاد رديء غلب عليهم، وشيء حقير تعجلوه بشهواتهم! وطلب السعادة بإصلاح السرير وانتحال الصواب أهون من ذلك أجمع. فلا يصدنك عن سلوك هذه المحجة البيضاء أمر مبهم، ولا حال مستعجمة، فإن فيما تدركه وتشرف عليه وتنال الروح به خلفاً كثيراً وفائدة عظيمة. فلا تكل نفسك إلى اختيار السوء، والى قرناء السوء، فإنك إن فعلت ذلك خسرت خسرانا مبينا وضللت ضلالا.

في حقيقة
الضحك وأسبابه
سألت أبا سليمان عن الضحك: ما هو؟
فأملى فقال:

الضحك قوة ناشئة بين قوتي النطق والحيوانية، وذلك أنه حال للنفس باستطراق وارد عليها. وهذا المعنى متعلق بالنطق من جهة، وذلك الاستطراق إنما هو تعجب، والتعجب هو طلب السبب والعلة للأمر الوارد، ومن جهة تتبع القوة الحيوانية عند ما تنبعث من النفس، فإنها إما أن تتحرك إلى داخل، وإما إلى خارج. فإما أن يكون دفعة فيحدث منها الغضب، وإما أولاً وأولاً باعتدال فيحدث السرور والفرح. فإما أن تتحرك من خارج إلى داخل دفعة فيحدث منها الخوف، وإما أولا فأولا فيحدث منها الاستهزال وإما أن تتجاذب مرة إلى داخل، ومرة إلى خارج، فيحدث منها أحوال أحدثها الضحك عن تجاذب القوتين في طلب السبب، فيحكم مرة أنه كذا ومرة أنه ليس كذا، ويسرى في ذلك الروح حتى ينتهي إلى الغضب فتحرك الحركتين المتضادتين، وتعرض منه القهقهة في الوجه لكثرة الحواس، ويعلو الضغب واحداً واحداً منها.

في الفرق
بين الوحدة والنقطة

وإملأ على أيضا: الفرق بين الوحدة والنقطة أن الوحدة هي نقطة مالا وضع لها، والنقطة هي وحدة ما لها وضع. فالوحدة هي مبدأ الواحدية وهي الكم المنفصل بمنزلة العدد المؤتلف من الوحدات التي تجتمع من غير اتصال أحداتها بالأخرى. والنقطة هي مبدأ الكم المتصل بمنزلة الخط الذي يتصل أجزاؤه بعضها ببعض بحد مشترك هي النقطة. فالنقطة إذاً هي وحدة ما لها وضع، والواحد هو نقطة مالا وضع لها. ولذلك ما كان وجود الوحدة موضوعها النفس في التوهم. ووجود النقطة موضوعها الجوهر الطبيعي. ومتعلقاً بالحس وإن كان متعلقها بتوسط الحس.

في التضاد
بين السلب والإيجاب

أملى على أبو سليمان فيما أملى: ألسلب هو نفي شيء من شيء، والإيجاب هو إثبات شيء لشيء، والحد ليس فيه حكم ولا إثبات شيء لشيء، ونفي شيء عن شيء، لكنه قول دال على أمر دلالة مفصلة، كما أن الاسم دال عليه دلالة مجملة، مثال ذلك: النقطة، فانه سواء قلت شيء مالا جزء له، لا حكم فيه. وأما إن جعلت أحدهما موضوعاً والأخر محمولا، حتى تقول النقطة هي شيء ما لا جزء له، وله يصير حينئذ الحد محمولاً على النقطة، وتختلف دلالته عما كان عليه.

في ماهية البلاغة والخطابة وهل
هناك بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟

سألت أبا سليمان عن البلاغة ما هي: وقلت: أحببت أن أعرف قولاً على نهج هذه المطابقة لأن لهم كتاب الخطابة في عرض كتاب الفيلسوف (أرسطو) وقد بحثوا عن مراتب اللفظ واللفظ (و) طبائع الكلمة والكلمة، موصلة ومفصلة، وخواتيم، أحق ما اعتمد؟

فقال: هي الصدق في المعاني مع ائتلاف الأسماء والأفعال والحروف، وإصابة اللغة وتحرى الملاحة المشاكلة برفض الاستكراه ومجانبه التعسف فقال له أبو زكريا الصيمري: قد يكذب البليغ ولا يكون بكذبه خارجاً عن بلاغته؟

