شكيل الرحمن

ترجمة هاني السعيد

جلال الدين  كان من بين الواقفين الذين يرجمونه بالحجارة رجل يعرِف المنصور حقَّ المعرفة، ويَعِي أيضاً ما يقوله، ولِمَ يرقص وهو متَّجهٌ صوب المشنقة، كما يعرِف أيضاً لِمَ تتجاوبُ أصداء صوت "أنا الحق"". لقد كان يعلم أنَّ المنصور برئ؛ فأَنَّي لحسين بن منصور الحلاَّج أن يكون هناك، ما هنالِك سوي صوت الله. وما رقصُ الحلاج إلا حركةً مترنِّمة لهذا الصوت، وما ينبثق عنه من وَجد إنما هو أثره الفعَّال.
تقدَّم هذا الرجل - الذي كان واقفاً بين الرَّاجمين بالحجارة- إلي الأمام، و رجم المنصور مترَفِّقاً بوردة جميلة.
ثم تاه بين الناس.. إذ كان يتوجَّسُ أن يلحظ أحدهم هذا الذي رجم الحلاَّج بوردةٍ جميلة وسْط وابل الأحجار.
أما حسين بن منصور الحلاَّج - الذي كان مغموراً بدمائه وسْط معمعة الرَّجم المتلاحق.
هذا الذي كان يحتفل راقصاً بأبهج فرحةٍ في حياته.
هذا الذي كان يضحك بلا انقطاع، و ما زال يسير كما هو ضاحكاً.
- إذا به يصمت علي نحو مفاجئ.
ثم راحت الدموع تتقاطر من عينيه.
ولما استخبره أحد الواقفين إلي جواره قائلاً: "لقد كنت تضحك لتوِّك، و علي الرَّغم من انغماسك في الدماء كان رقصك متواصلاً ، وصوتك صَدَّاحاً. فما الذي أصابك بغتة حتي تبكي؟"
و لِمَ أجهشت بالبكاء فجأة بعد أن رجمك أحدهم بوردة؟

ردَّ عليه المنصور بقوله:
" إنَّ الرجل الذي رجمني بالوردة يعلم أنني بريء، لكنه لم يجرؤ علي أن يقول - أمام كل هؤلاء الناس الذين يرجمونني بالحجارة-: إن المنصور بريء، إنهم يرجمونني لأنهم لا يعلمون، وأنا أدعو الله لهم قائلاً: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. إن هؤلاء الذين يرجمونني بالحجارة تباعاً ويدمون جسدي هكذا دون أن يعرفوا الحقيقة كلهم أبرياء، أخبرني أنت! بماذا أناجي الله في شأن هذا الرجل الذي يوقن ببرائتي، ولكنه لم يجرؤ علي المجاهرة بها، ماذا أسأل الله له؟ إنما تتقاطر الدموع من عيني؛ لأنه إن كان قد رجمني بوردة فهذا لعلمه ببرائتي، غير أنه لم يستطع أن يستبسل ليصارح الناس بأن المنصور بريء!"
قال مولانا الرومي: يرقص البواسل في دمائهم .....
وينقر مطربوهم الدفوف داخلهم، فتصفق البحور مع تصاعد نشوتهم، إنك لم تر الأوراق علي الأغصان، يصفقن راقصات بهفهفات الصَّبَا، لا تراها أنت لكن من أجل سماعهم تصْطَكّ الأوراق مصفقات علي الأغصان، لا تبصر عيناك رقص الأوراق، ولا يتناهي إلي سمعك تصفيقها.
إن صوفياً مثل المنصور حين يرقص في دمائه المتدفقة أثناء سيره نحو المشنقة لا بد أن رقصه هذا ينطوي علي رقص العناصر والأشياء كلها، ويكتنز بداخله ألحانها وإيقاعاتها، وما مثل هذا الرقص إلا رقص تجربة حياة مدهشة للغاية، وهو يرمز إلي الفرحة والبهجة والاحتفاء بالحياة؛ ففي هذا الرقص يتناثر بهاء الحياة في شتي الأرجاء، إنه رقص ينبع من أعماق الباطن حيث أولئك المنشدون الذين ينقرون الدفوف داخل الوجود فيتناهي صوتها إلي كل مكان في الخارج. وهذا بُعد رفيع وبالغ الوضوح لجماليَّات التصوُّف وسمو رومانسيته وسعتها وعمقها والتباسها.
والبُعد الثاني هو: أفش سر كل الأسرار!
يكمن جمال و جلال و رومانسية البعد الأول في أن المنصور قد صعد إلي المشنقة راقصاً وهو يحمل تجربته الحافلة بالأسرار والعامرة بالأنوار بكل ماهيتها، وظل سرُّها كما هو سراً لم يُفش أو ينكشف، وظلت الأسرار المكنونة لكل ما استلهمه وجدانه كما هي أسراراً؛ فهي محض همسات هُمست عن جمال وجلال خالق الأكوان، ظل سرُّها دفيناً كما هو في صدره.
أما جمال وجلال ورومانسية البعد الثاني فيتجلَّي لنا في قول مولانا الرومي:
أفش سر كل الأسرار!
ثم إنه يعرِّفنا رويداً رويداً حقائقَ الحياة وخبراته الوجدانية. فهو راقص يعتريه الوجد، وهو أيضاً يدور ويدور. ويُسمي بالدرويش الراقص لابتكاره تقليد هذا الرقص. يشرح لنا وجود الإنسان وحقائق الحياة فيقول ما يعني أن:
أول كل إنسان صورته ثم تليها روحه التي هي جوهر جمال سريرته،
وأول كل فاكهة صورتها ثم تليها لذة مذاقها التي هي جوهر غايتها.
>>>
نبّه مولانا الرومي علي قوة الباطن وعطر الوجود بأشكال شتي، يقول: مثلما يحتاج الرشا إلي آثار خطوات الغزالة أمه لبعض الوقت ثم يغدو جراب المسك في الغزالة ذاته دليله، كذلك أيضاً يتعرَّف الإنسان علي عطر وجوده شيئاً فشيئاً حتي يصير عطره دليله.