فقال: ذلك الكذب قد ألبس لباس الصدق، وأعير علمه حلة الحق، فالصدق حاكم، وإنما رجع معناه إلى الكذب الذي هو مخالف لصورة العقل النظام للحقائق، المهذب للأعراض، للقرب للبعيد، المحضر للقريب فقلت لأبي سليمان: فهل بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟

فقال: هذا لا يبين لنا إلا بأن نتكلم بجميع اللغات على مهارة وحدق، ثم نضع القسطاس على واحدة واحدة منها حتى نأتي على آخرها وأقصاها ثم نحكم حكماً بريئا من الهوى والتقليد والعصبية والمين، وهذا ما لا يطمع فيه إلا ذو عاهة؟ ولكن قد سمعنا لغات كثيرة من أهلها، أعني من أفاضلهم وبلغائهم، فعلى ما ظهر لنا وخيل إلينا لم نجد لغة كالعربية، وذلك لأنها أوسع مناهج، وألطف مخارج، وأعلى مدارج، وحروفها أتم، وأسماؤها أعظم، ومعانيها أوغل، ومعاريفها أشمل، ولها هذا النحو الذي حصته منها حصة المنطق من العقل، وهذه خاصة ما حازتها لغة على ما قرع آذاننا وصحب أذهاننا من كلام أجناس الناس، وعلى ما ترجم لنا أيضاً من ذلك؛ ولولا أن النقص من سوس هذا العالم وبؤسه لكان علم المنطق بهيئة الطبيعة بالعربية، وكانت بسوق العربية إلى طبائع اليونانية، فكانت المعاني طباقاً للألفاظ والألفاظ طباقاً للمعاني، وحينئذ كان الكمال ينحط إليه عن كثب، والجمال بصادفه بلا رغب ولا رهب.

قال أيضاً: أصل الدور بعد الدور، والكور بعد الكور، ينسيان هذا الذي شمناه لقوم يكونون بعد ما فات العالم، مشتاق إلى الكمال، ومشتاق إلى الجمال، عندهما يكون الغاية، وإليهما تقف النهاية.

وقال: ومما يوضح هذا الشكل، وبين هذا المجمل، صورة العالم، فكل وقت وساعة على حال لم يكن عليها قبل ذلك بما يفيض عليه ويسرى إليه من الحق الأول والوسائط الأولى بالجود الأعظم والأشمل، وإذا كان للعالم ولكل ما فيه صورة محدودة وشكل فاضل يصير في كل وقت ولحظة إلى هيئة لم تكن عليها من قبل، فهل ذلك إلا لأن العالم متوجه نحو الكمال والجمال ينالهما حالاً فحال؟ ثم يكون له بجود الحق الأول مبتدأ به يتحدد ويسوقه وتمتد عليه نقلته من غير انفعال يتوسط ولا نحو أمر يعرض، وهذا المبدأ مفروض، وإلا فالحال متصلة اتصال الواحد بالواحد من حيث يلحظ ما هو واحد، اتصال الوحدة بالوحدة من حيث يلحظ ماله وحدة.

وقال أيضاً: وهو الذي أشرنا إليه: العالم إنما هو من ناحية قبوله وانفعاله وما هو بسبيله، وإلا فالجود الأول هو الجود الثاني، والثاني هو الأول، ومصاكته بالحركة الارادية للهواء.

يقال

يقال: ما الشعر: الجواب: كلام مركب من حروف ساكنة ومتحركة، بقواف متواترة ومعان معادة، ومقاطع موزونة، ومتون معروفة.

يقال: ما الغناء؟ الجواب: شعر ملحن داخل في الإيقاع والنغم الوترية منعطفة على طبيعة واحدة ترجع مشاكلة إليها.

يقال: ما الإيقاع؟ الجواب: فعل يكيل زمان الصوت بفواصل متناسبة متشابهة متعادلة.

يقال: ما اللحن؟ الجواب: صوت بترجيح خارج من غلظ إلى حدة ومن حدة إلى غلظ، بفصول بينة السمع واضحة للطبع.

يقال: ما النغم الوترية؟ الجواب: استحالة الصوت من نسبة شريفة إلى نسبة غير شريفة المقاطع، ومواضع استراحات الأنفاس، مع تمام دور من أدوار الإيقاع.

يقال: ما الطنين؟ الجواب: هو رجوع الهواء من جرم المقروع إلى جزء منه، وذلك أن الجرم العميق الأملس إذا قرعه شيء نبا عنه ثم عاد إليه كالكرة إذا ضرب بها الأرض. وكذلك الصدى من المتكلم.

يقال: ما الجدل؟ الجواب: مباحث مقصود بها إيجاب الحجة على الخصم من حيث ألا يقوى، ومن حيث لا يقدر أن يدفع.

يقال: مال المحال؟ الجواب: الجمع بين المتباينين في شيء ما في زمان واحد وجزء واحد، وإضافة واحدة. وسمعت أبا سليمان يقول: المحال لا صورة له في النفس، فقيل له: الباري في هذا ما يقول فيه أمجال هو؟ فقال: لا، لأن عليه شهادة من العقل، فبشهادته ثبتت أنيته، وبارتفاع صورته تفقت كيفيته، وهذا غير التوحيد.

وقد مر كلام في التوحيد عن هذا الشيخ وعن غيره على سعة أطرافه وضيق عباراته، فلا وجه للاطلالة في هذا الموضع، ولولا أن هذا القدر كالبيضاء ما اقترن به واشتمل عليه، لكان تركه أولى، وعلى كل حال ففيه تحديد لهذا الباب وبعث ما تنزع النفس إليه من هذه الحقائق، وليسمن فصل في هذه الرسالة ألا وهو متحل بضروب من البيان وأصناف من القول، ولكن الاقتصار أليق بالحال، وأحسم لمادة الشغب والجدال.

يقال: ما الكون؟ الجواب: خروج الشيء من القوة إلى الفعل.
يقال: ما الفساد؟ الجواب: خروج الشيء من الفعل إلى القوة.
يقال: ما الجمع؟ الجواب: انضمام المادة إلى نفسها وتلاقي أجزائها.
يقال: ما الانفراد؟ الجواب: انفصال المادة بأقسام لطيفة صغيرة القدر.
يقال: ما الباطل؟ الجواب: هو ما به نافى الموجود هو ما هو.
يقال: ما الخير بالحقيقة؟ الجواب: هو ما يراد بالاستعارة لذاته.
يقال: ما الشر؟ الجواب: هو ما يهرب منه لأجل ذاته، وأيضاً الشر هو ما يهرب منه لأجل أنه يؤدي إلى الاستعارة (و) إلى ما يهرب منه لأجل ذاته.
يقال: ما الذكر؟ الجواب: إحضار الذهن ما تقدم وجوده في النفس.
يقال: ما الذهن؟ الجواب: جودة التمييز بين الأشياء.
يقال: ما الذكاء؟ الجواب: سرعة الانقداح نحو المعارف.
يقال: ما التواني؟ الجواب: هو ناهية الفكر.
يقال: ما الشك؟ الجواب: هو تردد النفس بين الإثبات والنفي.
يقال: ما الارتياء؟ الجواب: (هو) تجارب.
يقال: ما اليقين؟ الجواب: (هو) مطابقة العقل معقوله.
يقال: ما العلم؟ الجواب: هو وجدان النفس المنطقية الأشياء بحقائقها.
يقال: ما الحكمة؟ الجواب: هي حقيقة العلم بالأشياء القائمة ووضع كل شيء في موضعه الذي يجب أن يكون فيه الوضع فقط.
يقال: ما التمييز؟ الجواب: هو جمع القضايا واستخراج النتائج.
يقال: ما العزم؟ الجواب: الرأي على العقل.
يقال: ما اليقين؟ الجواب: سكون الفهم مع ثبوت القضية ببرهان، وأيضاً هو وضوح حقيقة الشيء في النفس.