لا بد أن يثق المرء في وجدانه و "رؤيته" الخاصة، فقوة الباطن وعطر الوجود نعمتان لا مثيل لهما؛ إذ إن:
سير مرحلة واحدة علي هدي المسك في جرابه يفوق تجوال مئات المراحل
عطر الوجود يقرب المرء من الله، فهي علاقة مفعمة بالأسرار بين العطر والعطر، فالعطر الذي محله القلب يصل المرء بالإله الحق، وتُفتَّح به أبواب المعارف، فقلب العارف يكون له باباً وليس جداراً، دُّرّاً وليس حجراً. وما نراه نحن في المرآة يراه العارف قبل ذلك في قطعة من حديد. فقلبه هذا مطلع شموس عديدة.
نقول هذا نحن كاشفي الأسرار والرموز، مهمتنا هي استخراج الأسرار من خزائن الكتمان.
لقد أخبرنا أن العلم هو الثروة العظمي، فبالعلم والعرفان فقط يتمكن الإنسان من مشاهدة وقائع الأحداث في قطعة من حديد، كما يتسني له تذوق عصير الثمار قبل زراعتها، وهو إذ يسير علي هدي المسك في جرابه يتلقي عرفان الإيقاع ووحدة الإيقاع. ولشدة إحساس مولانا الرومي بإيقاع الكون وتناغمه المترع بالأسرار فقد قال: إن آلات الطرب التي صنعها الإنسان تتمازج مع آلات الكون، فثمة علاقة حافلة بالأسرار بين الأصوات الحادة والإيقاعات المهدهدة "للبوق" أو "النفير"، و"للطبلة" أو "النقَّاريه" وبين أصوات وإيقاعات الكون. لقد استلهمنا معازفنا من وحي التموجات العذبة والخلابة التي لمسناها في ألحان الكون، وسواء أكانت الأصوات حادة أم مرتفعة لدرجة تبدو فيها حالة من الصراخ. وسواء أكانت أصوات "بوق" و"نفير" أم أصوات "طبلة " و "نقَّاريه "، أم كانت أصواتاً مشوبةً بالنعومة والهدوء أم أنها تُشيع مجرَّد حالة من الشجن - فإنها جميعاً تُصدِّر لنا إحساساً ما بانسجامها مع الإيقاع الكوني. لقد أسبغ الإيقاع العظيم جمالاً ما علي كل الأصوات، والذين يقفون علي هذا السر هم بالضرورة عاشقون، "فالسماع" غذاء العاشقين؛ إذ لا تنبثق الحركة من الإيقاع العظيم والأعظم إلا في حالة السَّكينة التامَّة للعقل والقلب. فتتَّقد المُخَيِّلَةُ، وتنطلق طاقات العقل والقلب الخفية، وعندئذ تبدأ عملية الفانتازيا؛ إذ كل ما يُبتدع من صور جمالية هو هبة هذه الحركة؛ ذلك أن إيقاع الكون يُؤجِّج نار العشق إلي أقصي ما يكون.
يقول مولانا الرومي: إن القلب قدَّاحة بها نار مستترة، وهي إذ تخرج راقصةً علي أنغام الموسيقي تخلق فضاءات مفعمةً بالوَجد، ما هذا؟ إنه حتماً صدي إيقاع تجلِّيات مركز النور، والرقص المتواصل للألحان في هذه الأجواء هو الذي يُستمد منه عرفان العلائق بين الإنسان والإنسان ومفردات الكون، ندرك مثل هذا العمق المذهل لعاطفة العشق؛ لأنه ما من أحد يستطيع تحليلها أو توضيحها؛ ذلك أنه لا يمكن بحال حصر أبعاد الرقص الذي يتبدَّي لمرآنا، وما يقوم عليه من إيقاع، كما تصعب معرفة أحواله البليغة، حيث تختلف صورته وحالته بالتأكيد في أعماق الوجود؛ إذ تقوم العلاقة بين الرقص والإيقاع كليهما وبين القلب ونار القلب، فتمثُل في الداخل بانوراما "رقص النار" ، وسواء أكان الرقص والإيقاع ماديين أم حدسيين، رومانسيين أم كونيين، فليس من الصعب إدراك أساليب وأحوال "رقص النار". وقد بيّن مولانا الرومي نفسه ماهية مثل هذه التجارب، فقال: إذا لم ننظر إلي "الشكل" و"التجربة الخارجية" فقط بل وفَّقنا بين الحالة الباطنية والتجربة الداخلية للموضوع وبين خيالنا ووجداننا فستتبدي لنا الحقيقة.

اخبار الأدب- 04/01/2014 09:10:39 ص