يقال: ما المعرفة؟ الجواب: هي رأي غير زائل. والرأي هو الظن مع ثبات القضية عند التأدي فهو اذاً سكون الظن.
يقال: ما الجزم؟ الجواب: هو قوة تحدثها قوة الثقة بأوائل الأمور مع سكون الظن بعواقبها.
يقال: ما الوهم؟ الجواب: هو الوقوف بين الطرفين لا تدرى في أيهما القضية الصادقة.
يقال: ما التوهم؟ الجواب: هو موافقة الظن العقل من غير إثبات حكم.
يقال: ما التصور؟ الجواب: هو حصول صورة الموجودات العقلية في النفس.
يقال: ما الذكر؟ الجواب: هو سلوك النفس الناطقة إلى تلخيص المعاني ومعرفة ماهياتها.
يقال: ما الحفظ؟ الجواب: هو ثبات صور المعقولات والمحسوسات في النفس.
يقال: ما الحس؟ الجواب: هو قبول صور المحسوسات دون حواملها.
يقال: ما التخيل؟ الجواب: هو حصول صور المحسوسات بعد مفارقتها وزوالها عن الحس.
يقال: ما الإدراك؟ الجواب: هو تصور نفس المدرك بصورة المدرك.
يقال: ما المعرفة؟ الجواب: هي إدراك صور الموجودات مما يتميز عن غيرها، وهي بالمحسوسات أليف لأنها تحصل بالوسم، والوسوم مأخوذة من الأعراض والخواص، والعلم بالمقبولات أليق لأنه يخصك بالحدود والمعاني الثابتة للشيء.
يقال: ما الاُسْتُقُصّ؟ الجواب: هو ما يكون فيه الشيء ويرجع إليه منحلاً منه، الكائن بالقوة.
يقال: ما الصورة؟ الجواب: هي التي بها الشيء هو ما هو.
يقال: ما المكان؟ الجواب: هو حيث التقى الأفقان، المحيط والمحاط به.
وأيضا هو ما بين سطح الجسم الحاوي وانطباقه على الجسم الحوى.
يقال: ما الزمان؟ الجواب: هو مدة تعدها الحركة ثابتة الأجزاء.
يقال: ما الجرم؟ الجواب: هو ماله ثلثة أبعاد: طول وعرض وعمق.
يقال: ما الكثرة؟ الجواب: هي انفصال الهيولى بأقسام كثيرة عظيمة القدر.
يقال: ما الملازمة؟ الجواب:هي إمساك نهايات الجسمين بجسم ثالث بينهما.
يقال: ما الاجتماع؟ الجواب:هو حال تقارب الأجسام بعضها من بعض.
والافتراق وتباعدها.
يقال: ما الحال؟ الجواب: هو كيفية سريعة الزوال.
يقال: ما الاتصال؟ الجواب: هو اتحاد النهايات، والانفصال تباين المتصلات.
يقال: ما الرطوبة؟ الجواب: هي علية سهولة انحصار الشيء بذات غيره وغير انحصاره بذاته، وأيضا هي الكيفية التي لا تحيط بشكل الجسم الذي هي فيه على شكل محدود ولا تمنعه أن يتشكل بشكل ما يحيط به بسهولة .
يقال: ما اليبس؟ الجواب: هو علة انحصار الشيء بذاته وعسر انحصاره بغيره، وأيضا هو الكيفية التي تحفظ شكل الجسم الذي هي فيه حتى لا يتشكل بشكل ما يحيط به بسهولة.
يقال: ما الشجاعة؟ الجواب: هي قوة مركبة من العز والغضب تدعو إلى شهوة الانتقام. الجبن ضده.
يقال: ما الفرح؟ الجواب: هو انبساط النفس من داخل إلى خارج على المجرى الطبيعي والخوف ضد ذلك.
يقال: ما العجول؟ الجواب: هو الذي لا يقنع ما يتخيل في وهمه تخيلاً ضعيفاً من غير نظر ولا فحص. والغيظ هو ابتداء الغضب.
يقال: ما الركيز؟ الجواب: هو الذي تكون العزيمة منه مع تميز وتفكر.
يقال: ما الحسود؟ الجواب: هو الذي لايحب لأحد خيراً، ويجتهد في الأضرار بهم وبنفسه كي يلحقهم بذلك مكروه.
يقال: ما الذحل؟ الجواب: هو حقد يقع معه رصد الفرصة والانتقام.
يقال: ما الحقد؟ الجواب: هو غضب يبقى في النفس على وجه الدهر.
يقال: ما الغضب؟ الجواب: هو غليان دم القلب لشهوة الانتقام، وهو الحركة لقهر ما أضر بالبدن.
يقال: ما العجب؟ الجواب: هو ظن الإنسان بنفسه أنه على الحال التي يجب أن يكون عليها من غير أن يكون عليها.
يقال: ما الرضى؟ الجواب: هو قناعة النفس بما كانت غير قانعة به.
يقال: ما الحياء؟ الجواب: هو خوف الإنسان من تقصير يقع من هذا فضل منه في شيء ما أوفى كل شيء.
يقال: ما الاستطاعة؟ الجواب: هو التهيؤ لتنفيذ الفعل بإرادة المختار من غير مانع ولا عائق.
يقال: ما الشهوة؟ الجواب: هي التشوق على طريق الانفعال إلى استرداد ما نقص بما في البدن، وإلى نقص ما زاد فيه.

المستقبل
22 تشرين الثاني 2006